أيّاً تكن التحولات الكبيرة التي شهدتها سورية بعد عشر سنوات على ثورتها، سياسياً وعسكرياً واجتماعياً، تبقَ النتيجة واحدة: نظام حاكم اغتال شعباً كاملاً. فمن نجا من الموت والتعذيب والتهجير والفلتان الأمني، غرق في أزمات اقتصادية واجتماعية قاسية، في بلد بات تحت سيطرة خارجية شبيهة بالانتداب، بعدما باع نظام بشار الأسد قراره لإيران ثم روسيا مقابل البقاء بالسلطة، ليقود سورية إلى دمار شبه كامل والسقوط في دوامة من الدم والانهيار، لا تبدو نهايتها قريبة.
وتدخل الثورة عامها الحادي عشر من دون أي أفق لحل سياسي في ظل مؤشرات مرعبة، إذ سقط خلال السنوات العشر الماضية نحو 388 ألف قتيل على أيدي أطراف النزاع المختلفة، النظام والمليشيات الموالية وروسيا وإيران، أو المعارضة والتنظيمات المتشددة، بالإضافة إلى اعتقال نحو 100 ألف، وقتل نحو 100 ألف آخرين تحت التعذيب. كذلك هُجّر نحو 6.7 ملايين شخص من بيوتهم، ولجأ 5.6 ملايين شخص إلى خارج حدود سورية، مع تسجيل خسائر اقتصادية قدّرتها الأمم المتحدة بنحو 440 مليار دولار، ووصول 90 في المائة ممن يعيشون في الداخل السوري إلى ما تحت خط الفقر. هذه الفاتورة الضخمة لقمع ثورة شعب حلم بالحرية والكرامة، لا تؤرق النظام الذي يستعد لإعادة انتخاب بشار الأسد رئيساً لولاية جديدة، من دون الاكتراث بكل قرارات الشرعية الدولية، وبكل ما خلّفته السنوات العشر الماضية من دمار وتهجير واختفاء قسري وانهيار اقتصادي عام، لا يزال السوريون يدفعون ثمنه منذ بداية ثورتهم.
وقد اتخذ النظام قراراً بمواجهتها عسكرياً منذ انطلاقتها، فواجه المتظاهرين السلميين بالرصاص الحيّ، وبدأ بالترويج لمؤامرة خارجية معتبراً المتظاهرين جزءاً منها. ومع اتساع نطاق التظاهرات السلمية التي عمّت كل المحافظات السورية، اتخذ النظام قراراً بتسخير كل إمكانات الدولة لمواجهة الاحتجاجات، مستعيناً بالجيش الذي بدأ باقتحام المدن والبلدات التي تشهد تظاهرات. ومع دخول الجيش خط المواجهة مع المتظاهرين، انشق آلاف العناصر والضباط بشكل فردي وبدأوا بتشكيل فصائل عسكرية، انضم إليها مدنيون كان الهدف منها حماية التظاهرات السلمية، ثم تحولت لاحقاً إلى ما سُمِّي “الجيش السوري الحرّ” الذي بدأ ينتزع مناطق من جيش النظام.
عمل النظام على صناعة تنظيمات لتسويق نفسه محارباً للإرهاب
بالتوازي مع ذلك، شُكَِل “المجلس الوطني” كجهة سياسية تمثيلية للثورة في أكتوبر/ تشرين الأول 2011، وكسب تأييداً دولياً من الدول التي اتخذت موقفاً منحازاً للثورة. وكان الموقف الدولي المنحاز إلى الثورة منقسماً إلى مستويين: الأول هو موقف الدول الإقليمية، وفي مقدمتها تركيا وقطر والسعودية، التي قدمت دعماً سياسياً ولوجستياً ومادياً لكل من “المجلس الوطني” و”الجيش السوري الحرّ”. والمستوى الثاني كان موقف الدول الغربية ولا سيما الولايات المتحدة، التي كان موقفها لا يتعدى الموقف المنحاز إلى الثورة كلامياً، فيما واقعياً كانت سياستها تقوم على عدم التدخل، بل تسعى إلى الحفاظ على حالة استعصاء عسكري بين النظام والمعارضة. تنظيمات
راديكالية وروسيا
في المقابل، عمل النظام الذي كانت تتحكّم إيران بقراراته خلال السنتين الأوليين من الثورة، على صناعة تنظيمات راديكالية من أجل تسويق نفسه كمحارب للإرهاب. ففي منتصف عام 2011 أفرج النظام عن كل قيادات وعناصر التنظيمات المتهمة بالإرهاب الذين كانوا معتقلين في سجن صيدنايا الشهير، ليصبحوا ضمن قادة التنظيمات المتشددة التي شُكلت لاحقاً في سورية. وبالتوازي مع تشكيل فصائل “الجيش السوري الحرّ”، تأسّست “كتائب أحرار الشام” عام 2011، التي اتّحدت في عام 2013 تحت اسم حركة “أحرار الشام الإسلامية”، كذلك شُكِّلَت “جبهة النصرة” كتنظيم تابع لـ”القاعدة” مطلع عام 2012، وانشق عنها تنظيم “داعش” في عام 2013. وشُكِّلَ “جيش الإسلام” في الغوطة الشرقية في دمشق عام 2013.
واستطاعت هذه التنظيمات تأمين ذريعة للنظام وحلفائه بأنه “يحارب إرهاباً لا ثورة”، كذلك إن تعاطي الجهات التمثيلية والعسكرية للثورة بإيجابية مع هذه التنظيمات، لكونها تحارب النظام، أسهم بمساعدة الأخير في التسويق لفكرة صبغ الثورة بصبغة الإرهاب، خصوصاً أن تلك التنظيمات كانت أكثر تمويلاً من “الجيش السوري الحرّ”. الأمر الذي ساعدها على السيطرة على مساحات واسعة على حساب النظام. ومع ظهور تنظيم “داعش”، تنبّهت قوى الثورة لخطورته عليها، فطردت عناصره من كل محافظة إدلب عام 2014، ليبدأ التنظيم بالتوسع في محافظة الرقة، بعد انسحاب حركة “أحرار الشام” منها. إلا أن الجهات التمثيلية السياسية للثورة والفصائل العسكرية، بقيت تتعاطى بإيجابية مع “جبهة النصرة” وباقي التنظيمات الراديكالية، لأن معظم عناصرها سوريون يقاتلون ضد النظام.
واستطاعت فصائل المعارضة، بالتعاون مع تلك التنظيمات، تحقيق انتصارات على النظام، دفعته في عام 2013 إلى ارتكاب مجزرة بالسلاح الكيميائي المحرّم دولياً في غوطة دمشق الشرقية والمعضمية، وقُتل خلالها نحو 1500 شخص. في مطلع عام 2015، كانت فصائل المعارضة والتنظيمات المتشددة ما عدا “داعش” قد سيطرت على مساحات واسعة من الجغرافية السورية في إدلب وحماة وريف دمشق وريف اللاذقية وريف حلب، بالإضافة إلى الجنوب السوري، وكان تنظيم “داعش” قد سيطر على محافظتي الرقة ودير الزور.
نجحت روسيا في تثبيت النظام وتمكينه من استعادة السيطرة على كثير من المناطق التي خسرها
وبدأت فصائل الغوطة تهدد باقتحام دمشق، فطلب بشار الأسد من روسيا التدخل من أجل منع انهيار نظامه بعدما فشلت المليشيات الإيرانية في هذه المهمة، فكان التدخل الروسي في 30 سبتمبر/ أيلول 2015. ونجحت روسيا في تثبيت النظام وتمكينه من استعادة السيطرة على كثير من المناطق التي خسرها، كذلك دعمته عام 2016 لاستعادة السيطرة على مدينة حلب، مستخدمة سياسة الأرض المحروقة التي دمرت من خلالها مدناً بكاملها من دون أي تدخل من المجتمع الدولي الذي اكتفى بالتنديد بالمجازر.
التحولات السياسية
كانت الجهات التمثيلية للثورة تتمثل سياسياً بـ”المجلس الوطني”، الذي استمر عاماً واحداً، وشكّل أعضاؤه بالتشاور مع عدد من الدول المنحازة للثورة جسماً جديداً هو “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة” في نوفمبر/ تشرين الثاني 2012، الثابت حتى الآن. وهو جسم سياسي يضم أحزاباً وأفراداً ممثلين عن قوى الثورة والمعارضة السورية. أخذ الائتلاف زخماً كبيراً في بداية تشكيله، وكان قاب قوسين من أخذ مقعد سورية في جامعة الدول العربية، إلا أن دوره بدأ بالتراجع لاحقاً لأسباب كثيرة، منها عمل روسيا والنظام على خلق منصات بديلة وتسويقها على أنها “معارضة” بهدف تقسيم صفوف المعارضة، وفرض تلك المنصات خلال التشكيلات التي أسست لاحقاً، بالإضافة إلى تراجع الدعم الدولي للائتلاف بسبب التنافس بين الدول الإقليمية للسيطرة على قراراته. إلا أن السبب الأهم يعود إلى انفصال الائتلاف عن القوى الثورية في الداخل، وعن التشكيلات العسكرية المعارضة، الأمر الذي أفقده القدرة على تنفيذ مخرجات ما يُتَّفَق عليه مع الدول، أو مع النظام.
أواخر عام 2015، وبعد صدور قرار مجلس الأمن 2254 الخاص بالحل السياسي في سورية، وإنشاء هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات، شُكِّلَت الهيئة العليا للتفاوض، كجهة تمثيلية أخرى للمعارضة، التي ضمت “الائتلاف الوطني” و”هيئة التنسيق الوطنية” وممثلين عن الفصائل العسكرية، بالإضافة إلى مستقلين، بهدف إجراء مفاوضات مع النظام وفق قرار مجلس الأمن، لكن النظام عطّل معظم جلسات المفاوضات، ولم تتمكن من تحقيق أي تقدّم. في عام 2017، وبضغط من روسيا، أعيدت هيكلة هيئة التفاوض وأضيف إليها ممثلون آخرون، كمنصة القاهرة ومنصة موسكو على حساب تمثيل الائتلاف، فيما مُيِّع قرار مجلس الأمن 2254 من خلال المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا، الذي حوّل هذا القرار إلى أربع سلال (هيئة حكم انتقالية، الدستور، انتخابات، مكافحة الإرهاب)، وتوقفت جميعها بسبب مماطلة النظام، واختُصرت بإنشاء لجنة دستورية عام 2019 فشلت في تحقيق أي تقدم حتى الآن.
وبالتوازي مع مسار جنيف القائم على حل القضية السورية بموجب قرار مجلس الأمن 2254، شكّلت روسيا بالتوافق مع كل من تركيا وإيران مساراً سياسياً آخر، عُرف بمسار أستانة، استطاعت موسكو من خلاله استعادة كل المناطق التي سيطرت عليها المعارضة في فترة سابقة من خلال ما عرف باتفاقيات خفض التصعيد. واستعاد النظام السيطرة على كل من ريف حمص الشمالي والغوطة الشرقية بدمشق ومحافظة درعا وجزء من محافظة إدلب.
فشل إيجاد البديل
يرى كبير المفاوضين السابق في هيئة التفاوض المعارضة، محمد صبرا، في حديث مع “العربي الجديد”، أن “الثورة السورية كانت تفتقر إلى إطار سياسي مرجعي يحدد مطالبها وينظم برنامج عملها”، معتبراً أن هذا أمر طبيعي جداً باعتبارها ثورة شعب وليست حركة سياسية مؤطرة. ويضيف: “هذا الغياب للإطار السياسي المحدد لأهداف الثورة وبرنامجها، نظر إليه البعض على أنه شكّل نقطة سلبية في الثورة، مع أنه من وجهة نظري كان النقطة الإيجابية الأبرز، لأنه يثبت أصالة الثورة وعمقها الاجتماعي وانتماءها إلى الفئات الشعبية صاحبة المصلحة الحقيقية في عملية التغيير، فالثورة لم يكن مطلوباً منها تقديم برنامج سياسي لها، لأنها لو فعلت ذلك، لكانت أشبه بانقلاب يقوده حزب أو تيار سياسي”. ويعتبر صبرا أن “دور الثورة تحطيم البنية الخامدة للسلطة وتفكك روابطها الممتدة وشبكة سيطرتها على المجتمع، وهو ما نجحت به الثورة السورية منذ نهاية عام 2012. وهنا كان من المفترض أن تقوم المعارضة السياسية، أي التيارات والأحزاب السياسية، بصياغة خطاب سياسي وتأطيره بشكل برنامج عمل واقعي لخلق البديل للبنية التي تمّ تحطيمها. وللأسف كانت كل التيارات السياسية قاصرة في قدرتها على خلق مثل هذا الخطاب، الذي يمكن أن يتحول إلى برنامج عمل قابل للتحقيق”. ويشير إلى أنه “تم تلفيق مجموعة من الكيانات السياسية بفعل تدخل إقليمي لتكون هي المعبّر عن الثورة، ولعل أغرب ما في هذه الكيانات افتقادها لوجود تيارات سياسية حقيقية تتحالف فيها، ومن خلالها، لتقديم برنامج عمل موحد”.
طلب الأسد من روسيا إنجاده عام 2015 بعد فشل إيران بذلك
ويلفت إلى أن “هذه الكيانات كانت عبارة عن تيار سياسي واحد، هو الإخوان المسلمون، وإلى جانبه مجموعة من الأفراد الذين شكّلوا المجلس الوطني أولاً ومن ثم الائتلاف الوطني، في ظاهرة طاردة للسياسة ونافية لفكرة العمل السياسي. فمفهوم التحالف أو الائتلاف السياسي يجب أن ينشأ بين تيارات سياسية وليس بين تيار وأفراد أو بين أفراد، وهذا ما عرقل عملياً عمل مؤسسات المعارضة، لأن شروط تشكيلها كانت تماماً هي عين قصورها عن الفعل وعن القدرة على التأثير”.
برامج متناقضة وصراعات دولية
من جهته، يرى الكاتب والصحافي ميشيل كيلو، أن “سبب وصول الثورة إلى الحال الذي وصلت إليه، عدم وجود برامج وخطط استراتيجية”، موضحاً في حديث لـ”العربي الجديد” أن “لا ثورة بلا برامج وخطط واستراتيجية وقيادة موحدة قادرة على توحيد كتلة بشرية واسعة ومتنوعة حولها، وتتحكم بمن يحملون السلاح”. ويضيف أنه “لا يمكن الثورة أن تنتصر ببرنامجين متناقضين، أحدهما لديه سلاح ويريد دولة إسلامية، والثاني أعزل وملاحق ينشد الحرية التي يعتبرها الأول كفراً وخيانة مثلما يعتبر السياسة خيانة. يضاف إلى ذلك وضع الثورة بين أيدي جماعات لا علاقة لها بالشعب وتفتقر إلى الخبرة السياسية، ووضعت نفسها تحت تصرف أموال الدول الخارجية”.
وعن دور المجتمع الدولي في الثورة السورية، يرى الباحث السياسي رضوان زيادة، أن “الوضع السوري تحوّل إلى ساحة دولية للصراع على ثلاثة مستويات: دولي بين الولايات المتحدة وروسيا، وإقليمي بين إيران من جهة وتركيا والسعودية من جهة أخرى، ومحلي بين قوات النظام والمعارضة”. ويضيف في حديث لـ”العربي الجديد” أنه “مع تعدد اللاعبين الدوليين والإقليميين، تتعقد الساحة السورية ويتعقد معها الحل، والمشكلة الأخرى أن هناك صراعاً في الأولويات في أجندات هذه الدول، وكل ذلك يجري على الساحة السورية وعلى حساب الدم السوري”. ويتابع: “بالتأكيد، الدول الداعمة للنظام كانت أكثر ثباتاً واستمراراً في دعم الأسد، خصوصاً روسيا وإيران اللتين تدخلتا عسكرياً لإنقاذ النظام وتدمير سورية على رؤوس أبنائها مهما كانت التكلفة، والنتيجة هي ما نشهده اليوم من دمار اقتصادي كامل وشعب يعيش 90 في المائة تحت خط الفقر”.
عيسى سميسم
العربي الجديد