لعبة القط والفأر في راهن العلاقات الأميركية الإيرانية

لعبة القط والفأر في راهن العلاقات الأميركية الإيرانية

تتسم العلاقات الأميركية الإيرانية منذ اندلاع ثورة إيران الإسلامية نهاية سبعينيات القرن الماضي بطابع صراعي حاد، فقد أطاحت هذه الثورة نظام الشاه، أهم حليف للولايات المتحدة في الشرق الأوسط بعد إسرائيل، واستولى الثوار الإيرانيون، في أعقاب اندلاعها، على مبنى السفارة الأميركية في طهران، واحتجزوا العاملين فيها رهائن شهورا قبل أن يفرج عنهم بشروط. ومنذ ذلك الحين، ترسخت مظاهر العداء المتبادل واستحكمت، حيث اقترنت صورة إيران في الإدراك الأميركي بـ “محور الشر”، بينما اقترنت صورة الولايات المتحدة في الإدراك الإيراني بـ “الشيطان الأكبر”. وقد تعين الانتظار سنوات طويلة، قبل أن يتمكّن رئيس أميركي من نوعية باراك أوباما من دخول مفاوضات مباشرة مع إيران، ضمن مجموعة 5 + 1، انتهت، في إبريل/ نيسان عام 2015، بإبرام صفقة تتعلق بالبرنامج النووي الإيراني، حملت رسميا اسم “البرنامج الشامل للعمل المشترك”، غير أن هذه الصفقة لم تغير كثيرا من الطابع الصراعي الغالب على شكل العلاقات بين البلدين ومضمونها، ذلك أن هذه الصفقة لم تصمد إلا فترة وجيزة، وانهارت عقب مغادرة أوباما البيت الأبيض في يناير/ كانون الثاني 2017، ففي مايو/ أيار عام 2018، قرّر الرئيس ترامب ليس فقط انسحابا أحادي الجانب من الصفقة، وإنما أيضا فرض عقوبات شاملة على إيران، في إطار سياسة جديدة استهدفت ممارسة أقصى قدر من الضغوط، بغرض إجبارها على إعادة التفاوض لإبرام صفقة جديدة تشمل، إلى جانب برنامج إيران النووي، برنامجها الصاروخي ونفوذها المتزايد في المنطقة.

بعد رحيل ترامب عن البيت الأبيض، يبدو أن فصلا جديدا من العلاقات بين واشنطن وطهران، لا يستبعد بعضهم أن يأخذ منحىً تعاونيا متصاعدا، على وشك أن يبدأ

اليوم، وبعد رحيل ترامب عن البيت الأبيض، يبدو أن فصلا جديدا من العلاقات بين البلدين، لا يستبعد بعضهم أن يأخذ منحىً تعاونيا متصاعدا، على وشك أن يبدأ، فمعروفٌ أن الرئيس الأميركي الجديد، جو بايدن، كان قد أصدر، إبّان حملته الانتخابية، تصريحات عديدة تعكس قناعته بأن انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني لم يكن قرارا صائبا، وأدّى إلى عكس النتائج المأمولة، حيث أصبحت إيران اليوم أقرب من أي وقت مضى إلى تصنيع السلاح النووي وامتلاكه، وتعبر، في الوقت نفسه، عن رغبتها في العودة إلى هذا الاتفاق. لذا، ما إن وضع الرجل قدمه في البيت الأبيض، حتى شكّل فريقا مسؤولا عن رسم السياسة الخارجية وإدارتها، يضم خبراء عديدين شاركوا مباشرة في المفاوضات التي أفضت إلى اتفاق 2015، الأمر الذي أكد، على نحو قاطع، أن المسألة الإيرانية ستتصدّر جدول أعمال السياسة الخارجية في إدارة بايدن. ولكن في أي اتجاه ستتحرّك سياسة بايدن الخارجية تجاه إيران، وما هي حظوظ هذه السياسة من النجاح أو الفشل؟

كانت الرسائل الأولية الصادرة عن الإدارة الجديدة تفيد بأن بايدن سينتهج سياسة خارجية تسير في عكس الاتجاه الذي سلكته إدارة ترامب. ولكن يلاحظ هنا أنه تعامل مع قرارات ترامب السابقة بطرق مختلفة، ففيما يتعلق بالموقف من اتفاقية باريس للمناخ، ومن منظمة الصحة العالمية، لم يتردّد بايدن لحظة في الإلغاء الفوري لقرارات ترامب، والعودة بدون أي تحفظاتٍ إلى كل من الاتفاقية والمنظمة. أما بالنسبة للموقف من الاتفاق النووي مع إيران، فقد اختلفت طريقة معالجته له كليا، ففي تصريحاته الأولى، ربط وزير خارجيته، أنتوني بلينكن، بين عودة الولايات المتحدة إلى هذا الاتفاق وقبول إيران الدخول في مفاوضات تؤدّي إلى توسعة نطاقه، ليشمل أيضا برنامجها الصاروخي ونفوذها في المنطقة. بل أوحى بلينكن إلى بعض حلفائه الأوروبيين للمطالبة بضم أطراف أخرى إلى المفاوضات التي تهدف إلى التوصل إلى الاتفاق المنشود، غير أن إيران فهمت من هذه الرسائل الأميركية الأولية أن الإدارة الجديدة تحاول تحقيق ما كان ترامب يسعى إليه من أهداف، ولكن بالوسائل الدبلوماسية، وليس عبر سياسة العقوبات القصوى، ومن ثم رفضتها على الفور، معلّلة هذا الرفض القاطع والفوري بأن الولايات المتحدة هي من بادر بالانسحاب من الاتفاق، وعليها أن تعود إليه بنصوصه وأطرافه نفسها. ومن الواضح أن الموقف الأميركي راح يتراجع خطوة تكتيكية إلى الوراء، حين صدرت تصريحاتٌ تشير إلى أن الإدارة الأميركية الجديدة لا تسعى بالضرورة إلى تعديل الاتفاق القديم، أو توسيع نطاق أطرافه، على الأقل في الوقت الراهن، وأنها على استعداد للعودة إلى هذا الاتفاق والوفاء بالالتزامات المنصوص عليها فيه، شريطة أن تتخذ إيران الخطوة الأولى، وتتراجع عن قرارات سابقة، كانت قد اتخذتها بالتحلل التدريجي من التزاماتها، خصوصا ما يتعلق منها بالعودة إلى نسبة التخصيب المتفق عليها فيه، وهي 3,67% بدلا من النسبة الحالية التي يبدو أن معدلات التخصيب فيها وصلت إلى 20%. هنا ظهرت معضلة من يبدأ بالخطوة الأولى؟

تعتقد طهران أن الفوارق بين إدارتي ترامب وبايدن ليست كبيرة، وهي لا تتعلق أبدا بالأهداف، وإنما تدور حول الوسائل

وصف معلق إيراني حالة العلاقات الأميركية الإيرانية، بعد ظهور معضلة من يبدأ بالخطوة الأولى، بأنها تشبه “لعبة العشاق”، غير أن هذا الوصف، على الرغم من طرافته، يبدو مراوغا ومبالغا في تدليله على الوضع الراهن، فالواقع أننا لسنا إزاء حالة تمنع بين عشيقين يتحرّقان لعودة الوصال، ويحاول كل منهما دفع الطرف الآخر إلى المبادرة باتخاذ الخطوة الأولى، وإنما نحن إزاء وضع دولي يتسم بعداء شديد بين طرفين تبدو الثقة بينهما منعدمة بالكامل، بل وما يزال كل منهما يرى في الآخر شرا مستطيرا أو شيطانا يستحيل الثقة به، والتعامل معه بحسن نية، على الرغم من رغبتهما المشتركة في طي مرحلة ترامب، والعودة إلى النقطة التي كانت عليها العلاقات بينهما في نهاية حقبة أوباما.

وفي تقديري أن المعضلة الحقيقية التي تحول دون فتح صفحة جديدة في العلاقة بين البلدين ليست فيمن يبدأ بالخطوة الأولى نحو العودة إلى اتفاق 2015، وإنما فيما سيتلو بعد ذلك من خطوات، فعقبة الخطوة الأولى، على الرغم من أهميتها الرمزية التي تعبر عن رغبة كلا الطرفين في ألا يظهر في الموقف الأضعف، يمكن التغلب عليها بوسائل فنية مختلفة. إذ يمكن الاتفاق على خطواتٍ مرحليةٍ متزامنة، تفضي، في نهايتها، إلى عودة إيران تدريجيا إلى مستوى التخصيب المنصوص عليه في اتفاق 2015 وهو 3.67%، مقابل الرفع التدريجي المتزامن للعقوبات الأميركية، وبالوتيرة نفسها إلى أن يتم إلغاؤها بالكامل، غير أن مجرّد العودة بالعلاقات بين الولايات المتحدة وإيران إلى المستوى الذي كانت عليه في نهاية عهد أوباما لا ينهي كل المشكلات، ولا يعالج الأزمة القائمة بكل أبعادها، وهي أزمة سابقة على الاتفاق النووي، ولاحقة عليه أيضا، فهذا النوع من المسكنات الوقتية لن يكون مقبولا، لا من قوى أميركية داخلية مؤثرة، ولا من أطراف إقليمية أكثر تأثيرا، في مقدمتها إسرائيل بالطبع. فمن الواضح تماما أن إسرائيل ستلقي بثقلها كله للحيلولة دون عودة الولايات المتحدة إلى اتفاق 2015، وستوظف كل ما لديها من وسائل لا يستهان بها للضغط على إدارة بايدن لحمله على عدم رفع العقوبات عن إيران، إلى أن توافق الأخيرة على الدخول في مفاوضات جديدة تستهدف تفكيك برنامجها الصاروخي، إلى جانب برنامجها النووي، وهو ما ترفضه إيران رفضا قاطعا، خصوصا وأنها مقبلة على انتخابات رئاسية في يونيو/ حزيران المقبل، لا يستبعد أن يفوز فيها التيار المحافظ إذا استمرت العقوبات الأميركية.

متى يدرك العرب أن إسرائيل المصدر الرئيسي لعدم الاستقرار في المنطقة، ومتى يعودون إلى الوحدة لمواجهة هذا الخطر الداهم؟

تعتقد طهران أن الفوارق بين إدارتي ترامب وبايدن ليست كبيرة، وهي لا تتعلق أبدا بالأهداف، وإنما تدور حول الوسائل، فكل منهما سعى ويسعى وسوف يسعى، في النهاية، إلى تغيير النظام في إيران. ولأنها تدرك، في الوقت نفسه، أنه ما كان في وسع إدارة بايدن أن تفكر أصلا في العودة إلى اتفاق 2015 إلا بسبب صمودها في وجه العقوبات التي فرضها ترامب، فإنها على قناعة تامة بأنها لن تستطيع التعامل بنجاح مع إدارة بايدن، إلا إذا كان لديها الإرادة والقدرة على مواصلة الصمود، حتى لو استمرت العقوبات. لذا أتصوّر أن إيران ستظل ثابتة على موقفها الراهن، على الرغم من قسوة العقوبات، وأن الولايات المتحدة هي التي ستضطر، في النهاية، آجلا أو عاجلا، إلى العودة إلى اتفاق 2015 بدون شروط. وربما كان أقصى ما يمكن توقعه من إيران، خصوصا إن وافقت الولايات المتحدة على البدء في رفع العقوبات عنها قبل وقت كاف من الانتخابات الرئاسية، أن تبدي استعدادها للدخول في مفاوضات حول أمن منطقة الشرق الأوسط ككل. وحين تصل الأطراف المتصارعة إلى هذه النقطة المحورية من مسيرة الأزمة، سيكون في مقدور إيران حينئذ أن تطالب بمفاوضات جادّة لتحقيق الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط ككل، وذلك بالعمل على الوصول إلى اتفاقية شاملة لإخلاء المنطقة كلها، وليس منطقة الخليج فقط، من أسلحة الدمار الشامل، وهو ما سترفضه إسرائيل رفضا قاطعا.

ولأن إسرائيل تعتبر سلاحها النووي خطا أحمر، فليس مستبعدا أبدا أن يعود الجدل حول برنامج إيران النووي إلى نقطة الصفر، وفي أية لحظة، وبالتالي تستمر لعبة القط والفأر بين الولايات المتحدة وإيران إلى أمد غير منظور، فمتى يدرك العرب أن إسرائيل هي المصدر الرئيسي لعدم الاستقرار في المنطقة، ومتى يعودون إلى الوحدة لمواجهة هذا الخطر الداهم والحقيقي؟

حسن نافعة

العربي الجديد