نضجوا مبكرا.. شباب تونس ما بعد الثورة ضد الحكام الجدد

نضجوا مبكرا.. شباب تونس ما بعد الثورة ضد الحكام الجدد

تكشف الاحتجاجات الأخيرة في تونس التي شارك فيها المئات من الشباب المنددين بالحكومة وسياسة القمع، أن جيل ما بعد ثورة يناير هو جيل أكثر وعيا ونضجا بطبيعة الأوضاع في بلده، وعلى رغم الأزمات يبدو أكثر إصرارا على قيادة تغيير حقيقي وتصحيح لمسار الثورة، التي عصفت بها الأوضاع الاقتصادية والتجاذبات السياسية.

تونس- حملت الاحتجاجات التي عاشتها تونس في يناير 2021 أوجه تشابه كبيرة مع احتجاجات يناير 2011. القاسم المشترك بينهما هو الانخراط القوي للشباب.

فمثلما كان الشباب وقودا للثورة التي أطاحت بنظام الراحل زين العابدين بن علي، يعود اليوم إلى الشارع لكن بعقلية أكثر نضجا وأكثر استيعابا لما يجري من حوله داخل البلاد، وفي مختلف أنحاء العالم، وحتى في طريقة تعبيره كشف عن توجهات كاسرة للتقليدي في الشعارات وطريقة الاحتجاج.

ودفعت عودة الاحتجاجات القوية في مختلف جهات البلاد إلى التساؤل: هل أن تونس على أعتاب ثورة جديدة، وهل بوسع الشباب اليوم التغيير وإنتاج مشهد جديد يقطع مع المشهد الحالي؟

وفيما يرى متابعون أنه من الصعب التكهن بقدرة الشباب على قلب المعادلة السياسية والإطاحة بالمنظومة القائمة وتأسيس مشهد جديد، هناك إجماع على أن شباب ما بعد الثورة، رغم صغر سنه يبدو أكثر نضجا ووعيا بطبيعة الأوضاع في بلده.

وكشفت الاحتجاجات الأخيرة أن مطالب هذه الفئة ليست اجتماعية فقط، بل هي مطالب سياسية وحقوقية، حيث أعرب الشباب عن تذمره من الأحزاب والحسابات الضيقة، إضافة إلى رفضه بشكل صريح استعمال الحكومة القمع والورقة الأمنية لإخماد حالة الغضب المستشرية، وأيضا دفاعه المستميت عن ترسانة الحقوق والحريات.

ووجه الشباب في الحراك الأخير رسائل إلى النخبة الحاكمة بأنه لن يصمت بعد اليوم، ولن يقبل المزيد من الفشل، ولن يرضى بأحزاب همها الوحيد الصراع على النفوذ والكراسي.

وحسب البعض من المتابعين، فإن الشباب اكتسب ثقة تجعله قادرا اليوم على التغيير ومواجهة حكامه الجدد. ويستحضر هؤلاء كيف دعم الشباب أستاذ القانون الدستوري قيس سعيد للوصول إلى قصر قرطاج. وشكل حدث وصوله إلى الرئاسة زلزالا سياسيا كشف عن مدى التغيير الحاصل في البلاد، وإلى أي مدى يمكن أن يحسم صوت الشباب الموقف، بغض النظر عن صحة توجهه من عدمها.

ورغم استهدافه من طرف خصومه في ما بعد، وسعيهم للنيل من شعبيته القوية، إلا أن سعيد لا يزال يحتل المراتب الأولى في سبر الآراء بالنسبة لنوايا التصويت في الانتخابات القادمة. وأظهرت نتائج استطلاع للرأي أن تسعين في المئة من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 25 و28 عاما، صوّتوا لصالح سعيد في السباق الانتخابي الأخير. وشكل نجاح سعيد نجاحا بالنسبة إليهم حيث زادهم إصرارا وثقة على تحدي المنظومة السائدة بموارد محدودة تعتمد على التطوع أساسا.

وتحدثت تقارير إعلامية عن تشكيل تنسيقيات محلية داعمة للرئيس سعيد في الجهات، وتقود “حراكا جديدا” يتبنى رؤية سعيد الداعية إلى تغيير النظام السياسي في تونس. وعلى الرغم من أن الاحتجاجات الأخيرة لا تبدو مؤطرة سياسيا، وهي برأي الكثير من المراقبين عفوية ورد طبيعي على السياسات الاقتصادية والاجتماعية الفاشلة، إلا أن الشباب بات أكثر اهتماما بالحياة السياسية وحريصا على المشاركة في الشأن العام، ومصرا على أن يكون طرفا جوهريا وليس مجرد أداة انتخابية.

وبرأي المتابعين، يحاول الشباب اليوم عبر إيصال صوته إلى السلطة، إنقاذ ما يجب إنقاذه مما تتبقى من ثورة يناير التي قادت في النهاية إلى وصول أحزاب يمينية محافظة إلى الحكم، فيما وقع إقصاء الشباب بالاستفادة من حالة عزوف عامة عن ممارسة الحق الانتخابي، في ظل تردي الأوضاع الاقتصادية.

ويشير محمد الصالحي القيادي عن حزب الوطد الاشتراكي لـ”العرب”، “لا يزال شباب المسار الثوري ينشد تحقيق الشعارات المرفوعة ذات 17 ديسمبر 2010 الممتدة في الزمان والمكان”.

وما يدفع إلى التمسك بخيار الاحتجاج والتغيير، هو سياسات وخيارات النظام الحاكم والذي في حقيقة الأمر لم يتغير في جوهره، بل لا يزال يعتمد نفس المقاربات في كل الأبعاد التنموية والاقتصادية والاجتماعية والتي عمقت الفوارق الطبقية بين الفئات والجهات.

ويعتقد الصالحي أنه “بالرغم من كل المعيقات وارتدادات حكام ما بعد 14 يناير، ورغم القمع البوليسي الشديد والأحكام القضائية الجائرة والتي طالت حتى الأطفال القصر، لا يزال الشباب يحلم ويحتج ويرفع رايات النصر عاليا”. مبديا تفاؤله بالانتصار على “الطبقة الفاسدة الحاكمة في البلاد”. وأضاف “هم من سرقوا أحلامنا وتاجروا بآلامنا… لكننا سنمضي إلى ما نريد”.

وتعرضت الحكومة إلى انتقادات لاذعة بسبب استعمالها العنف في مواجهة المتظاهرين، كما طالبت منظمات حقوقية بالإفراج عن المئات من المحتجين الشباب الذين ألقي القبض عليهم. ومن شأن استعمال الورقة الأمنية أن يضاعف الهوة بين الحكومة والشارع، خاصة أن عددا كبيرا من المحتجين هم من العاطلين عن العمل ومن المنقطعين عن الدراسة وأبناء الطبقة الفقيرة المهمشة.

وكشف المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، عن دوافع الاحتجاجات الليلية الأخيرة. ومن أبرز دوافع الحراك تعمق ظاهرة الانقطاع عن الدراسة لدى فئة كبيرة من الشباب والأطفال (أكثر من مليون منقطع خلال العشر سنوات الأخيرة)، كما لفت الانتباه إلى تفاقم الشعور باللاّمساواة وعدم الإنصاف، وتخلّي الدولة عن دعم الحقوق الصحيّة والتربوية والاقتصادية لدى الشباب، ممّا ولّد لدى هذه الفئة إحساسا بالغبن وبأنّهم مشروع ضحايا عنف يُمارسُ عليهم من طرف الدولة عبر الأجهزة الأمنية وعدم الإنصاف القضائي.

وبحسب دراسة أعدها المنتدى، فإن 74 في المئة من الشباب يرون أنهم مغيبون من الدولة، فيما اعتبر 80 في المئة منهم أن الدولة تهتم بالأغنياء أكثر من الفقراء، أما بالنسبة لمسألة تطبيق القانون، فإن 80 في المئة من الشباب يرون أن القانون في تونس لا يطبق على جميع التونسيين بنفس الكيفية، كما يشعر 60 في المئة من الشباب “بالتهميش والظلم”.

وترى درة محفوظ أستاذة علم الاجتماع في حديثها لـ”العرب” أن “العامل الأساسي للاحتجاجات اقتصادي، بسبب زيادة نسبة الانقطاع المدرسي ونسبة البطالة. مع ذلك تعتقد أن الاحتجاجات أيضا كشفت عن وعي سياسي لدى الشباب، حيث بات أكثر وعيا وتمسكا بحقوقه. وقد لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دورا كبيرا في ذلك”.

وتلاحظ محفوظ أن “هناك وعيا من الشباب بضرورة إحداث تغيير سياسي، حيث يدرك الشباب أن المسؤولية السياسية وراء الخيارات الاقتصادية. وتبين أن من رسائل الشباب إلى السياسيين هو أن يكونوا أكثر مسؤولية في المهمة التي فوضها لهم الشعب”.

وتتوجس أوساط سياسية من الانحراف بالمطالب الأساسية للاحتجاجات وتسييسها، واستعمال الشباب ورقة ضغط لا أكثر دون منحه الفرصة لأن يكون فاعلا حقيقيا في المشهد السياسي.

ويلفت غازي الشواشي أمين عام حزب التيار الديمقراطي لـ”العرب” إلى أن “الشباب من قام بثورة يناير يعود بعد سنوات، حيث لا شيء تحقق على مستوى العدالة الاجتماعية”. مضيفا “هو في حالة يأس أكثر مما كان عليه قبل الثورة، ولجأ إلى الشارع تعبيرا عن غضبه”.

80 في المئة من الشباب يرون أن القانون في تونس لا يطبق على جميع الأفراد بنفس الكيفية

ويؤكد الشواشي أنه “من حق الطبقة الشابة التظاهر، ومن واجب الدولة الإنصات إليها وأن تصل رسائلها إلى الطبقة الحاكمة”. في المقابل يلاحظ أن “الحكومة ليست واعية بهذا الحراك الاجتماعي، حيث تعاملت معه بالقوة المفرطة واستعمال الغاز المسيل للدموع”.

وفيما ساد الحديث عن ملامح ثورة جديدة في الأفق لتصحيح مسار ثورة يناير، استبعد الشواشي ذلك، ويعتقد بأن الحل ليس في إسقاط النظام، بل بإصلاح النظام من داخل النظام. وعن قدرة الشباب في إحداث تغيير سياسي وخلق مشهد جديد، يرى الشواشي أنه “ما زال ينقص الشباب التأطير كما أنه غير موحد”.

وحذر من مساعي البعض من الإطراف إلى تشويه التحركات الاحتجاجية، كما أن البعض من الأطراف السياسية الأخرى تريد أن تركب على الاحتجاجات لغايات حزبية وسياسوية ضيقة.

ويستنتج الشواشي أن الحل في تنظيم حوار وطني للشباب والإصغاء إليه والتفاعل معه وتأطيره في الجهات، حيث سيساعد ذلك على المزيد من توعيته. وخلص بالقول “إلى الآن لم نمنح الشباب الفرصة حتى يكون عنصرا للبناء والإصلاح والمساهمة في تأسيس الديمقراطية التي نريدها أن تنجح”.

العرب