منذ أطلق الرئيس أوباما الاتفاق النووي مع إيران، في موعد ما في 2013، تغير الشرق الأوسط بشكل دراماتيكي. وقبيل عودة الاتفاق كموضوع مركزي في السياسة الخارجية الأمريكية، يجدر بنا أن نراجع المبررات التي عرضت لغرض الدفع به إلى الأمام وفحص حضورها في الواقع الحالي. وبشكل عمومي يمكن أن نقسم المبررات التي قدمت في الزمن الحقيقي إلى ثلاثة أصناف: 1. الاتفاق سيمنع إيران من الوصول إلى القنبلة؛ 2. الاتفاق سيخدم المصالح الإقليمية للولايات المتحدة؛ 3. الاتفاق صحيح أخلاقياً ومبدئياً كسياسة خارجية جديدة “للقيادة من الخلف”.
لقد كان المبرر المركزي للدخول إلى الاتفاق هو التطلع إلى إبعاد إيران عن القنبلة. كان يفترض بالاتفاق أن يمنح العالم عشر سنوات تكون فيها سلسلة الإنتاج الإيرانية خاضعة لرقابة متشددة. وترسل مخزونات اليورانيوم فيها إلى خارج الدولة وتجمد منشآت حيوية كأجهزة الطرد المركزي.
عملياً، كما كشف عنه الموساد حين وضع يده على الأرشيف النووي الإيراني قبل نحو سنتين، لم يفِ الاتفاق بمطلبه الأساسي نفسه. فالإيرانيون لم يواصلوا تطوير العلم والبرامج لإنتاج ترسانة نووية فحسب، بل خزنوا مواد إشعاعية وعتاداً كثيراً في مخازن وزعت في أرجاء الدولة. ورغم التعهد بأن الوكالة الدولة للطاقة الذرية ستتمكن من مراقبة تنفيذه بنجاعة، فهي لم تف بذلك. وبالتالي، فإن الاتفاق النووي لم يلبِ التوقعات التي عرضها أوباما، حتى قبل أن تنسحب إدارة ترامب منه في أيار 2018.
لقد كان الاتفاق يستهدف أيضاً تعزيز الاستقرار والسلام في المنطقة. أما عملياً، فنعرف أن ما حصل هو العكس. في صيف 2016 حولت الولايات المتحدة سراً إلى الحرس الثوري مئات ملايين الدولارات بأوراق نقدية بلا علامات، استخدمت لشحن النشاط الإرهابي الإيراني. إلى جانب ذلك، فإن رفع العقوبات عن إيران حرر أموالاً كثيرة لتمويل جماعات ترتبط بإيران في كل المنطقة – العراق، لبنان، سوريا، اليمن وغزة، مما جعل السنوات التي تلت الاتفاق مضرجة بالدماء على نحو خاص.
أما السياسة المعاكسة التي تبناها ترامب فأدت إلى إحدى الفترات الهادئة في المنطقة. فتصفية قائد الحرس الثوري قاسم سليماني كان حدثاً دراماتيكياً حيد جهة مركزية في المنظومة التابعة لإيران في المنطقة. وبالتوازي، مست العقوبات التي أعيدت بالاقتصاد الإيراني وتركت صندوقها الإرهابي هزيلاً. من قوة عظمى إقليمية نامية، تحولت إيران إلى دولة مارقة ومتعثرة. فضلاً عن ذلك، فإن الظروف السياسية الجديدة التي خلقتها اتفاقات إبراهيم تنتج لأمريكا تحالفاً قوياً مناهضاً لإيران يمكنه أن يستخدم لاحقاً للضغط على إيران والحفاظ على الاستقرار في المنطقة.
فما الذي تبقى لنا إذن؟ الصنف الثالث من مبررات الاتفاق النووي أخلاقي – مبدئي. هذه حجج تتعلق بدور الولايات المتحدة في العالم، وعلاقاتها مع إسرائيل، وتأثير يهود أمريكا على العلاقات الخارجية. ووفقاً لمفهوم ما بعد الاستعمار، اعتقدت إدارة أوباما بأن على الولايات المتحدة أن تأخذ خطوة إلى الوراء، وأن تتوقف عن التدخل في شؤون العالم وتخلق تحالفات مع قوى عظمى إقليمية، تحافظ معاً على الاستقرار. وبمفاهيم عديدة، كان الإنجاز الأكبر للاتفاق هو لجم أمريكا، وليس طهران. وفي هذا السياق، يعد تأثير إسرائيل على السياسة الخارجية عبر “اللوبي الصهيوني” هداماً، إذ تفعل الولايات المتحدة نحو سياسة صقرية. وبكلمات بيتر باينرت: “لا يمكنني ألا أفكر كيف كان النقاش يجري بين واشنطن والقدس حول الاتفاق النووي لو كان لشيلدون أدلسون هواية أخرى”.
عندما تبين أن الأسباب الاستراتيجية والسياسية التي ولدت الاتفاق النووي مخطئة وغير ذات صلة، فإن المبررات الوحيدة لإحياء الاتفاق تبقى من النوع التالي: نظريات راديكالية في العلاقات الدولية تملي أفولاً لمركزية الولايات المتحدة، وتحرراً من “اللوبي اليهودي” و”إشفاء” من المال الصهيوني القذر. وبالفعل، لليسار الأمريكي ونظام آية الله عدو مشترك تحت المظلة التقدمية.
القدس العربي