منذ تكشّف غبار معركة الانتخابات الأميركية، ونزل ترامب عن ظهر بغلته وتركها، مرغماً، لخلفه الديمقراطي بايدن، وأزماتٌ كثيرة عصفت في منطقة الشرق الأوسط وحتى شمال أفريقيا بدأت تتنفس الصعداء، ليس لأن ترامب كان بمثابة حجر عثرة في وجه تسويتها، ولكن لأنه، ببساطةٍ، رأى أن الولايات المتحدة غير معنية بكل تلك الأزمات، ما جعل الأخيرة نهباً وصراعاً لقوى أخرى صاعدة وجدت في هذا الانسحاب الأميركي من مشكلات العالم والمنطقة ضالتها، ما زاد من وتيرة تلك الصراعات، وأدخلها في أتون تعدّد الأقطاب الفاعلة فيها، بعد أن كان الفاعل، على الأغلب، واحدا، وهي الولايات المتحدة بحكم كونها القطب الأوحد في عالمٍ تشكّل على أنقاض صراعاتٍ وحروبٍ عالمية دامية.
ويبدو أن 2021 سيكون بمثابة عام التسويات، وليس لأن الولايات المتحدة أُم رؤوم، تسعى إلى إنقاذ العالم من أزماته، بقدر حاجتها الآنية لتهدئة ملفاتٍ كثيرة وتبريدها؛ وفي مقدمتها ملفات الشرق الأوسط، بغية التفرّغ لمشكلات أعقد، سواء التي ضربت المجتمع الأميركي وانقسامه، العمودي والأفقي، عقب الانتخابات الرئاسية، أو لمواجهة التنين الصيني الذي نجح في الاستفادة من التراجع الأميركي والانكفاء داخلياً خلال سنوات ترامب الأربع، وبات هذا التنين ينازع هيمنة واشنطن في معقلها.
التسويات الأميركية لأزمات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بدأت، ولعل ما جرى في ليبيا وما يجري حالياً في اليمن، ومعه أزمة النووي الإيراني، وما يتم رسمه لنهاية الأزمة السورية، وصولاً إلى العودة إلى “حل الدولتين” شعارا لإنهاء الصراع الاسرائيلي الفلسطيني، كلها مؤشّرات على أن إدارة بايدن تسعى إلى تسويات عاجلة.
الولايات المتحدة تحاول أن يكون العراق بعيداً عن المسعى الإيراني، مع إدراكها جيداً أنها لا تملك أوراقا كثيرة لفعل ذلك
وفي أثناء هذا السعي الأميركي إلى تبريد ملفات المنطقة، يجد العراق نفسه واقعاً بين رغبات مختلفة، فكما تعمل إيران على استخدامه ورقة للتفاوض بغرض الحصول على مكاسب جديدة، فإن الولايات المتحدة تحاول، هي الأخرى، أن يكون العراق بعيداً عن المسعى الإيراني، مع إدراكها جيداً أنها لا تملك أوراقا كثيرة لفعل ذلك. تقابل هذا رغبة عراقية في أن يستغلّ العراق هذا الظرف الدولي الذي ربما لم يتهيأ سابقاً؛ من أجل إبعاده عن تنافس الإقليميين والدوليين، على الرغم من ضعف الإمكانات لذلك، وخصوصا الحكومية، التي سعت في الفترة الماضية إلى طرح نفسها أرضية لتفاوض القوى المتصارعة إقليمياً، حيث كشف مستشار رئيس الحكومة، مشرق عباس، في جلسةٍ حواريةٍ عبر تطبيق كلوب هاوس، عن لقاءاتٍ جرت بين أطراف إقليمية متصارعة في بغداد، في إشارة ربما إلى لقاءات إيرانية سعودية برعاية عراقية.
أدوات الحكومة العراقية لإخراج البلاد من حلبة التنافس والصراع لا تبدو كافية، فهي ضعيفةٌ وغير قادرةٍ حتى على تحييد الأطراف المسلحة التابعة لها ضمن هيئة الحشد الشعبي، ناهيك طبعاً عن السلاح الذي في حوزة الأحزاب والمليشيات، ومعه تغلغلها، ضمن أطر الدولة العسكرية المختلفة. لكنها تدرك جيداً أنها تستند إلى قوةٍ لا يمكن الاستهانة بها مطلقاً، والمتمثلة بقوة الشارع العراقي الرافض للهيمنة الإيرانية وهيمنة أحزابها ومليشياته الولائية، والذي تجسّد خير تجسيد في ثورة تشرين التي انطلقت في 2019 وما زالت جذوتها باقية.
وقد باتت هذه القوة الشعبية ترعب، وبشكل كبير، الأحزاب السياسية ومليشياتها التابعة لإيران، حتى أكثر من خشية تلك القوى المسلحة من حرس إيران الثوري الذي تتبع له، فالمحافظات العراقية، الجنوبية تحديداً، باتت ترفع صوتها عشائرياً هذه المرّة، وليس فقط شعبياً، من أجل الوقوف بوجه التغول الإيراني، ما يلزم تحرّكاً لا يبدو أن هذه المليشيات قادرة عليه. وقد دعا بيان لشباب ثورة تشرين، أخيرا، إلى تظاهراتٍ عارمة أمام السفارة الإيرانية في بغداد والقنصليات الأخرى في المحافظات، رفضاً لتدخلاتها في الشأن العراقي، وهي رسالة تسعى حكومة مصطفى الكاظمي إلى استغلالها من أجل توجيهها إلى طهران التي باتت غارقةً، أكثر من أي وقت مضى، بمشكلات تدخلاتها في العراق والمنطقة، بعد أن كانت تحسبها أوراق تفاوض، يمكن اللعب بها في أي تفاوضٍ قادم مع واشنطن.
على رئيس الحكومة، مصطفى الكاظمي، وفريقه أن يدركا أن اللحظة مواتية لإسماع إيران ما لا تحبّ
هناك اليوم نقمة عشائرية وشعبية عارمة في مدن جنوب العراق، بعد تكرار حوادث الاغتيال والاختطاف التي طاولت النشطاء ورافضي الوجود الإيراني في العراق، يقابلها استنزافٌ ممنهج تقوم به تلك المليشيات للحد من هذه التظاهرات والمطالبات، حيث تشير مصادر عراقية إلى نية تلك المليشيات تنفيذ اغتيالات جديدة بحق النشطاء والمتظاهرين، وسيلة أخيرة لردعهم عن استمرار مطالبتهم بوقف التدخل الإيراني، وحل مليشياتها الولائية في العراق.
وعلى رئيس الحكومة، مصطفى الكاظمي، وفريقه أن يدركا أن اللحظة مواتية لإسماع إيران ما لا تحبّ، أن العراق لم يعد ساحة مفضلة، وعليها أن تعيد ترتيب أوراقها، فالحكومة لن تتمكّن، في لحظة فارقة قد لا تكون بعيدة، من الوقوف حائلاً بين الشعب الغاضب والنفوذ الإيراني المتمثل بالمليشيات وأحزابها، ويبدو أن ذلك ما تخطّط له حكومة الكاظمي، من خلال غضّ الطرف عن كثير من جرائم تلك المليشيات، وخصوصا التي جرت، أخيرا، في مدن جنوب العراق، فهل سيجد العراق مكانا له على طاولة عام التسويات؟ أم أن إيران قد تنجح مجدّداً في إبعاد درّة التاج الإمبراطوري الفارسي عن أي تسوية مقبلة.
إياد الدليمي
العربي الجديد