الاستراتيجية الإسرائيلية والحرب الباردة في الشرق الأوسط

الاستراتيجية الإسرائيلية والحرب الباردة في الشرق الأوسط

في عام 2015 كتب هنري كيسنجر مقالا في «وول ستريت جورنال» انتقد فيه السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط، منبها إلى أن النجاح في إدارة الاتفاق النووي مع إيران يتطلب مبدأً استراتيجيا، يحكم كل سياساتها في الشرق الأوسط، ويأخذ في
شروط الاتفاق.
في ذلك الوقت كانت الحرب على الإرهاب هي الأولوية القصوى، وكان تهديد تنظيم «داعش» في العراق وسوريا وليبيا، هو أخطر ما يكون. وبعد ثلاث سنوات من دعوة كيسنجر، أعلن ترامب الانتصار على تنظيم «الدولة الإسلامية» ونهاية الحرب على «داعش» وهي الحرب التي كانت تشارك فيها إيران، وطلب من البنتاجون إعلان خطة لسحب القوات الأمريكية من سورية وأفغانستان. بذلك تجمعت ثلاثة متغيرات رئيسية جديدة تبرر تعديل الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط، هي نهاية الحرب العالمية على الإرهاب، والاتفاق النووي الإيراني، ومطلب إعادة القوات الأمريكية من الخارج، وهو المطلب الذي صوت له نصف الناخبين الأمريكيين تقريبا مرتين، واحدة في انتخابات 2016 ومرة ثانية في عام 2020.

أولوية الحرب على إيران

تَشَكّل النظام الإقليمي في الشرق الأوسط منذ أوائل القرن الحالي، وفقا لمقتضيات الحرب على الإرهاب، وهو ما سمح بإقامة تحالفات عسكرية إقليمية ودولية على أراضيه. لكن النظام يمرّ الآن بعملية إعادة تشكيل جديدة، حيث تحركت إسرائيل بسرعة للتضخيم من خطورة «التهديد الإيراني» وتصويره على أنه الخطر الرئيسي الذي يهدد المنطقة، وأن المبدأ الاستراتيجي الحاكم لإعادة تشكيل النظام الإقليمي هو «أولوية الحرب على إيران ومنعها من امتلاك سلاح نووي». هذا المبدأ وجد إجماعا لدى إسرائيل والولايات المتحدة، تحت إدارة ترامب، كما تؤيده ثلاث دول خليجية حليفة هي، السعودية والإمارات والبحرين. لكن منع إيران من امتلاك سلاح نووي يمكن أن يتحقق بطرق أخرى غير الحرب، منها توظيف استراتيجية «الاحتواء» بدلا من المواجهة، ومنها إقامة وفاق إقليمي على أساس يصبح الشرق الأوسط كله منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل. وفي حال العمل بمبدأ «أولوية الحرب على إيران» فإن هذا سيترك تأثيره في صراعات وقضايا الشرق الأوسط كافة، خصوصا ما يتصل منها بإيران مباشرة مثل، الاتفاق النووي، أو بشكل غير مباشر مثل الأوضاع في العراق وسوريا واليمن ولبنان، وأمن الملاحة في الخليج وغرب المحيط الهندي والبحر الأحمر وغيرها. كما أنه سيؤدي أيضا إلى زيادة حدة الانقسام في المنطقة بين معسكرين إقليميين، يعمل كل منهما تحت مظلة قوة عالمية رئيسية، وهو ما يعيد إلى الذاكرة صورة الشرق الأوسط في ستينيات القرن الماضي، عندما كانت القاهرة تقود «المعسكر القومي التقدمي» تحت مظلة الاتحاد السوفييتي، وكانت الرياض تقود «المعسكر اليميني المحافظ» تحت مظلة الولايات المتحدة.

بوابة أمريكا للشرق الأوسط

ورغم أن الرئيس الأمريكي جو بايدن في محادثاته الهاتفية في الأسبوع الأول من توليه السلطة لم يتصل بأي من زعمائه، خصوصا رئيس الوزراء الإسرائيلي، فإنه ترك التعامل مع الشرق الأوسط لمساعديه، حيث أجرى كل من وزيري الخارجية والدفاع أول اتصالاتهما الخارجية بوزيري الخارجية والدفاع الإسرائيليين. إسرائيل لم تُخْفِ غضبها من إعلان الولايات المتحدة رغبتها في العودة للاتفاق النووي، وعدم الرضا عن أسماء الفريق الذي تم تعيينه لإدارة المفاوضات مع إيران في هذا الخصوص، بل إن كلا من وزير الدفاع ورئيس الأركان طلبا إعداد الخطط اللازمة لضرب إيران. ومع ذلك يجب التأكيد على أن السياسة الخارجية والدفاعية الإسرائيلية لم تصل بعد إلى النقطة التي يمكن فيها أن تخرج على استراتيجية الولايات المتحدة. ونظرا لطبيعة المصالح المتبادلة، يمكن الاستنتاج باطمئنان أن إسرائيل هي بلا منازع بوابة الولايات المتحدة إلى الشرق الأوسط دون غيرها. وقد برهنت تطورات أخيرة على ذلك، فبالاضافة إلى تجاهل كل من السعودية والإمارات في جولة الاتصالات الهاتفية، فإن الرئيس الأمريكي قرر تجميد صفقات السلاح الأخيرة لكل منهما حتى تتم مراجعتها واتخاذ قرار نهائي بشأنها، بسبب دور كل منهما في حرب اليمن. ومن المرجح كذلك أن يتم فتح ملفات أخرى متعلقة بالبلدين، خصوصا ملفات الحريات وحقوق الإنسان بالنسبة للسعودية، وملفات غسيل الأموال والتورط في أنشطة مشبوهة في السودان، وعمليات تهريب السلاح والمرتزقة لتغذية الحرب في ليبيا بالنسبة لدولة الإمارات.

استراتيجية التحالف الثلاثي

الصورة الآن تبدو على الوجه التالي: إسرائيل لديها استراتيجية واضحة تجاه الشرق الأوسط، تشاركها فيها ثلاث دول عربية خليجية على الأقل، بينما الولايات المتحدة لم تطلق استراتيجيتها بعد، وهي في انتظار نتائج المشاورات مع حلفائها في العالم، وشركائها في الاتفاق النووي، بما فيها الصين وروسيا. وعلى الجانب الآخر يتم تطوير تحالف ثلاثي استراتيجي يضم روسيا وايران وتركيا، يعارض سياسة الضغوط القصوى، وأولوية الحرب على إيران، كما يعارض إزاحة بشار الأسد بالقوةن وقد استطاعت الدول الثلاث خلال الفترة منذ 2017 حتى الآن تطوير التعاون الاستراتيجي في ما بينها، والعمل على تكامل أدوارها في مناطق شرق المتوسط والقوقاز والخليج وغرب المحيط الهندي والقرن الافريقي. ويزيد من قوة ذلك التحالف رصيده الاحتياطي في العراق وسوريا واليمن ولبنان وليبيا. وتستفيد دول التحالف الثلاثي من أربعة تطورات رئيسية شهدتها المنطقة خلال السنوات العشر الأخيرة. أول هذه التطورات، بروز تداعيات فشل الدولة في العالم العربي، وسقوط، أو تردي عدد من أنظمتها السياسية. التطور الثاني تمثل في توسع نفوذ إيران الإقليمي إلى الغرب من حدودها، مدفوعا بعوامل مذهبية وسياسية، ومستندا إلى شبكة من التنظيمات المتنوعة على رأسها فيلق القدس. أما التطور الثالث فهو بروز تحدي التنظيمات المسلحة غير الحكومية، وقدرتها على إسقاط الحكومات، أو إصابتها بالشلل كما يحدث في العراق ولبنان، أو السيطرة على الدولة، كما حدث في اليمن، أو الانفصال عمليا عن السلطة القائمة، كما هو الحال في قطاع غزة، وفي شرق ليبيا. أما التطور الرابع المهم فإنه تمثل في دخول قوات من روسيا وتركيا تحت مبرر شرعية الحرب على الإرهاب.

مع أن إسرائيل لا تخفي رغبتها في توجيه ضربة عسكرية لإيران، إلا أن الثمن الذي قد تتحمله هي وحلفاؤها سيكون باهظا

تفويض أمريكي لإسرائيل

رغم التحالف الوثيق بين الولايات المتحدة ودول الخليج العربية، إلا أن واشنطن فشلت في أن تجمعها معا في صف واحد لمواجهة «التهديد الإيراني» بل إنها فشلت حتى في أن تسيطر على الخلافات الداخلية في ما بين تلك الدول. وفي مقابل هذا الفشل فإن الدبلوماسية الإسرائيلية أثبتت قدرتها على تحقيق ذلك، تحت مظلة أمريكية وليس خارجها أو بديلا عنها. ونظرا لأن الولايات المتحدة تسعى في كل الأحوال إلى تقليل وجودها العسكري في الشرق الأوسط، وتخفيف أعبائها الخارجية بشكل عام، فإن خيار تفويض إسرائيل للقيام بدور واسع النطاق في الشرق الأوسط، بدعم أمريكي يكتسب جاذبية سياسية متزايدة. ومع ذلك فإن هذا الدور سيظل خاضعا لقيود تتعلق بحدود القوة الأمريكية ومصالحها العالمية والمبادئ العليا لسياستها الخارجية.
سيناريو تفويض إسرائيل لقيادة نظام دفاعي إقليمي في الشرق الأوسط، يتوافق مع مبدأ ضمان الولايات المتحدة للتفوق النوعي العسكري لإسرائيل على كل جيرانها، وهو التفوق الذي يبلغ ذروته بضمان عدم امتلاك إيران أو أي دولة أخرى في المنطقة للسلاح النووي. هذا السيناريو يكتسب يوما بعد يوم قوة جديدة على المستوى الإقليمي، خصوصا مع توسيع نطاق اتفاقيات التطبيع، التي تجري بدعم وتدخل مباشر من الولايات المتحدة. وتعمل إسرائيل منذ توقيع الاتفاقيات الأخيرة على إطلاق مشاريع متنوعة لبناء شبكة علاقات قوية في الخليج، مع الشروع في بناء قاعدة خلفية واسعة ومتنوعة للمصالح المتبادلة مع السودان، الذي سيكتسب بمرور الوقت أهمية كبرى في الاستراتيجية الإسرائيلية. لكن يبقى أن التحالف الإسرائيلي – الخليجي يعاني من نقطة ضعف خطيرة بسبب انكشاف السعودية والإمارات والبحرين عسكريا وأمنيا من الخارج والداخل. ومع أن إسرائيل لا تخفي رغبتها في توجيه ضربة عسكرية لإيران، فإن الثمن الذي قد تتحمله هي وحلفاؤها سيكون باهظا بسبب تداعياتها العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية. الأخطر من هذا، هو أنه لا يوجد ضمان على الإطلاق لمنع أي ضربة عسكرية محدودة من التحول إلى حرب شاملة تنجر إليها القوى العالمية الكبرى. وفي مواجهة سيناريو تفويض إسرائيل، فإن دول التحالف الثلاثي (روسيا – تركيا – إيران) تواصل العمل بقوة لتثبيت وتوسيع نفوذها من القوقاز إلى شرق البحر المتوسط والخليج وغرب المحيط الهندي والبحر الأحمر والقرن الافريقي الكبير. وتشير لقاءات التنسيق الثنائية بين إيران وتركيا إلى رغبة مشتركة في تجاوز الخلافات المذهبية والمنافسة السياسية الضارة بمصالح كل منهما، وخلق أطر للتعاون المشترك والإقليمي، تكون قابلة للبقاء والنمو.

استراتيجية الاحتواء

لقد انتهت الحرب على الإرهاب في الشرق الأوسط ليحل محلها صراع بين معسكرين متنازعين، يعمل كل منهما على توسيع نفوذه. وتتشابك داخل كل من المعسكرين قوى عالمية وإقليمية ذات مصالح متناقضة، لكن الحرب بينهما يمكن بسهولة أن تخرج عن نطاق السيطرة. ونظرا لأن المسألة الإيرانية هي الموضوع الرئيسي للصراع بين المعسكرين، فإن تقييد القدرات النووية الإيرانية سيكون المجال المفتوح للدبلوماسية الدولية في الشرق الأوسط. وإذا نجحت الولايات المتحدة مع حلفائها في تطوير استراتيجية تهدف إلى «احتواء» البرنامج النووي الإيراني، وتشجيع إقامة وفاق إقليمي فإنها ستفتح طريقا للحد من التصعيد في المنطقة. لكن حتى يحدث ذلك، فإن السيناريو الأرجح هو استمرار التوتر والصراع باستخدام أدوات الحرب الباردة، من حملات التشويه الدعائية، وبث المعلومات الكاذبة، وضرب شبكات المعلومات إلكترونيا، واغتيال القيادات، إلى استخدام الوكلاء والتنظيمات المسلحة غير الحكومية في شن حروب بالوكالة ضد الأطراف الأخرى.

إبراهيم نوار

القدس العربي