بدون مقدمات، أو أي مؤشرات سابقة، فجّر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قنبلة من العيار الثقيل هزّت أركان السياسة التركية، عندما أعلن أن الوقت قد حان لتغيير الدستور التركي المطبّق في البلاد منذ عام 1982 عقب الانقلاب العسكري عام 1980، حيث فشلت كل محاولات تغييره بشكل جذري طوال العقود الماضية.
وفي كلمة له عقب اجتماع الحكومة التركية، الإثنين، اعتبر أردوغان الذي كان يتحدث عن حزمة إصلاحات اقتصادية وقضائية ستعرض قريباً على الشعب، اعتبر أن مصدر مشاكل تركيا بالأساس نابع من الدساتير المعدة من قبل الانقلابين منذ عام 1960، في إشارة لدستور 1961 الذي أعد عقب الانقلاب العسكري الذي شهدته البلاد عام 1960.
أردوغان: مصدر مشاكل تركيا بالأساس نابع من الدساتير المعدة من قبل الانقلابيين منذ عام 1960
وقال أردوغان: “لذلك كنا قد قدمنا سابقا مبادرة لصياغة دستور جديد، لكن لم نصل إلى نتيجة لرفض حزب الشعب الجمهوري (المعارض)، والآن قد حان الوقت مجددا من أجل نقاش دستور جديد لتركيا”، مضيفاً: “يمكننا التحرك من أجل إعداد دستور جديد في المرحلة المقبلة حال توصلنا لتفاهم مع شريكنا بتحالف الشعب (حزب الحركة القومية)”، وأوضح أن الحكومة ستبدأ في اتخاذ الخطوات اللازمة في البرلمان بخصوص القضايا التشريعية وفي الرئاسة بخصوص القضايا الإدارية.
من جهته، اعتبر وزير العدل التركي عبد الحميد غُل، أن تصريح أردوغان عن الدستور الجديد “بشرى باعثة للحماسة للجميع”، وكتب عبر تويتر: “إعداد دستور جديد ومدني وديمقراطي الذي يعد أحد الأهداف الرئيسية لإصلاحنا القانوني، سيكون أثمن إرث نتركه لمستقبلنا وأطفالنا”.
وشهد الدستور التركي تغيرات مهمة، انطلاقاً من دستور 1921 الذي تأسست بموجبه الجمهورية التركية الحديثة، وتغييره لاحقاً عقب انتهاء حرب الاستقلال عام 1924، وكتابة دستور جديد عقب انقلاب 1960، وصولاً إلى إشراف العسكر الذين نفذوا انقلاباً عام 1980 على كتابة دستور جديد عام 1982 وهو الدستور القائم حتى اليوم رغم إجراء العديد من التعديلات الجوهرية عليه، إلا أن أردوغان اعتبر أن التعديلات لم تعد قادرة على إنهاء جوهر الدستور الذي أعده الانقلابين وأن البلاد باتت بحاجة ماسة لدستور جديد.
دساتير تركيا
– دستور 1921، وهو دستور قصير وسريع جرى إعداده على عجل إبان حرب الاستقلال مكون من 23 مادة وهو يعتبر الأساس الذي تأسست بموجبه الجمهورية التركية الحديثة عام 1923 وكان ينص على أن الشعب هو مصدر السلطات دون قيد أو شرط.
– دستور 1924، عقب انتهاء حرب الاستقلال وتأسيس الجمهورية ظهرت حاجة ماسة لدستور أوسع وأكثر تفصيلاً يلبي احتياجات البلاد وكان التعديل سهلاً لعدم وجود مواد تقيد التعديلات في الدستور المبدئي عام 1921 وشمل الدستور الجديد تفصيلات تتعلق بالفصل بين السلطات والقضاء وغيرها، وتعرض للتعديل 7 مرات.
– دستور 1961، عام 1960 تولى الجيش التركي إدارة البلاد بعد سنوات من الفوضى الأمنية والاشتباكات والمظاهرات، وتم إدارة البلاد من قبل ما عرفت باسم لجنة الوحدة الوطنية، وبدأ العمل على كتابة دستور جديد تم عرضه للاستفتاء الشعبي والموافقة عليه عام 1961، واعتبر بمثابة دستور أشرف عليه العسكر الانقلابيون.
– دستور 1982، سيطر الجيش التركي على الحياة السياسية في البلاد عام 1980، قبل أن يعلن الأحكام العرفية ويوقف عمل البرلمان والحكومة، وعمل مجلس الأمن القومي العسكري على تشكيل جمعية تأسيسية من أعضائه لكتابة دستور جديد للبلاد، وبعد إعداد مسودة للدستور وافق عليها مجلس الأمن القومي برئاسة كنعان إيفرن وأعلنت دستوراً للبلاد 1982 عقب استفتاء شعبي مثير للجدل ومشاركة محدودة جداً، وهو ما اعتبر دستوراً وضع بإرادة الانقلابيين بشكل كامل.
التعديلات على دستور 1982
على مدى عقود، جرت سلسلة طويلة من التعديلات على دستور 1982 بسبب الكثير من النواقص التي كان يعاني منها في وقت كانت تتجه في البلاد نحو الديمقراطية والانضمام للاتحاد الأوروبي ومحو أثر القوانين التي تعزز تدخل الجيش في الحياة السياسية المدنية، وجرى تعديل عشرات المواد من الدستور سواء من خلال البرلمان بشكل مباشر أو من خلال الاستفتاءات الشعبية التي جرت أكثر من مرة.
أردوغان: روح الدساتير التي وضعها الانقلابيون منذ عام 1961 لم تتغير إلا بكتابة دستور جديد للبلاد
ومن التعديلات التي أجريت على هذا الدستور هو التعديل الذي جرى عام 1987، إلا أن أبرز التغييرات قادها حزب العدالة والتنمية الحاكم والرئيس أردوغان، حيث نظم استفتاءين على تعديلات واسعة عامي 2007 و2010، قبل أن يجري الاستفتاء الكبير على تغيير نظام الحكم من برلماني إلى رئاسي عام 2017. وبالمجمل جرى تعديل أكثر من ثلثي مواد الدستور على مدى العقود الماضية.
ورغم نجاح أردوغان في تمرير سلسلة طويلة من التعديلات على الدستور، إلا أنه أعلن بشكل مفاجئ، الجمعة، أن التعديلات لم تعد قادرة على تلبية طموحات الشعب التركي وأن روح الدساتير التي وضعها الانقلابيون منذ عام 1961 لم تتغير إلا بكتابة دستور جديد للبلاد، فاتحاً صفحة جديدة سجل الحياة السياسية التركية.
آليات إعداد دستور جديد
وبحسب الدستور القائم، فإن هناك آليات محددة لإمكانية إجراء تعديل جزئي أو شامل على الدستور التركي، حيث يشترط في المرحلة الأولى أن يوافق قلق أعضاء البرلمان الـ600 على تقديم طلب رسمي مكتوب لرئاسة البرلمان من أجل بدء العمل على كتابة دستور جديد.
وفي مرحلة ثانية، وعقب جلسات النقاش في اللجان المختصة والمباحثات بين الأحزاب السياسية المتواجدة في البرلمان، ينقل إلى الجمعية العامة للتصويت على الدستور الجديد، الذي يحتاج من أجل تمريره بشكل كامل من خلال البرلمان إلى أصوات ثلثي أعضاء البرلمان، وهو أمر يستحيل على الحزب الحاكم تمريره في الوقت الحالي.
من المبكر جداً الحديث عن مدى قدرة أردوغان على تمرير دستور جديد من خلال البرلمان أو الاستفتاء الشعبي على أن يتضح ذلك تدريجياً خلال الأشهر المقبلة
ولكن في حال نجاح حصول الدستور الجديد على تأييد ثلثي أعضاء البرلمان (أي 400 نائب) فإنه يعرض على الرئيس للموافقة عليه والذي يكون لديه الخيار إما بالموافقة عليه ونشره بالجريدة الرسمية ليصبح سارياً، أو إعادته للبرلمان من أجل إجراء مناقشات أخرى حوله أو طلب الاستفتاء الشعبي العام عليه.
وفي حالة أخرى، وفي حال فشل الحصول على أصوات ثلثي أعضاء البرلمان، فإن الرئيس يكون بحاجة إلى تأييد ثلاثة أخماس أعضاء البرلمان من أجل أن يطلب إجراء استفتاء عام على الدستور، بحيث يكون القرار النهائي للشعب عبر التصويت بنعم أو لا على الدستور الجديد.
وفي التركيبة السياسية الحالية للبرلمان التركي والتحولات المتسارعة في الأحزاب التركية من حيث الانشقاقات وتشكيل الأحزاب الجديدة وما سيؤدي إليه من إعادة رسم خريطة التحالفات السياسية بشكل كبير، فإنه من المبكر جداً الحديث عن مدى قدرة أردوغان على تمرير دستور جديد من خلال البرلمان أو الاستفتاء الشعبي على أن يتضح ذلك تدريجياً خلال الأشهر المقبلة التي ستشهد فيها الحياة السياسية التركية حراكاً كبيراً.
جمال إسماعيل
القدس العربي