لا تزال ليبيا تمثل أولوية ثانوية للولايات المتحدة في منطقة يقول عنها فريق الرئيس بايدن إنه سيكرس قدراً أقل من الاهتمام بها في المرحلة القادمة، على الرغم من تركيزه المبكر على إيران واليمن. ولكن من خلال التعامل مع الصراع في ليبيا على أنه مسألة تتعلق بأمن البحر المتوسط ، يمكن لفريق بايدن مساعدة الحكومة الليبية الجديدة بشكل أفضل وإظهار التزامها بتنشيط التحالفات.
في 25 شباط/فبراير، قدّم رئيس الوزراء الليبي المكلف عبد الحميد الدبيبة تشكيلة حكومة الوحدة الوطنية الجديدة إلى “مجلس النواب” الليبي، الذي أمامه الآن 21 يوماً للموافقة عليها. وعلى الرغم من أنه لم يعيّن وزراءه بعد، فقد وعد الدبيبة بأنهم سيكونون من التكنوقراط المؤهلين الذين يمثلون ولايات ليبيا الثلاث ومجتمعها المتنوّع. وتستند المهلة النهائية إلى خارطة الطريق الانتقالية التي وضعها “ملتقى الحوار السياسي الليبي”، أي الهيئة التي عيّنت الدبيبة واختارت محمد المنفي لرئاسة “المجلس الرئاسي” المؤلف من 3 أشخاص. وإذا عجز “مجلس النواب” عن جمع النصاب القانوني أو الموافقة على الحكومة، فستعود عملية التصديق إلى “ملتقى الحوار”.
وعلى أي حال، سيقتصر دور الحكومة الجديدة على إدارة البلاد إلى حين إجراء الانتخابات في كانون الأول/ديسمبر، وستكون مهمتها وأولوياتها محدودة بطبيعتها. لذلك ستتطلب دعماً دولياً كبيراً لإكمال مهمتها، والحفاظ على وقف إطلاق النار الهش، وضمان الحد الأدنى من التدخل من قبل الجهات الفاعلة الخارجية. يجب أن تلعب إدارة بايدن دوراً رئيسياً في هذا الجهد، على الرغم من ميلها إلى تجنب الصراعات الفوضوية في الشرق الأوسط.
إعادة تحديد إطار ليبيا
لا تزال ليبيا تمثل أولوية ثانوية للولايات المتحدة في منطقة يقول عنها فريق بايدن إنه سيكرس قدراً أقل من الاهتمام بها في المرحلة القادمة، على الرغم من تركيزه المبكر على إيران واليمن. ومع ذلك، لا يزال بإمكان البلاد أن تكون ساحة نموذجية لإثبات “عودة أمريكا”، إذا استفاد الرئيس بايدن ووزير الخارجية أنطوني بلينكين بشكل كافٍ من الدبلوماسية وإعادة إشراك الحلفاء الذين غالباً ما وجدوا أنفسهم على طرفي الصراع المتنافسين.
أما المسألة الأولى الذي يتعين على الإدارة الأمريكية معالجتها فهي مدى الأهمية التي تتمتّع بها ليبيا. ومن أجل الارتقاء بها ووضعها على أجندة عالمية حافلة، يجب إعادة تحديد إطار نزاعها من صراع آخر في الشرق الأوسط إلى تحدٍ أمني فوري ومتعدد الأطراف في منطقة البحر المتوسط. ويُذكر أن شركاء الولايات المتحدة المنخرطين في النزاع دخلوا أساساً في مناوشات عبر وكلاء (تركيا والإمارات العربية المتحدة) أو هددوا باتخاذ خطوات ضدّ بعضهم البعض على الأراضي الليبية (مصر وتركيا). وعند إضافة الوجود الخطير لمرتزقة روسيا، والأزمة الإنسانية والمهاجرين، والنهج الأوروبي غير المترابط تاريخياً، يمكن رؤية الوضع الحالي كما هو عليه: نقطة قابلة للانفجار على الجانب الجنوبي لحلف “الناتو”.
ومن هذا المنطلق، تُعتبر ليبيا اختباراً هاماً لتعهد الرئيس بايدن بإعادة إحياء التحالف عبر الأطلسي وتنشيط الدبلوماسية الأمريكية، كما أكد خلال خطاباته الأولية في السياسة الخارجية. ولكن وفقاً لمضمون محادثات وزير الخارجية الأمريكي بلينكن مع نظرائه الأوروبيين، لم يرد اسم ليبيا سوى مرة واحدة (مع إيطاليا)، في حين لم يثير الرئيس بايدن القضية على الإطلاق خلال محادثاته الهاتفية مع رؤساء الدول.
يجب أن تتغير هذه الديناميكية. وإذا ما أرادت الولايات المتحدة وأوروبا وضع نهج مشترك إزاء ليبيا كمثال على ما يمكن لإحياء التحالف عبر الأطلسي تحقيقه، فيجب أن يتفق قادتهما على توحيد الرسائل الموجهة إلى الجهات الفاعلة الليبية والجهات الخارجية مثل روسيا، والإمارات، ومصر.
يجب أن يتمثل صلب هذه الرسالة الموحدة في تشجيع الحكومة الجديدة في ليبيا على إعداد أجندة مركزة قائمة على توفير خدمات أفضل، وتعزيز الأمن، والتحضير للانتخابات المتفق عليها في 24 كانون الأول/ديسمبر. ولضمان التزام المسؤولين المحليين بهذا التركيز، يجب أن تجتمع شهرياً مجموعة دبلوماسية ذات صلاحيات تمثل كل دولة مع كل من الليبيين ومبعوث الأمم المتحدة المعيّن حديثاً يان كوبيتش من أجل تقييم التقدّم المحرز وتحديد العقبات واقتراح الحلول. وسواء كانت هذه المجموعة مستمدة من مؤتمر برلين الذي انعقد في كانون الثاني/يناير 2020 أو آلية أخرى، فإن المشاركة المنتظمة ضرورية لضمان المتابعة المناسبة ومنع المسؤولين الليبيين من التراجع عن جدول انتخاباتهم. يجب على الولايات المتحدة أن تلعب دوراً نشطاً في هذه الاجتماعات لضمان أخذها على محمل الجد.
على كبار المسؤولين في واشنطن أيضاً تحديد توقعاتهم بشأن جميع الجهات الفاعلة المسؤولة بشكل رئيسي عن تفاقم الحرب الأهلية. أولاً، يجب على الإدارة الأمريكية أن تحث دولة الإمارات ومصر وتركيا على دعم الحكومة الليبية الجديدة، وتجميد مساعداتها العسكرية لأي من جانبي الصراع، وتشجيع وكلائها على الالتزام بوقف إطلاق النار. ولم يتصل الرئيس بايدن بعد بنظرائه الإماراتيين أو المصريين أو الأتراك، لذا فإن أفضل طريقة لإيصال هذه الرسالة هو مستشار الأمن القومي جيك سوليفان، لأن وزارات خارجية هذه الدول ليس لها تأثير أساسي على السياسة الليبية.
ويُعَد الوجود الروسي قضية شائكة بالنظر إلى حق النقض (“الفيتو”) الذي تتمتع به موسكو في “مجلس الأمن الدولي” ورفضها حتى الاعتراف بنشر [وكلائها]. وكشفت القيادة الأمريكية في إفريقيا (“أفريكوم”) بشكل قاطع عن وجود قوات “مجموعة فاغنر” المدعومة من الكرملين في وسط ليبيا الصيف الماضي، ونشر طائرات مقاتلة روسية متقدمة هناك الأمر الذي يشكل تهديداً، ليس فقط لليبيا بل لـ “حلف شمال الأطلسي” أيضاً. وعلى هذا النحو، يجب على الولايات المتحدة الاستمرار في تسليط الضوء على النشاط الروسي في ليبيا وتشجيع حلف “الناتو” على اعتبار عمليات الانتشار المحلية لموسكو خطراً على الحلف.
مجالات محددة للمساعدة الأمريكية
بصرف النظر عن المزيد من الإجراءات الدبلوماسية المنسقة، يتعين على إدارة بايدن تقديم المساعدة في ثلاثة مجالات رئيسية: مواصلة عملية الوحدة المالية وتطوير تقديم الخدمات؛ المساهمة في مهمة مراقبة وقف إطلاق النار بدعم من الأمم المتحدة؛ وتقديم المساعدة التقنية للانتخابات المخطط لها.
• الوحدة المالية والخدمات العامة. منذ “مؤتمر برلين” الذي عُقد في العام الماضي، شاركت الولايات المتحدة في رئاسة اللجنة التي تدعم جهود المصالحة بين المؤسسة المالية الرئيسية لـ”حكومة الوفاق الوطني” ومقرها طرابلس والمصرف المنافس الشرقي الذي أسسته حكومة طبرق التي لا تزال فاعلة. (سيتم حل الحكومتين عندما تتولى حكومة الوحدة الجديدة السلطة). وفي كانون الأول/ديسمبر، وافق “المصرف المركزي الليبي” على استيعاب الديون الكبيرة المستحقة على نظيره الشرقي وخفض قيمة الدينار من أجل ضبط العملة بشكل أفضل، ومنع التداول بها في السوق السوداء، وتحسين السيولة في النهاية. وإلى جانب مواصلة هذا العمل، على واشنطن مساعدة الحكومة الجديدة على تحديد المجالات التي سيكون فيها الدعم التقني السريع أكثر فائدة، مثل توفير الكهرباء أو علاج الرعاية الصحية وسط جائحة “كوفيد-19”. وعلى المدى الطويل، يجب على الولايات المتحدة التنسيق مع بروكسل حول أفضل السبل لتنظيم المساعدة التي تخطط لها “المفوضية الأوروبية”.
• مراقبة وقف إطلاق النار. في إطار اتفاق وقف إطلاق النار الموقَّع في تشرين الأول/أكتوبر، وافقت “اللجنة العسكرية المشتركة” – التي تمثل ضباطاً من “حكومة الوفاق الوطني” و “الجيش الوطني الليبي” المتمركز في الشرق – على اعتماد آلية مراقبة بقيادة ليبية بالتعاون مع عدد محدود من المراقبين المدنيين الدوليين. وقد كلف “مجلس الأمن الدولي” أمينه العام بعرض خيارات أمام البعثة، ومن المفترض أن ينتشر فريق متقدم تابع للأمم المتحدة في المنطقة لتطبيق الاقتراحات. على واشنطن أن تَعْرض مساعدة البعثة في عمليات النقل، والتي تشمل عمليات الإخلاء في حالات الطوارئ إذا لزم الأمر. والأهم من ذلك، يجب أن توفر صوراً لمنطقة وقف إطلاق النار وعمليات الانتشار والانتهاكات بنفس الطريقة التي أبلغت بها “أفريكوم” عن “مجموعة فاغنر” الصيف الماضي. ويشمل ذلك فضح انتهاكات حظر توريد الأسلحة من قبل دولة الإمارات وتركيا إذا لم تلتفت الدولتان إلى التحذيرات بوقف هذه الأنشطة؛ والتهديد بفرض عقوبات في ظل السلطات القائمة؛ والنظر في كيفية مساهمة “أفريكوم” في “عملية إيريني” التي هي آلية إنفاذ الحظر في أوروبا.
• دعم الانتخابات. في إطار المساعدة في مجال الديمقراطية في ليبيا، تملك “الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية” برنامجاً بقيمة 10 ملايين دولار لدعم “المفوضية الوطنية العليا للانتخابات” وبعض المنظمات غير الحكومية، كما فعلت خلال الانتخابات السابقة في البلاد. ولكن في حين يعتبر هؤلاء المستشارون الفنيون أساسيين، إلا أنهم غير كافين لضمان إجراء الانتخابات في موعدها. وفي إطار جولة التصويت هذه، على واشنطن الاضطلاع بدور تنسيقي دبلوماسي كما فعلت في عام 2012. ويجدر بها، بالتعاون مع “شعبة المساعدة الانتخابية” للأمم المتحدة الفعالة للغاية، جمع أصحاب المصلحة المعنيين كافة لضمان تنفيذ المهام المرتبطة بالانتخابات، بدءاً بعملية إصدار بطاقات الاقتراع وصولاً إلى التخطيط الأمني.
ومن خلال تحديد هذه الأولويات الدبلوماسية والأمنية والتقنية، يمكن لإدارة بايدن أن تلعب دوراً أكثر تأثيراً في تعزيز الاستقرار الليبي، والاستفادة من التحالفات الأوروبية، وحماية أمن البحر المتوسط.
بين فيشمان
معهد واشنطن