ليس العنوان من وحي الخيال ولا فجوة فكرية تحت تأثير نظرية المؤامرة، بل ينضح الواقع العراقي على مدى 18 عاما بما يؤكد هذا القول. ولعلك لا تكاد تسمع يوما يمر، من دون أن تسيل دماء الأبرياء في كل المحافظات، والقاسم المشترك الوحيد بين واقعة وأخرى هو الفاعل المجهول دوما، وبيانات الشجب والاستنكار ولا شيء آخر.
فقد تشارك العالم كله في الغزو والاحتلال، كي ينعم العراقيون بحياة حرة كريمة ليس فيها اضطهاد ولا قتل ولا تعذيب كما زعموا. هكذا كان الشعار الذي سمعناه ومعنا شعوب الأرض جميعا، لكن الأرض تفجرت أنهارا بدماء الأبرياء. لا يوجد مشارك في ذلك الغزو إلا وتلطخت يداه بدماء العراقيين، وتكاد لا توجد ذاكرة عراقية ليس فيها اسم أخ أو أب أو قريب أو زميل أو جار، قُتل على قارعة الطريق، لم يُعرف قاتله حتى اللحظة، بل هنالك من ذهبوا ولم يعودوا حتى اليوم لا أحياء ولا أموات، وما كلّ الأمهات والآباء عن البحث والسؤال، من دون جواب، وما برحت الدماء تستصرخ الضمائر كي تسترد حقها في القصاص. حكومات مرّت ولجان شُكّلت، لكن القاتل ما زال مجهولا حتى اللحظة. وكيف يمكنك أن تجد المجرم والمجتمع الدولي وضع القاتل في مصدر السلطات التشريعية والتنفذية والقضائية، ووضع السارق في منصب من يحمي بيت المال، وأوكل لزعماء الميليشيات إدارة الأجهزة الأمنية والشرطية في البلاد؟ أليس الحاكم المدني الأمريكي هو من شرّع قانون دمج الميليشيات بالأجهزة الأمنية والشرطية؟ مؤامرة دولية إقليمية، لا يهم ما هي التسمية أو التبرير أو الوصف الذي يُطلق على الحالة العراقية. المهم هو ما يحصل على أرض الواقع من استهانة دولية تاريخية كبرى بدماء هذا الشعب.
لقد تحركت أوروبا سريعا نحو أعوانها في السلطات العراقية، حين أنهار تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا، ووقع الكثير منهم في قبضة القوات الكردية السورية، فأرسل العديد من الدول مبعوثيها على أعلى المستويات إلى بغداد. وتشكلت غرف مشتركة بين الأجهزة الأمنية العراقية وأجهزة المخابرات الأوروبية، لحصر عناصر التنظيم ممن يحملون جنسيات تلك البلدان، وضغطوا للإبقاء عليهم في السجون العراقية، كي لا تتوفر لديهم فرصة الهروب والعودة إلى أوروبا، خوفا من الضرر الذي قد يلحق بمواطنيهم، إن عاد هؤلاء، وحماية للأمن المجتمعي. كما دفعوا عشرات الملايين من الدولارات للسلطات العراقية لتغطية نفقات إقامة وحماية هؤلاء في السجون العراقية، وبناء سجون جديدة أخرى. وعلى الرغم من أن هذه الدول تجاهر ليل نهار بأنها تتعامل مع الأصدقاء والحلفاء والشركاء وحتى الأعداء، بنبرة ما يقولون عنه القيم الأوروبية والأمريكية، وحقوق الإنسان جزء رئيسي فيها، فإننا لم نجد بيانا واحدا يستنكر القتل الأعمى، الذي يحدث يوميا في العراق، على الرغم من أن الكثير من المسؤولين في السلطات العراقية هم من رعايا هذه الدول ويحملون جنسياتها، بل حتى الولايات المتحدة الأمريكية الفاعل الأول في الغزو والاحتلال، التي ما زالت فاعلا رئيسيا في الساحة العراقية، لم نجد ما تقول عنه الإدارات المتعاقبة في البيت الأبيض، من وضع القيم الأمريكية بخصوص حقوق الإنسان في قلب السياسية الأمريكية الخارجية، ولم نر له أي صدى في العلاقة مع السلطات في بغداد، بل وجدنا الدعم والإسناد، ومنح الشرعية لهذه السلطات الملطخة أياديها بدماء الأبرياء من العراقيين. كما أن المنظمات الدولية الأممية والحقوقية والإنسانية والقانونية، ما زالت حتى اليوم عاجزة عن تحويل التقارير، التي تدين بها السلطات العراقية إلى فعل ملموس، لأسباب ذاتية وموضوعية كثيرة. أليست هذه حقوق إنسان تنتهك في العراق؟ أم أن حقوق الإنسان مجرد ملفات دُرج تُسحب للابتزاز السياسي، وتعاد إلى مكانها، من دون فعل حقيقي حين تتحقق مصالح هذه البلدان؟
النموذج الكارثي والفوضوي الذي يعصف بالعراق اليوم، لا يسمح بإنتاج معادلة يؤمّن عبرها الاستقرار والأمان لمواطنيه
لقد بات في حكم المعتاد أن تفيق المحافظات العراقية والمدن والقرى والأحياء فيها كل يوم على وقع جريمة قتل فردية أو جماعية، ففي يوم الجمعة الماضي حدثت مجزرة مروعة في إحدى قرى محافظة صلاح الدين راح ضحيتها 7 أشخاص من عائلة واحدة، بينهم نساء وأطفال. كما حصلت قبلها حوادث مشابهة اعتمدت أسلوب القتل الجماعي، لكن رد فعل السلطات السياسية والأمنية على هذه الحوادث وفي هذه المناطق بالذات يثير الاستغراب حقا، لأنها دائما ما تُسارع بكل ارتياح لإلقاء الجريمة على عناصر تنظيم الدولة، بعد ساعات معدودة من الواقعة. وتفسير هذا الظاهرة يشير الى أن السلطات تتعامل مع هذه المناطق وفق نظرة طائفية. فبما أنها غالبا ما تتهم سكان هذه المناطق بأنهم حواضن التنظيم، فإنها تريد القول لهم إن من يقتلونكم هم أبناؤكم، وليس لكم إلا العمل معنا كمتعاونين أمنيين على بعضكم بعضا، والسماح لعناصر الميليشيات الماسكة للأرض بابتزازكم وسرقة محاصيلكم ومواشيكم، أو أن الدولة غير مسؤولة عنكم وما يصيبكم، لذلك نجد في كل مرة أن صيغة اتهام السلطات لتنظيم الدولة بهذه الأفعال، وكأنها إعلان عن إخلاء مسؤوليتها عن الحادث. علما أن الحوادث التي حصلت مؤخرا في هذه المناطق كان من يمسك الأرض فيها هي الميليشيات المسلحة.. وهذا منطق غير أخلاقي تماما، ولا يشير لا من بعيد ولا من قريب إلى أن هنالك دولة وسلطات، فحتى لو كان الفاعل هو من عناصر تنظيم الدولة، فإن المسؤولية السياسية والأخلاقية والقانونية تتحملها السلطات وليس المواطن، لأن من أولى واجبات أجهزة الأمن والجيش هو حماية المواطنين من كل العابثين بالأمن. وإذا وجدت السلطات تنظيم الدولة خير شمّاعة لتعليق فشلها في توفير الحماية للناس في هذه المناطق، في الوقت الذي صدعوا الرؤوس بالانتصار على التنظيم، ومحو وجوده على الأرض، فإنها ذهبت إلى تحميل العشائر مسؤولية القتل الفردي الذي يحصل يوميا في مناطق الوسط والجنوب، رغم أن أي مواطن في هذه المناطق بات يعرف تماما أن الفاعل هم الميليشيات المسلحة. وقد كان آخرها اختطاف ناشط مدني من قبل أحد الميليشيات في محافظة ميسان، وعندما ظهر والده على وسائل الإعلام مُحمّلا تلك الجهة مسؤولية خطف ولده قاموا بقتله، لتبرر السلطات القتل بأنه كان بسبب خلافات عشائرية.
إن النموذج الكارثي والفوضوي الذي يعصف بالعراق اليوم، لا يسمح بأي حال من الاحوال إنتاج معادلة يؤمّن عبرها الاستقرار والأمان لمواطنيه، بل بات ساحة صراعات دولية وأقليمية وتصفيات طائفية ميليشياوية. كما أصبح مقياس نجاح السلطات فيه هو إلقاء المسؤولية على الميليشيات والجماعات الإرهابية المسلحة، ومن دون الاهتمام بالأمن الانساني. وهنا يبرز الدور الكارثي الذي يمارسه رئيس مجلس الوزراء، فالحقيقة الملموسة هي أن رئيس السلطة التنفيذية يطحن المجتمع من خلال غضه النظر عما تفعله هذه المجاميع المسلحة، وهذه لعبة عالية المخاطر، فحتى الان وعلى الرغم من تكرار حوادث القتل فإنه لم يبين لنا ولو مرة واحدة، أنه قادر على فعل شيء يحمي المواطنين. الفعل الوحيد القادر عليه كما رأينا هو حضور مجالس العزاء التي يقيمها ذوو الضحايا، وهو ليس واجب المسؤول الأول في الدولة. كما حلّ التعزيز المفرط في الوعود والرضا عن الذات الذي سيطر على كل استجابته للمشاكل الأمنية، محل العمل الحقيقي القائم على ضرورة تحقيق الأمن لكل مواطن. لذلك كل الكوارث التي حصلت في عهده لم نجد لها وقعا قويا في تغيير سلوكه السياسي، وتكون حافزا له للتخلي عن الوعود والعمل على الأرض. بينما تنثر حاشيته الورود والحلوى على شكل بيانات للشعب العراقي، عقب كل اتصال يتلقاه من زعيم دولة. ولا غرابة في ذلك لأنه يعتقد أن علاقاته الخارجية التي نسجها عندما عمل رئيسا لجهاز المخابرات، ووظف فيها إمكانيات وموارد هذا الجهاز لتقديم خدمات خارجية لدول عديدة، لتعزيز أمن مواطنيها من تنظيم الدولة، هي أهم من أن يكشف للعراقيين ما هي الجهات التي تقتلهم. وها هو ما زال حتى اليوم عاجزا عن صنع أمن يحتاجه كل مواطن.
مثنى عبدالله
القدس العربي