لماذا يدق رئيس الأركان الإسرائيلي طبول الحرب ويتحدّى بايدن؟

لماذا يدق رئيس الأركان الإسرائيلي طبول الحرب ويتحدّى بايدن؟

أثارت الكلمة، التي ألقاها الجنرال أفيف كوخافي رئيس الأركان الإسرائيلي، في المؤتمر الرابع عشر لمعهد دراسات الأمن القومي، ضجة كبيرة، لأنّه وجّه فيها تهديداً عسكرياً مباشراً لإيران، وحذّر من مغبّة العودة إلى الاتفاق النووي معها، في تحدٍّ مباشرٍ للإدارة الأمريكية الجديدة.
جاءت تصريحات كوخافي في سابقة غير معهودة لقائد عسكري إسرائيلي، يتحدّى مباشرة رئيس أمريكي. وفي حين باركت قيادات سياسية فاعلة وضبّاط سابقون هذه التصريحات، ووصفوها بأنها جاءت في وقتها، وجّه آخرون انتقادات حادّة لكوخافي واتهموه باجتياز حدود الإطار العسكري ودخول الحقل السياسي، وإثارة خلاف مع حليف إسرائيل الأول والأهم في العالم.
ما قاله كوخافي حرفياً هو: «إيران هي مشكلة عالمية، وفوق كل شيء لا شك عند أحد أن إيران تسعى لتكون دولة لها قدرات نووية عسكرية، لتقوم باستعمالها. العودة إلى الاتفاق النووي من عام 2015، أو اتفاق مشابه مع بعض التعديلات، هي أمر سيئ وغير صائب. هذا سيمكّن إيران من تطوير مصانع التخصيب، وقدرات تسلح، والاقتراب من إنتاج القنبلة النووية. هذا أمر خطير على المستوى الاستراتيجي، ويخلق تهديداً لا يحتمل لإسرائيل وانتشاراً للسلاح النووي في الشرق الأوسط». هذه بالطبع رسالة تحدٍّ مباشر للإدارة الأمريكية الجديدة، التي تجري الاستعدادات للبدء بمفاوضات للرجوع مجدداً إلى الاتفاق النووي، الذي انسحب منه دونالد ترامب عام 2018. تصريحات كوخافي مطابقة تمامًا لموقف بنيامين نتنياهو، وبالأخص الإشارة إلى أن إيران تريد الأسلحة النووية «لتقوم باستعمالها». التحذير من أنّ إيران سوف تستخدم السلاح النووي، له أبعاد وإسقاطات كثيرة. هناك انقسام في التقييم في المؤسسة العسكرية، وفي القيادة السياسية في إسرائيل في هذه القضية بالذات. الموقف الأول هو أن إيران تريد القدرات النووية للردع والترويع، لمدّ النفوذ ودخول نادي الكبار، وليس للاستعمال، ويذهب بعضهم إلى الأخذ بجدية فتاوى رجال دين إيرانيين، بأن النووي محرم في الإسلام. أما الموقف الثاني، الذي يعبّر عنه بنيامين نتنياهو فيرى أن إيران لا تريد السلاح النووي للتخزين، بل للاستخدام ضد إسرائيل مباشرة، وهو يعمل ليل نهار، كما يقول لمنع حصول إيران على القنبلة الذرية، ويكرر بأنه يجب منعها من ذلك قبل فوات الأوان.

لا تبدو المؤسسة العسكرية الإسرائيلية متحمسة للإقدام فعلًا على مواجهة مع إيران لعلمها أن ثمن ذلك سيكون باهظًا بكل المعايير

الفرضية القائلة إن إيران تريد السلاح النووي للاستخدام وليس للردع، لها مستحقات كثيرة وخطيرة، وتحفّز إسرائيل للعمل بشكل محموم. فبعد أن وضع كوخافي على الطاولة هذه الإمكانية «المرعبة» انتقل إلى تهديد إيران مباشرة وقال: «أصدرت توجيهات إلى الجيش لتحضير عدد من الخطط العملية، إضافة إلى تلك الموجودة، ونحن ندأب على تطويرها خلال هذا العام. من يقرر على تفعيلها هو المستوى السياسي، لكن يجب أن تكون هذه الخطط على الطاولة، جاهزة ومعدّة للتنفيذ». إذا ربطنا هذا الكلام بادعاء كوخافي أن النووي الإيراني معد للاستخدام، فهو يوجّه رسالة تهديد واضحة لإيران، بأن الخطط الإسرائيلية الهجومية، معدّة ايضاً لتوجيه ضربات «وقائية» ضد إيران لمنعها من الوصول إلى السلاح النووي.
قبل تصريحاته بأيام قدّم كوخافي طلباً لزيادة الميزانية العسكرية بمليارات الدولارات لرفع مستوى جاهزية الجيش الإسرائيلي، للقيام بهجوم عسكري ضد إيران، وعلى الرغم من الانتقادات الكثيرة لهذا الاقتراح، الذي يستنزف ميزانية الدولة العبرية في ظروف أزمة كورونا الاقتصادية، يبدو أن نتنياهو يوافق على هذا التوجّه، خاصة أنّه مسكون بهاجس التهديد الإيراني الوجودي، ويدعي أن إيران تعد العدة لتدمير إسرائيل ولكارثة «هولوكوست» جديدة على الشعب اليهودي. وقد سبق أن وضع كل من نتنياهو ووزير الأمن الإسرائيلي السابق إيهود براك، في الفترة الممتدة بين عامي 2010 -2013، اقتراحاً بتوجيه ضربة عسكرية لإيران، وقد أحبطت القيادة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية هذه المغامرة، واشترطت أي تحرك عسكري ضد إيران بتنسيق كامل مع أوروبا والولايات المتحدة.
ما الذي دفع رئيس الأركان الإسرائيلي أفيف كوخافي، للإدلاء بهذه التصريحات العلنية وما الهدف منها، هو شرحَ بالتفصيل موقفه في الشأن الإيراني لرئيس الأركان الأمريكي، خلال زيارته الأخيرة لإسرائيل، كما أوضحه بإسهاب للأطراف الأوروبية. لكن هناك فرق بين الاتصالات السرية والتصريحات العلنية. يبدو أن كوخافي أراد تعزيز طلبه بالزيادة الكبيرة في ميزانية التسلّح الهجومي، وقد اعتاد رؤساء الأركان الإسرائيليون دق طبول الحرب عشية مناقشة ميزانيات الجيش، ولكن الأهم هو تفعيل ضغط على الإدارة الأمريكية الجديدة أملاً في إبطاء عودة الأمريكيين إلى المفاوضات مع إيران، عبر تجييش الرأي العام في الولايات المتحدة وفي إسرائيل أيضاً، ومنح الموقف الإسرائيلي نوعاً من الشرعية لأنّه صادر عن قائد عسكري «مسؤول» وليس عن سياسي مراوغ ومحتال مثل نتنياهو.
خروج كوخافي بهذه التصريحات يحمل في طيّاته تعبيراً عن يأس القيادة السياسية الإسرائيلية من إمكانيات التأثير في الموقف الأمريكي عبر قنوات الاتصال المباشر، وهي محاولة لطرح النقاش مع الأمريكيين فوق الطاولة، أملاً بأن يؤدي النقاش العلني إلى خلق كوابح في طريق العودة إلى الاتفاق النووي. والأهم من ذلك هناك رسالة مبطّنة إلى الولايات المتحدة وإلى أوروبا أيضاً بأن إسرائيل قد تقدم على مغامرة عسكرية وهي تقول «أمسكوني» حتى لا أرتكب أفعالًا مجنونة. جاءت التصريحات أيضاً لجر إيران إلى حلبة نقاش حول المواجهة العسكرية، أملاً في أن تثير الردود الإيرانية المحتملة غضباً امريكياً أوروبياً. لكن إيران لم تقع في المصيدة واكتفت بالقول، على لسان رئيس أركان جيشها، بأن تصريحات كوخافي هي «حرب نفسية» مع الإشارة إلى أن على إسرائيل أن تفهم أن الإدارة الأمريكية تغيّرت وما كان بالأمس لن يكون اليوم وغدًا.
الإدارة الأمريكية الجديدة تصرح صبح مساء أنها تنوي العودة إلى الاتفاق النووي مع بعض التعديلات، وتخشى إسرائيل أن لا يلبّي الاتفاق الجديد مطالبها، وتريد أن تثقل مسعى العودة للتفاوض بشروطها التعجيزية، التي إذا تبنى الأمريكيون ولو جزءا منها لن يكون هناك اتفاق مع إيران. إسرائيل تشترط أن ينص الاتفاق صراحة على منع إيران من امتلاك سلاح نووي، وعلى منع إيران من إنتاج صواريخ دقيقة بعيدة المدى قادرة على حمل رؤوس نووية، وعلى تمديد فترة سريان مفعول الاتفاق بسنوات طويلة، وتشديد الرقابة على عملية التخصيب ومصانع التخصيب المتطورة. باختصار تريد إسرائيل ان تفرض على إيران شروط استسلام مهينة، وإلا تهددها بهجمة عسكرية. على الرغم من تهديدات كوخافي لإيران، لا تبدو المؤسسة العسكرية الإسرائيلية متحمسة للإقدام فعلًا على مواجهة مع إيران لعلمها أن ثمن ذلك سيكون باهظًا بكل المعايير. لكن هذه المؤسسة قررت التلويح بخطر الحرب، وخلق حالة من فوضى التهديدات، حتى تدفع بشروطها المعطّلة للعودة الى الاتفاق النووي، وحتى تتلقى «التعويض» في حال التوصل إلى اتفاق أمريكي إيراني، ويشمل مثل هذا التعويض أسلحة متطوّرة جدّاً، بقيت حتى الآن في حوزة الجيش الأمريكي وحده. كما يشمل التعويض زيادة في المساعدات الاقتصادية المخصصة بأغلبيتها للأغراض العسكرية.
إن أهم حدث في الشرق الأوسط هذه الأيام هو التحرك باتجاه العودة الى الاتفاق النووي، وما يترتب عليه من اصطفافات وتداعيات في المنطقة وفي ساحات مهمة مثل اليمن وسوريا والعراق ولبنان. من الغباء عربياً انتظار ما سيحث واللهاث خلف التحرك الأمريكي ومحاولة التأثير فيه. العالم العربي ليس إسرائيل، وبإمكانه فتح قنوات حوار جدية مع إيران والاتفاق معها على أمور في مصلحة الطرفين بدل تسوّل موافقة أمريكية على مشاركة في عملية التفاوض تحت المظلة الأمريكية المخرومة.

جمال زحالقه

القدس العربي