العراق أولوية أميركية ولكن..

العراق أولوية أميركية ولكن..

يكاد يكون جيلنا العراقي أكثر الأجيال العراقية والعربية وربما العالمية خبرةً بالانقلابات وما يعقبها من حملات اجتثاث وطرد موظفين واعتقال لـ”أزلام” العهد البائد وإلغاءٍ لقراراته وسياساته واتخاذٍ لقرارات وسياسات معاكسة تماما.

فقد استحق العراق بجدارة لقب القائد المؤسس لأول جامعة تعلم الانقلابات العسكرية لدول المنطقة. فقد علم السوريين والمصريين والسودانيين واليمنيين والإيرانيين والأتراك مهنة الانقلاب العسكري، وفنون الانتقام من قادة الأنظمة “البائدة” ومن كل مَن ساندها ذات يوم أو هتف بحياة أحد زعمائها أو كتب مقالة أو قصيدة أو غنى أغنية عن القائد المطرود.

فالعراق، ولا فخر، صاحب أول انقلاب قام به فصيل من الجيش بقيادة الفريق بكر صدقي في أكتوبر 1936. ثم أعقبه انقلاب رشيد عالي الكيلاني 1941، فانقلاب عبدالكريم قاسم وعبدالسلام عارف 1958، ثم انقلاب العقيد عبدالوهاب الشواف في مارس 1959، فانقلاب البعث في فبراير 1963، فالانقلاب الآخر الذي أطلقوا عليه اسم “ردّة تشرين” 1963، فانقلاب البعث الأخير في 1968، وصولا إلى الغزو الأميركي الذي كان ملك الانقلابات وأباها وأمها.

وبعد تاريخ طويل مثقل بالدماء والدخان والدموع أصبح المواطن العراقي بعقله وقلبه وروحه لا يتمنى سوى أن ينتهي زمن الخوذ الحديدية وزوار الفجر الأشقاء، وأن يعود إليه وطنه مدنيا متحضرا مسالما بدون مقاومة شعبية ولا حرس قومي ولا فدائيين موكلين بحماية الرئيس المفدى، ومتعاون مع دول العالم كلها على البر والتقوى وليس على الإثم والعدوان.

وبصراحة ودون لف ودوران لقد ظن عراقيون كثيرون يُعَدّون بالملايين بأن الولايات المتحدة التي غزت بلادهم سوف تجلس عندهم ضيفةً أسابيع أو شهورا وتعود إلى ديارها، بعد أن تكون قد أعانتهم على إقامة دولة الديمقراطية غير المغشوشة وسلطة القانون والعدالة والحرية والرخاء. ولكن الذي فعلته الولايات المتحدة بالعراق لم يفعله به احتلالٌ آخر قبل احتلالها.

فرغم كل مساوئ الانقلابيين العراقيين، من أولهم وحتى آخرهم، فقد كانوا يحافظون على الجيش والأمن والقضاء والمؤسسات، بعد تطهيرها من ذيول العهود “البائدة”، ثم تعود الحياة إلى سيرتها الأولى بعد أيام وأحيانا أسابيع.

أما الجنود الأميركيون وحلفاؤهم الإيرانيون فقد اجتثوا الدولة العراقية كلها من جذورها، وقتلوا واعتقلوا وأحرقوا ونهبوا واغتصبوا وشردوا وهجّروا وفعلوا ما لم يفعل رُبعَه العسكريون العراقيون في جميع انقلاباتهم السابقة، ثم أقاموا عندنا إقامةً تدل ظواهرها على أنها إقامة دائمة، فلم يعودوا إلى ديارهم بأسابيع، ولا بشهور ولا بسنين، ولا يبدو أنهم سيغادرون.

ثم برغم كل ما أصبح عاديا في عراق الإيرانيين من ظلم وعدوان وإفقار وإرهاب، ورغم سطوة سلاح الميليشيات على الرئاسات والقضاء والوزارات وعلى التجارة وبيوت القمار والمخدرات والدعارة، فقد ظلت الإدارات الأميركية المتعاقبة تتعامى ولا ترى أي شيء منه وتمتدح الديمقراطية فيه وتدافع عنها بضراوة، حتى ظهر الرئيس (الجمهوري) الآتي من خارج المنطقة الخضراء الأميركية، فرأى أن ما تفعله إيران بالعراق شرّ، وما يفعله وكلاؤها به شرا، فحمل عليها وعليهم العصا الأميركية الغليظة وأشعل في نفوس العراقيين الأمل في خلاص قريب. وهنا نصل إلى مربط الفرس في هذه المقالة.

نعم إن العراق أولوية أميركية دون شك. ولكن لكل رئيس أميركي فهمه لمعنى الأولوية وحدودها وأبعادها وأهدافها. فالرئيس السابق دونالد ترامب رأى أن إعادة العراق إلى محيطه العربي وإخراجه من سجنه الإيراني الطائفي العنصري المظلم المتخلف سوف تعيد إليه أمنه واستقراره، ثم تعيده إلى المنطقة وطنا سالما ومعافى وعامل أمن وسلام، وفي ذلك خدمةٌ لمصالح الدولة الأميركية العليا وحدَها قبل غيرها.

أما غريمه (الديمقراطي) جو بايدن الذي جاء بما يشبه الانقلاب العسكري فقد فعل تماما ما كان يفعله الانقلابيون العراقيون. فهو فور دخوله البيت الأبيض راح يمحو قرارات سلفه ترامب، ويستبدل سياساته المتشددة مع النظام الإيراني بسياسات المهادنة والملاطفة، متوهما بأن ذلك سيعيدها إلى طاولة المفاوضات، رغم علمه بأن ذلك يعني بالضرورة إطالة أمد احتلالها للعراق، ومواصلة اتخاذه قاعدتها المتقدمة في المنطقة لتخريب حياة شعوبها وتعطيل عمرانها وبعثرة ثرواتها، وأيضا وفوق كل ذلك لقتل الأميركيين أنفسهم عندما تقتضي الحاجة والظروف.

وحين نسمع منه أو من كبار معاونيه القول بأن الولايات المتحدة الديمقراطية ملتزمة بالدفاع عن أمن الحلفاء، نتساءل: حسنا، هل هناك مُعتدٍ أخر ليس إيرانيا على هؤلاء الحلفاء؟

ألا تعلم دوائر المخابرات الأميركية المتغلغلة في شرايين العراق وأوردته بما لا مزيد عليه بأن العراق اليوم ليس سوى معسكر حربي متقدم لإيران وصواريخها وطائراتها المسيرة؟

وقد نقلت وكالة أسوشيتد برس الأميركية عن مسؤول كبير في ميليشيا مدعومة من إيران (لم تسمّه) قوله إن “3 طائرات مسيرة انطلقت من مناطق حدودية عراقية – سعودية من قبل فصيل تدعمه إيران في العراق وانفجرت في المجمع الملكي بالرياض في 23 يناير الماضي”.

كما أن الميليشيات التي قصفها الجيش الأميركي في سوريا في أول عمل عسكري تقوم به إدارة بايدن هي ميليشيات عراقية إيرانية الولادة والولاء، وقد اعترفت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) بأن العملية “دمرت عدة منشآت تستخدمها الجماعات العراقية المسلحة المدعومة من إيران ردا على هجمات صاروخية إيرانية ضد أفراد أميركيين وأوروبيين في العراق”.

فهل هذه الضربة مقدمةٌ أميركية لعهد جديد من الحزم والحسم مع الإرهاب الإيراني فيها الكثير من ملامح سياسة العصا الغليظة الترامبية المتشددة، أم هي مجرد رسالة عابرة في مسلسل الجهود الأميركية الناعمة لإقناع المرشد الأعلى الإيراني بضرورة الجلوس معا على الطاولة من أجل تفاهم وتناغم وتقاسم بين حليفين لدودين؟ الله أعلم.

أما العراقيون المتعبون المحبطون المتخوفون مما تحمله الأيام القادمة فيسألون الرئيس الأميركي بايدن، أليس عراقٌ آمنٌ ومستقر ومسالم ومزدهر وذو جيرة حسنة وصادقة مع دول الجوار وإيران منها وفي طليعتها ومع الولايات المتحدة نفسها عاملُ استقرار وازدهار للمنطقة كلها وللعالم ومنفعةٌ للولايات المتحدة ومصالحها؟

العرب