يكتب الأوروبيون اليوم فصلاً مهماً من فصول التاريخ. بدأ هذا الفصل عندما أعلنت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل فتح أبواب بلادها أمام مئات الألوف من المهاجرين. ولقد بدا هذا الحدث مفاجئاً وفردياً يعبر عن اجتهاد الزعامة الألمانية. ولكنه لم يكن كذلك، إذ أسهمت في صنعه اعتبارات عديدة. ولقد لعبت العوامل الأربعة التالية دوراً رئيسياً في التمهيد للحدث وفي خروجه إلى النور ومن ثم في تداعياته الراهنة والمتوقعة.
1- دور المهاجرين: العامل الأول كان تصميم الألوف من المهاجرين على الانتقال إلى أوروبا. ولقد بدا وراء هذا الإصرار على الهجرة المزيج من مشاعر اليأس من نهاية الحروب ومن الأوضاع البائسة التي عانوا منها، ومن التوق إلى العمل المجدي الذي لا يتنافى مع الكرامة. هذه المشاعر حملت المهاجرين من الشبان على اصطحاب عوائلهم معهم دلالة على أن الإقامة في بلدان المهجر سوف تكون طويلة وربما دائمة.
قبل بروز قضية المهاجرين كان المهاجر يقارن، بأحسن الأحوال، بأولئك الذين يفسدون على القارة صفاءها وثقافتها الراقية وتماسك مجتمعاتها وقواعد السلوك المتحضر التي تحكمها. أما المهاجر في حالة التوتر فكثيراً ما تحول في ذهن المواطن العادي الأوروبي إلى مشروع إرهابي يهدد أمن الأوروبيين وحياتهم. فبدلاً من مقارنته بالأفراد الميالين إلى العنف، وبالعاطلين عن العمل الذين يتكسبون من الضمانات الاجتماعية والخروج عن القوانين والأعراف التي تحكم المجتمعات الأوروبية، أي الصورة المتداولة في الأوساط المناهضة للمهاجرين، بدأت تتكون عبر رحلة الهجرة إلى أوروبا أن أولئك المهاجرين هم من الشبان (والشابات) المسالمين، المجدين في عملهم الذين يحترمون القيم والقوانين. في إصرارهم على الهجرة إلى أوروبا، بدا أولئك المهاجرون وكأنهم يرددون بعضاً من كلمات طارق بن زياد قائلين: البحر من ورائنا، وأوروبا حيث الأمان وحرية الإنسان وكرامة البشر أمامنا، فأين الخيار؟
2- دور الرأي العام الألماني، تقول صحيفة «الفايننشال تايمز»الانجليزية أن الألمان بدوا وكأنهم وجدوا في قضية اللاجئين فرصة للتخلص من إرث التعصب القومي الذي مثلته النازية ولتأكيدهم التزامهم بمبادئ التضامن الإنساني. ولربما كان صحيحاً بعض الشيء، ولكنه لا ينصف الألمان لأنه يصنف موقفهم من هذه القضية وكأنه فرصة للحصول على شهادة حسن سلوك وللتخلص من الشعور بالذنب. والحقيقة أن قضية المهاجرين هي ليست المرة الأولى التي يعبر فيها الألمان، خاصة المتنورين منهم، عن مثل هذه المشاعر. فعلوا ذلك عندما سعوا إلى قيام الاتحاد الأوروبي ومنه إلى تحقيق السلم القاري. كذلك كان موقفهم من اللجوء المتكرر إلى الحروب في العلاقات الدولية كما حدث في الحرب على العراق. أما الموقف من المهاجرين فإنه يعبر عن مزيج من التأثر الشديد بالآلام والأخطار التي تعرض لها اللاجئون على الطريق إلى أوروبا، والتخوف من تراجع عدد سكان القارة وما ينجم عن ذلك من نتائج سلبية اجتماعية واقتصادية تطال شعوب القارة وخاصة الشيوخ منهم.
3- دور المتغيرات الأوروبية والعالمية. ففي أوروبا اليوم تحول مهم بعيداً عن النظريات التي استولت على العقول والمخيلات بعد نهاية الحرب الباردة، أي تلك التي أطلقها الليبراليون الجدد في أوروبا والمحافظون الجدد في الولايات المتحدة والبليريون داخل اليسار الأوروبي. لقد أطفأت تلك النظريات التوازن الذي كان قائماً بين اليمين واليسار وألغت دور الوسط، وخلقت مناخاً من الديماغوجية الفكرية الذي نما في ظله التفاوت الكبير في المداخيل بين الطبقات الاجتماعية فازداد الأغنياء غنى والفقراء فقراً، وترسخت خلاله الأنظمة المطلقة التي رعت هذا التفاوت. وخلال تلك الفترة، ورغم الترويج للعولمة، فقد ترسخ التعصب القومي والديني والعرقي على حساب التراحم الإنساني. مقابل هذه الفترة فإن أوروبا التي تستقبل المهاجرين بحفاوة وتختار ممثلين يعبرون عن مشاعر المهمشين والمضطهدين، تدخل مرحلة جديدة تتأكد فيها مشاعر التضامن الإنساني.
4- دور أنجيلا ميركل، العامل الرابع تمثل في شخصية ميركل التي تحير الكثير من متابعي سياساتها. فهناك من يصف المستشارة الألمانية بأنها تتبع سياسة هادئة وتقليدية إلى أبعد مدى، وأنها تتجنب دخول المنحنيات الحادة والمعارك العاصفة. ويجد البعض في ميركل نقيضاً لشخصية الزعيم الكاريزمي إلى درجة أن بعض النقاد وصفوها بأنها «مثيرة للضجر». إلا أن ما أتته المستشارة الألمانية ينقض هذه النظرية. فالزعامة الكاريزمية تبني المؤسسات وتسن القوانين وتفرض على الآخرين الالتزام بها، ولكنها لا تتردد في الانقلاب على هذه هذه المؤسسات وتجاوزها إذا وجدت هذا الأمر ضرورياً. هذا الوصف لسلوك الزعامة الكاريزمية ينطبق، بصورة من الصور على ميركل. فحكومتها أيدت قوانين دبلن وأجندة الهجرة الأوروبية اللتين فرضتا القيود على حركة المهاجرين. ثم أنها أعلنت مراراً «موت التعددية الثقافية» مما فسر بأنه موقف متشدد من الهجرة ومن طالبي اللجوء السياسي. ولكن ميركل غيرت موقفها تغييراً كبيراً عندما فتحت أبواب ألمانيا أمام اللاجئين.
فضلاً عن ذلك، فإن الزعامة الكاريزمية لا تقف ضد عمل المؤسسات التمثيلية، وإذا كانت تعمل في إطار ديمقراطية متقدمة مثل ألمانيا فإنها لا تملك تجاوزها. ولكن الزعامة الكاريزمية نفسها قد تلجأ إلى خارج هذه المؤسسات لاستطلاع آراء المواطنين، وفي بعض الأحيان لشرعنة سياسات ومواقف تختارها، و للضغط على النافذين في المؤسسات التمثيلية وجرهم للموافقة على خياراتها وميركل تتبع مواقف الرأي العام وتحرص على ضمان تأييده للحكومات التي ترأسها. وسعياً إلى تحقيق هذه الغاية فقد تردد في الصحافة الأوروبية أنها كانت وراء تنظيم 600 استطلاع للرأي حول موقف الناخبين الألمان بين عامي 2009 و2013. ومن المرجح أن هذه الاستطلاعات دلت على أن موقف الرأي العام الألماني تجاه الهجرة يتغير لصالح المهاجرين وليس ضدهم.
لقد فتحت ميركل ومعها الرأي العام الألماني أبواب ألمانيا وأوروبا ليس فقط أمام المهاجرين، وإنما أمام تحولات مهمة سوف تطرأ على القارة الأوروبية. إن انعكاس هذه التحولات على سياستها تجاه الجيران سوف يضاعف من أهميتها الدولية.
رغيد الصلح
صحيفة الخليج