ليس العراقيون وحدهم من سينتظرون بايدن طويلا، أملا في أن يفتح ملف بلدانهم ويحل العُقد المستعصية فيها. سينتظره كل الشرق الأوسط، لأن أولى أولوياته الداخل الأمريكي وأزماته الصحية والاقتصادية والاجتماعية. ومع ذلك تبقى ملفات منطقتنا على الطاولة، خاصة ملف العراق، الذي تأبّطه هو شخصيا على مدى أكثر من عقد من الزمن.
فمنذ أن كان يشغل رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي عام 2002، سخّر كل جهده للوقوف خلف الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش في غزو واحتلال العراق. وعندما حصل ذلك عام 2003 صار الرجل هو من يُنصّب ملوك الطوائف والإثنيات ويضغط للدفع بهذا إلى الامام وذاك إلى الخلف. ومع اشتعال الحرب الطائفية، وفقدان القوات الأمريكية السيطرة على العراق، وتكبدها خسائر جسيمة على يد المقاومة العراقية، حاول الهروب إلى تقسيم البلد إلى ثلاث دويلات، على أسس طائفية وإثنية بغية السيطرة عليه.
حقيقة مُرّة في عالمنا العربي هي التعويل في حل قضايانا على الغير، وهو إعلان واضح على أننا أمة بدون مشروع
وفي عام 2014 حينما كان بمنصب نائب الرئيس الأمريكي أوباما، عاد وأكد أن العراق الفيدرالي هو أنسب حل لمشاكله. ومازال عالقا في أذهان العراقيين ذلك الإصرار من قبله على تقديم رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي لولاية ثانية عام 2010، رغم أنه لم يكن الفائز في الانتخابات، التي كان من نتائجها الكارثية على العراق والعراقيين، أن القتل على الهوية صار عقيدة السلطة، وأن ثلث مساحة العراق باتت تحت سيطرة تنظيم «الدولة» بعد هروب فرق عسكرية كاملة أمام عدد محدود من عناصر التنظيم. واليوم ومع وصول بايدن إلى سدة البيت الأبيض، أصبح من المنطقي أن تُثار عدة أسئلة عن ماهية السياسة الأمريكية تجاه العراق في ظل الإدارة الحالية؟ هل مشروع التقسيم أو الأقاليم سيكون حاضرا في عقلية صانع القرار الأمريكي؟ هل ظروف البلد الذاتية والموضوعية عناصر طاردة، أم جاذبة لهذا الطرح؟ وما هي حدود القدرة الأمريكية على تحقيق ذلك؟
وللإجابة على هذه الأسئلة، لا بد من محاولة لفهم السياسة الخارجية الأمريكية رغم عدم الوضوح الكبير لحد الآن. أولا قدّم بايدن ثلاثة أعمدة ستقوم عليها عملية صنع القرار السياسي الخارجي، وهم أنتوني بلينكين وزيرا للخارجية، ليندا توماس سفيرة واشنطن في الأمم المتحدة، وجيك سوليفان مستشارا للأمن القومي. ويعتبر الثلاثة من فريق الموالاة لبايدن حاليا وسابقا لأوباما. ورغم أن مؤهلاتهم وخبرتهم تعطي انطباعا بعودة الانتظام إلى الحياة الطبيعية في السياسة الأمريكية من جديد، لكن نظرية التفوق الأمريكي التي يؤمن بها هذا الطاقم ستقود إلى سلوك سياسي غير متوقع أو متهور أحيانا. وإذا أضفنا إلى هذا سلوك بايدن السابق في ملف العراق، الذي كان يقوم على دفاعه المستميت عن كل الكوارث التي فعلتها الولايات المتحدة وعدم اعتبارها أخطاء، واعتماده على العلاقات الشخصية مع أركان العملية السياسة في صنع السياسات الأمريكية تجاه البلد، التي كان يعتبرها وسيلة أرسخ في إحداث التغيير، فإن ذلك يعطي فكرة أنه عائد من حيث انتهى عهده وعهد أوباما عام 2016. بمعنى أنه سوف يستثمر مجددا في العلاقات التي تربطه مع الفاعلين السياسين العراقيين، وبذلك نكون قد عدنا مجددا إلى السلوك السياسي الامريكي الذي عشناه من عام 2003 وحتى نهاية عهد أوباما.
ما يدفع في هذا الاتجاه هو أن وزير الخارجية الجديد في لقائه مع الكونغرس للحصول على التزكية، لم يتطرق إطلاقا إلى ماهية السياسة التي سينتهجها في ملفي العراق وأفغانستان بالتحديد، هذا أعطى انطباعا بأن الولايات المتحدة تعبت من هذين الملفين، ولا يريد بايدن التموضع فيهما مرة أخرى. وقالها صراحة في كتاب له صدر عام 2017 بأن العراق (أكثر القضايا إحباطا في حياتي). ما تجدر الإشارة إليه هنا، أن عودة بايدن وفريقه مرة أخرى إلى التعامل مع الملف العراقي، لا تعني بالضرورة العودة إلى السلوك السياسي نفسه. صحيح أنه وفريقه لديهم خبرة واسعة بالتعامل مع ملفات الشرق الأوسط، ومنها العراق، لكن لا الشرق الأوسط اليوم هو نفسه الذي تعاملوا معه، ولا العراق كذلك، ما يفرض عليهم تحديث نظرتهم، واستحداث مقاربة جديدة، فقد تغيرت وقائع كثيرة في العراق، أبرزها الاندفاعة الوطنية التي مثلتها ثورة تشرين، والتي أكدت الثوابت العراقية، بأن تكون الهوية الوطنية هي أساس الحكم. كما أعلنت بشكل واضح الرفض المطلق للسياسات الميليشياوية والتبعية لإيران والمطالبة بإسقاط الفاسدين وزعماء الطوائف، الذين كان يعوّل عليهم في صنع السياسة الامريكية في العراق. وكل هذه التحركات كانت مؤشرات سياسية مُكلفة بدليل سقوط ما يقرب من سبعمئة شهيد وآلاف الجرحى، ما يجعل عودة إدارة بايدن إلى فتح مشروع التقسيم غير ممكنة. وبذلك يمكن القول إن ملامح السياسة الخارجية لبايدن في العراق لن تكون مُكمّلة لما انتهت إليه سياسة أوباما.
يذهب البعض إلى القول إن الرئيس الأسبق دونالد ترامب هو من جعل العراق ساحة للصراع مع إيران، وهذا العامل وحده هو الذي جعله في صلب الاهتمام الأمريكي بعد أن تنازلت عنه إدارة أوباما لإيران. صحيح أن رغبة ترامب المستمرة في الإيقاع بإيران رفعت مكانة العراق في الأجندة الأمريكية، بعد أن أصبح هراوة يستخدمها ترامب في معركة أوسع، لكن الاهتمام الأمريكي بهذا البلد سوف لن ينتهي، وسيستمر مع الإدارة الجديدة، فقد جربت واشنطن الانسحاب من هذا الملف، لكنها شاهدت واقعيا كيف أن هذا السلوك السياسي جعل إيران تضع العراق في السياق الأوسع لمصالحها الإقليمية، ومارست عليه يوميا سلطتها بهدف إبعاد المنافسين الإقليميين والدوليين عنه، بضمنهم الولايات المتحدة نفسها. كما رأت واشنطن كيف أن تنازلها عنه دفع طهران للضغط عليها لإخراج قواتها منه، واستخدامه نقطة انطلاق للتأثير في حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، في الخليج والجزيرة والهلال الخصيب، وجعله سوقا كبيرا لبضائعها وتسخير اقتصاده لصالحها، وكذلك مكانة رمزية لها تقابل به القوى الدولية والإقليمية، لذلك لا يمكن لبايدن المجازفة مرة أخرى في التنازل عن العراق لصالح إيران، أو أعطائه هدية لها من أجل التوصل إلى اتفاق في الملف النووي، لأنه خبر جيدا كيف أن ذلك يؤسس لإعطاء المنافسين قوة أكبر على المسرح العالمي، يناكفون بها ويشتبكون مع الولايات المتحدة.
إن مرتكزات السياسية الأمريكية في عهد بايدن ستكون الواقعية السياسية، وليست الليبرالية المثالية، كوسيلة تصاغ بها السياسات الامريكية خلال السنوات الأربع المقبلة. وعليه فإن المتوقع منه التعامل مع الملف العراقي في ضوء الحقائق الموجودة على الأرض، لذلك ربما تكون الأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية التي يعيشها العراق هي المفاتيح التي يتناولها مع فريقه، لصنع سياسة أمريكية تجاه هذا البلد. كما أن التهيئة الجارية الآن للانتخابات المقبلة قد يعتبرها وسيلة أرسخ لإحداث تغيير في العراق وسوف يعمل عليها. هناك حقيقة مُرّة في عالمنا العربي هي أن التعويل في حل قضايانا دائما ما يكون اعتمادا على الغير، وهو إعلان واضح على أننا أمة بدون مشروع. يقول وزير الخارجية القبرصي (إن الشرق الأوسط وجيرانه يجب أن لا يتوقعوا من القوى الخارجية نزع فتيل صراعاتهم). هذا صحيح لأن القوى الخارجية تستثمر في الصراعات لتحقيق مصالحها.
مثنى عبدالله
القدس العربي