تؤكّد الغارة الأمريكية على سوريا في 26 شباط/فبراير إصرار واشنطن على أنّ الميليشيات الوكيلة لإيران هي التي نفّذت هجوم إربيل، وأن الضربة جاءت في أعقاب شكوى أمريكية وتحذير أُرسِل إلى الحكومة الإيرانية عبر الاتصالات السرية. ويُظهر هذا الاستخدام الأول للقوة من قبل الرئيس بايدن أن الولايات المتحدة ستستخدم الأداة العسكرية لاستعادة الردع حتى في الوقت الذي تستعد فيه لإجراء محادثات نووية مع طهران.
في الساعات الأولى من يوم 26 شباط/فبراير، قصفَتْ طائرةٌ أمريكيةٌ قاعدةً سوريةً في شرق البلاد [ريف دير الزور الشرقي] تستخدمها ميليشياتٌ عراقيةٌ مدعومةٌ من إيران. وجاءت الغارة رداً على الهجوم الصاروخي في 15 شباط/فبراير الذي تم شنّه على مطار أربيل الدولي، حيث توجد قاعدة رئيسية للتحالف بقيادة الولايات المتحدة. وتؤكّد الغارة على سوريا الإصرار الأمريكي على أنّ الميليشيات الوكيلة لإيران نفّذت هجوم إربيل، وأن الضربة جاءت في أعقاب شكوى أمريكية وتحذير أُرسِل إلى الحكومة الإيرانية عبر الاتصالات السرية. وعلى الرغم من عدم الكشف عن التقييم الدقيق للأضرار، إلّا أن هذا الاستخدام الأول للقوة من قبل الرئيس بايدن يُظهر أن الولايات المتحدة ستستخدم الأداة العسكرية لاستعادة الردع (وإن كان مؤقتاً) حتى في الوقت الذي تستعد فيه لإجراء محادثات نووية مع طهران.
الغارة على البوكمال
أظهَرتْ العملية الجوية الأمريكية في البوكمال، وهي منطقة سورية على الحدود العراقية، استخداماً دقيقاً للغاية ومضبوطاً للقوة. وتُشكّل المنطقة المستهدَفة أهمّ حزام تجمُّع للميليشيات العراقية المدعومة من إيران في سوريا، والتي تعرضت لضربات متكررة من قبل إسرائيل والولايات المتحدة (بشكل منفصل) منذ عام 2018. وتم استخدام هذه المنطقة – لا سيما القاعدة العسكرية التي بنتها إيران في “مجمع الإمام علي” – لتخزين الصواريخ الإيرانية، والطائرات بدون طيار، والمعدات الصناعية العسكرية اللازمة لصنعها وصيانتها.
وتم إلقاء سبع قنابل موجّهة بالأقمار الصناعية تزن 500 رطل (حوالي 227 كغم)، بينما تم إلغاء عملية إطلاق ذخائر أخرى مخطَّط لها لأسباب عملياتية. كما تم استهداف معبر حدوديّ مخصَّص للميليشيات ويؤدّي إلى “قاعدة الإمام علي”، وكذلك ستة منشآت أسلحة داخل القاعدة، علماً بأنّ غياب الانفجارات الثانوية الكبيرة والواضحة يشير إلى عدم احتواء المواقع على ذخائر أو وقود أو متفجرات في ذلك الوقت. وأفادت قنوات الميليشيات العراقية عن مقتل أحد العناصر وجَرْح عدة عناصر آخرين. وكما ورد في العديد من التعليقات الرسمية والغير علنية من قبل مسؤولي الإدارة الأمريكية، كان الهدف من الغارة أن يكون “دفاعياً” و “متناسباً” و “غير تصعيدي”.
وجاء ضَرْب الهدف في سوريا – رداً على التعرُّض للاستفزاز في العراق – بصورة متعمّدة وليس بدون سابقة. وفي هذا الصدد، صرّح وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن بأنّه “واثقٌ” من أنّ العملية الأمريكية استهدفت “الميليشيات الشيعية نفسها التي نفّذت الضربات” في إربيل. ووفقاً لمصادر مختلفة، استهدفت الغارة ميليشيا «كتائب حزب الله» التي صنفتها الولايات المتحدة على قائمة الإرهاب، ونظيرتها المقرَّبة «كتائب سيّد الشهداء». وكان الإصرار الأمريكي على أنّ هاتَين الجماعتيْن المدعومتَين من إيران هما من ارتكبتا الاعتداء قد ارتكز على أدلة دامغة تم الكشف عنها من خلال التحقيق بعد هجوم إربيل. وكانت فائدة الضربات في سوريا هي تقليل مخاطر حدوث انتكاسة سياسية في العراق، حيث قد ترد الميليشيات على الهجمات الداخلية بمحاولة ضرب السفارة الأمريكية مرة أخرى، أو [تؤدي التطورات إلى] انهيار الحكومة، أو طرد المستشارين الأجانب.
تداعيات الغارة
رحّبَ المراقبون من الجانبين المتشدد والمعتدل في أوساط السياسة الخارجية الأمريكية بالضربة وأثنوا عليها بتحفّظ، بينما أعرب المراقبون في المنطقة عن ارتياحهم نظراً إلى الشكوك المُحيطة باستخدام بايدن للقوة ضدّ “شبكة التهديد الإيرانية” في هذه المرحلة المبكرة جداً من رئاسته. علاوة على ذلك، حرصت الإدارة الأمريكية على ضمان عدم ارتداد هذا الاستخدام الأول للقوة سلباً من منظور الأضرار القانونية أو الجانبية.
إن إحدى الرسائل الأساسية التي تحملها الضربة هي أنّ الاستخدام الحكيم للوسيلة العسكرية يبقى ضمن مجموعة الأدوات الأمريكية المتاحة أمام الإدارة الأمريكية الديمقراطية الجديدة. فبعد أن هاجمت الميليشيات بوقاحة عاصمة «إقليم كردستان العراق»، وعرّضت الأمريكيين للخطر وقتلت عراقياً واحداً وفلبينياً واحداً، لم يكن هناك تردد واضح على المستوى الرئاسي الأمريكي بشأن الرد، فقط نقاش حول مكان وتاريخ الضربة. وسبق استخدام القوة إجراء مكالمة هاتفية بين بايدن ورئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي في 23 شباط/فبراير، مما يشير إلى التزام الولايات المتحدة العميق بحماية جهود بغداد المستمرة لتحقيق الاستقرار. وفي الواقع، عملت واشنطن عن كثب مع الحكومة العراقية و«حكومة إقليم كردستان» خلال هذه الأزمة الصغيرة.
وأظهرَت الضربة أيضاً انتقال العديد من التحديات التي واجهتها إدارة ترامب في إيران والعراق وسوريا إلى الإدارة الحالية، لذلك لا يوجد خيارٍ واقعيٍّ آخر سوى اللجوء إلى بعض الأدوات نفسها رداً على [الهجمات التي تشنها الميليشيات]. وستظل سوريا مكاناً محتملاً لشن ضربات انتقامية مستقبلية على وكلاء إيران – وربما لشن هجمات في الاتجاه المعاكس أيضاً، بما في ذلك ضربات الميليشيات على القواعد الأمريكية.
التداعيات السياسية
كانت الإدارة الأمريكية تنوي بَعث رسالة واضحة إلى إيران ووكلائها مفادها أنه لن يتم التسامح مع الهجمات على الأفراد الأمريكيين. ففي حادثة أربيل، أَطلقَت الميليشيات أربعةً وعشرين صاروخاً على قاعدةٍ أمريكيةٍ قريبةٍ من مدينةٍ مكتظّةٍ بالسكّان. وكاد الهجوم يسفر عن وقوع العديد من القتلى الأمريكيين وربما العشرات من الضحايا المدنيين. وبالتالي، نجت المفاوضات النووية المتوقَّعة بين الولايات المتحدة وإيران من اختبار الموت الوشيك أيضاً. وتحظى هذه المحادثات بأولوية قصوى للإدارة الأمريكية، وشكّلَ استخدام القوة خطوة تصحيحيةً لإبقاء هذا الاحتمال حيّاً. ومع ذلك، صرح فريق بايدن علناً وأبلغ إيران بصورة غير علنية من خلال القنوات الخلفية بأن الهجمات على الأمريكيين يجب أن تتوقف إذا أريد للمفاوضات بشأن تخفيف العقوبات والقضايا ذات الصلة أن تنجح.
وحالما يخفّ وقْع الصدمة الناتجة عن استخدام بايدن للقوة في وقتٍ مبكرٍ، ستدرك إيران ووكلائها على الأرجح المزيد من الأمور: إنّ الضربة الأمريكية كانت مُقيّدة عن قصد (على الأقل هذه المرة)، وأنها كانت موجَّهة خارج العراق، وأنها لم تكن سوى نتيجة للهجوم المباشر والواسع النطاق على قاعدة أمريكية. ويشير ذلك إلى أن الميليشيات ستختبر مجدداً المدى الذي سيصل إليه بايدن في خطواته في الأسابيع المقبلة – على الأرجح من خلال استهداف السعودية من العراق (كما فعلت باستخدام الطائرات بدون طيار في 23 كانون الثاني/يناير و 26 كانون الثاني/يناير)، وربما من خلال شن هجمات استقصائية أقل كثافة على المنشآت الأمريكية أو بالقرب منها. وبالفعل، فإن الميليشيات التي ليس لديها أعداد كبيرة من الأفراد في سوريا – مثل «عصائب أهل الحق»، التي قادت التغطية الدعائية لهجوم أربيل – قد تصبح الآن أكثر جرأة، وربما تعتقد أنها في مأمن من الضربات الأمريكية التي تُنفذ عبر الحدود بدلاً من تلك التي تُنفذ داخل البلاد. وبالمثل، قد تشعر طهران بالارتياح “للقتال حتى آخر عربي” إذا اعتقدت أن الانتقام الأمريكي سيقع فقط على الميليشيات وليس ضد «الحرس الثوري الإسلامي» أو الأراضي الإيرانية. وإذا أصبحت الولايات المتحدة منخرطة بشدة أكبر في المحادثات المباشرة، فقد تستنتج طهران أنّ بإمكانها اختبار مدى استعداد واشنطن للتضحية بهذه العملية.
وفي الوقت الحالي، يجب أن تُركّز الإدارة الأمريكية على تنظيم الجانب القانوني لهذه المواجهة من خلال تصنيف «كتائب سيّد الشهداء» وقائدها أبو آلاء الولائي ككيانان إرهابيان، مما يعكس دورهما في هجوم أربيل وعلاقاتهما الطويلة الأمد مع كيانات محددة أخرى مثل «فيلق القدس» التابع لـ «الحرس الثوري الإيراني» و «كتائب حزب الله». كما يجب على الولايات المتحدة أن تَحثّ شركاءها – وخاصة بريطانيا والاتحاد الأوروبي – على حذو حذوها في تصنيف «كتائب حزب الله» على قائمة الإرهاب. ورغم أن هذه الحادثة كانت مثالاً رائعاً على التعاون الأمني بين الولايات المتحدة والعراق، إلا أنه بإمكان تحسين التواصل مع الشركاء الدوليين.
وعلى الجبهة العسكرية، لا بدّ من قيام الولايات المتحدة مؤقتاً بتوفير دفاعاتٍ جويةٍ مكثّفةٍ في منطقة أربيل في حال وقوع المزيد من الهجمات هناك. كما يجب أن تكون مستعدة لقيام الميليشيات بتوجيه انتقامها ضد الهدف الأقرب – حكومة الكاظمي – وأن تُعد نفسها للرد على أي استفزازات كبيرة ضد هذا الشريك من خلال توجيه تحذيرات أخرى لإيران وشن ضربات ضد وكلائها. وأخيراً، عليها تعزيز التغطية الاستخباراتية في منطقة سهل نينوى، لحماية أربيل وضمان عدم قيام أيٍّ من الميليشيات وتنظيم «الدولة الإسلامية» بأي مفاجآت سيئة عند زيارة البابا فرنسيس المنطقة في 7 آذار/مارس.
مايكل نايتس
معهد واشنطن