تعلم إيران أن نفوذها السياسي والعسكري في سوريا مهما تعمّق واتّسع يظل رهن تغيّر الأوضاع وتبدّل الأمزجة السياسية لمن يقومون على حكم البلاد، وأنّ البيئة الاجتماعية السورية لا توفّر لها نفس الأرضية العقائدية والطائفية التي تجدها بقدر أكبر في العراق ولبنان، ولذلك شرعت في إيجاد تلك البيئة وإنشائها عبر محاولة دفع شرائح من السوريين نحو التشيّع مستغلّة أوضاعهم التي أصبحت على درجة كبيرة من الهشاشة بعد عقد من الحرب المدمّرة.
دمشق – تمثّل سوريا حلقة بالغة الأهمية في منظومة النفوذ المترابطة التي تعمل إيران منذ سنوات على مدها غربا وصولا إلى ضفة البحر المتوسط، لكن البيئة الاجتماعية والعقائدية السورية لا توفر للإيرانيين نفس الميزة المتوفّرة في كل من العراق ولبنان، حيث يساعد العدد الكبير للشيعة في البلدين الإيرانيين على توطيد نفوذهم واستدامته دون الحاجة إلى اللجوء إلى سلاح الوكلاء في كلّ الحالات، رغم ما لذلك السلاح من أهمية في الحفاظ على سطوة هؤلاء الوكلاء وردع خصومهم ومعارضيهم.
وبقدر ما أتاحت الحرب في سوريا لإيران فرصة التدخّل في البلد وزرع ميليشياتها في مناطقه، فقد كشفت لها محدودية التعويل على السلاح وحده لبسط أكبر قدر ممكن من السيطرة عليه في غياب الأرضية الدينية والطائفية الضرورية لاحتضان النفوذ وحراسته، الأمر الذي حتّم اللجوء إلى طرق وأساليب أكثر نعومة ولكنها أعمق تأثيرا.
وتمكّنت طهران بفعل تدخّلها لحماية النظام وإنقاذه من السقوط الذي تهدّده بعد اندلاع ثورة شعبية ضدّه قبل نحو عشر سنوات تحوّلت لاحقا إلى حرب أهلية طاحنة، من تحويل “صداقتها” الكبيرة مع دمشق إلى نفوذ سياسي وعسكري واسع لا يبدي النظام المنهك قدرة على ممانعته ولا رغبة في ذلك، لكنّ السواد الأعظم من المجتمع يرفضه سرّا أو جهرا، فتولّدت من ذلك الحاجة إلى تغيير ما يمكن تغييره من المجتمع، وعلى وجه أدق من عقيدته ومذهبه.
ورغم صعوبة تنفيذ هذا المشروع وما يتطلّبه من جهد ومال ووقت، إلا أن إيران عملت بالفعل على تحويل أعداد من السوريين إلى التشيّع، مستغّلة حالة الهشاشة الشديدة التي أصبحت عليها أوضاعهم بعد سنوات الحرب التي أتت على كلّ ما يملكون من مقوّمات العيش، وقضت على مصادر رزقهم وجعلتهم في حالة افتقار تام لأي نوع من أنواع الأمان في ظلّ غياب شبه تامّ للدولة.
ورد في تقرير لمجلّة فورين بوليسي كتبته مراسلتها في بيروت آنشال فوهرا تحت عنوان “إيران تعمل على تحويل سوريا إلى التشيّع” أنّ نظام حزب البعث بقيادة الرئيس السوري السابق حافظ الأسد كان أول من اعترف بثورة آية الله الخميني الإسلامية في إيران وشرعيتها. لكن الأسد الأب كان حريصا على عدم السماح لإيران بتوسيع نفوذها في سوريا كما فعلت لاحقا في لبنان من خلال حزب الله.
ومنح يأسُ نجله وخليفته بشار الأسد الفرصة للتوسعيين الإيرانيين. حيث دخلت القوات الإيرانية سوريا بعد فترة وجيزة من بدء الحرب الأهلية قبل عشر سنوات للمساعدة في الدفاع عن النظام ضد معارضيه. ودعمت طهران النظام السوري في الحرب مع وكيلها اللبناني حزب الله، وجلبت مقاتلين شيعة من أفغانستان والعراق وباكستان لمساعدتها على تحقيق هدفها. ومع مرور الوقت جنّدت إيران مقاتلين سوريين محليين في الميليشيات لحراسة الأضرحة الشيعية في البلاد وعززت علاقاتها مع أعلى مراتب الجهاز العسكري السوري، لاسيما الفرقة الرابعة المدرعة برئاسة ماهر أحد أبناء حافظ الأسد.
وبعد عقد من الصراع تسيطر الميليشيات المدعومة من إيران على ضواحي دمشق وتنظّم دوريات في المدن الاستراتيجية على الحدود السورية اللبنانية. وتنتشر بأعداد كبيرة في جنوب سوريا بالقرب من إسرائيل ولديها قواعد متعدّدة في حلب. كما أقامت معسكرات في البلدات والقرى على الحدود السورية العراقية منذ هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية في 2017.
وتمكّنت إيران من تأمين قوس نفوذها من طهران عبر العراق وسوريا إلى لبنان. ولكن هذا لم يكن من خلال السلاح فقط. فعلى مدى السنوات القليلة الماضية، ومع انحسار الصراع العسكري وسّع الإيرانيون نفوذهم الثقافي في الدولة التي مزّقتها الحرب لتشجيع السنّة على التحوّل إلى التشيّع أو على الأقل تليين مواقفهم تجاه الشيعة الذين لطالما تمّ النظر إليهم في بلدان المنطقة كمنافسين للسنّة.
ويقول أشخاص اعتنقوا المذهب الشيعي مؤخرا مع أصدقاء لهم في المناطق السورية التي يسيطر عليها النظام، إن الانهيار الاقتصادي في سوريا صعّب تجاهل الامتيازات التي تقدمها إيران.
وتحرص إيران على توزيع الأموال على السوريين المحتاجين وتلقينهم في المعاهد الدينية وتقديم مِنَح دراسية للدراسة في الجامعات الإيرانية، وتوفر رعاية صحية مجانية وسلالا غذائية ورحلات إلى المواقع السياحية لتشجيع التحول الديني.
ليست هذه الإجراءات الصغيرة باهظة التكلفة ولكنها تمكّن من التأثير ونشر وجهة النظر الإيرانية بين السوريين الفقراء. وقد أعادت إيران ترميم الأضرحة القديمة وشيّدت أضرحة جديدة لشخصيات شيعية ذات مكانة لدى أتباع المذهب كما لو كانت تحاول إعادة كتابة التاريخ الديني السوري في بلاد ذات أغلبية سنية كان بها عدد قليل من الشيعة قبل الحرب.
وقال عدد من السكان المحليين والنشطاء والمحللين السوريين لمجلة فورين بوليسي إن إيران تحاول تقديم نفسها كقوة حميدة لكسب دعم طويل الأمد بين السوريين السنّة بهدف نهائي يكمن في الاحتفاظ بمجال نفوذها وممارسة السيطرة من خلال الوكلاء مثلما هي الحال في لبنان والعراق.
وحصلت الميليشيات الإيرانية على مساعدة النظام السوري بموجب مرسومه رقم 10 لشراء منازل السوريين الذين هاجروا إلى أماكن أخرى خلال الحرب. وصادر بعض أعضاء الميليشيات ممتلكات وجلبوا عائلاتهم من العراق ولبنان للاستقرار داخل سوريا. ويقول خبراء سوريون إن هذا الاختراق الديموغرافي والثقافي يهدف إلى زيادة أعداد الشيعة في سوريا لتمكين إيران من المطالبة بالسلطة السياسية نيابة عنهم. وسيُمكن لإيران إن وُجد عدد كبير من الشيعة في البلاد، أن تدّعي تمثيل مصالحها عند مناقشة حل سياسي نهائي للأزمة السورية، ويمكنها أن تطلب منح مناصب في الحكومة والقوات المسلحة ومؤسسات أخرى. ويخشى الكثيرون من أن إيران تريد ممارسة نفوذها من خلال مؤيدين داخل النظام وليس فقط من خلال رئيس مَدين لها قد يتراجع دعمُه اعتمادا على الصفقات التي يبرمها مع روسيا أو أي دولة عربية قد تحاول إعادته إلى الصف العربي.
وكون سوريا ذات أغلبية سُنّية فهذا ما يجعل المهمة شاقة للنظام الإيراني. ورغم التحديات، تبدو إيران مصممة على مواصلة عملية تحويل السكّان إلى التشيّع.
ويقول أحمد البالغ من العمر 24 سنة وهو واحد من أحدث أبناء الطائفة الشيعية في سوريا إنّه كان يعيش في الميادين وهي بلدة على الحدود مع العراق في محافظة دير الزور وفرّ مع أسرته بالقرب من تركيا أثناء النزاع، لكنّه عاد في 2018 عندما أخبره صديقه أن كل مخاوفه قد تنتهي إذا انضم إلى ميليشيا إيرانية. فانضم إلى كتائب السيدة زينب.
ويعمل أحمد حاليا حارسا في ضريح شيعي بالبلدة الواقعة بالكامل تحت سيطرة الميليشيا ويتقاضى راتبا شهريا بقيمة حوالي 200 دولار، لكنه يحتاج إلى المزيد من النقود لدفع تكاليف غسيل كلى والده مرتين في الشهر. وفي فبراير الماضي عرض زعيم الميليشيا مضاعفة راتبه إذا اعتنق المذهب الشيعي. فوافق على الفور. وقال لمجلة فورين بوليسي “عقدنا مؤخرا اجتماعا مع زعيم الميليشيا التي ننتمي إليها وقال إنه سيعلن ترقيتنا ونحصل على أموال إذا اعتنقنا المذهب الشيعي، واستمعنا للتو إلى بعض المحاضرات حول السيدة زينب. وافقت مع عشرين رجلا آخرين لأننا بحاجة إلى المال.. أحتاجه لعلاج والدي. وأنا لا أهتم بالدين”.
نسبة الشيعة في سوريا لا توفّر لإيران نفس الأرضية العقائدية المتوفّرة لها في كل من العراق ولبنان
وروى تيم الأحمد من درعا المدينة الواقعة في جنوب غرب سوريا بالقرب من الأردن قصة مماثلة حدثت لصديق انضم لأول مرة إلى ميليشيا مدعومة من إيران ثم تحول لاحقا إلى المذهب الشيعي. وقال “منحوه شقة. ويتمتع بخدمات طبية مجانية ويحصل على راتب شهري”. وذكر تيم أن صديقه حصل فجأة على امتيازات حُرم منها سوريون آخرون، بما في ذلك تصريح أمني من المخابرات السورية للسفر إلى أي مكان في البلاد دون التعرض للمضايقات.
وتمثّل محافظة دير الزور الموطن الرئيسي لعمليات تحويل السكّان إلى التشيّع. وشهدت مدينة البوكمال الحدودية أنشطة إيرانية تبدو غير ضارة لكن لها نتائج مستقبلية وخيمة.
وعلى سبيل المثال أعاد الإيرانيون ترميم حديقة كراميش في البوكمال التي دمرها تنظيم الدولة الإسلامية وأطلقوا عليها اسم “ملهى الأصدقاء” في إحالة على تسمية النظام السوري لإيران بـ”صديقة للبلاد”. وكل أسبوع تنظم الميليشيات الإيرانية أنشطة ترفيهية في الحديقة لإطلاع السكان، وخاصة الأطفال، على الأئمة الشيعة والترويج لإيران كقوة صالحة “تتحدى إسرائيل والإمبريالية”. وقال صياح أبووليد وهو ناشط من البوكمال إن كل المرح والألعاب هو حيلة للتأثير على عقول الأطفال وأوليائهم لإغرائهم بالتحوّل إلى التشيّع.
وتحوّل مقرّ النادي الرياضي في المدينة إلى مطبخ ومطعم للميليشيات الإيرانية. وقال أبووليد إنّ ملعب كرة القدم بأكمله أصبح الآن بالفعل قاعدة لاستيلاء إيران على منطقته. وبحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان فقد دعت إيران أهالي الميادين إلى مركز نور الإيراني الثقافي لحضور دورة حول مبادئ المذهب الشيعي. وفي نهاية الدورة يحصل كل من ينجح على نحو مئة ألف ليرة سورية وسلة طعام.
وفتحت إيران عددا من المدارس الدينية والأضرحة والجمعيات الخيرية في سوريا. وفي حين واجهت مقاومة أقل في دمشق وحلب، كان عليها أن تغري زعماء القبائل المحليين للتوسع في دير الزور. واستجاب بعض أفراد إحدى هذه القبائل بسبب زعيم قبلي رأى ميزة في كسب ود إيران.
وقود لتوتّرات قادمة
في العراق على الجانب الآخر من الحدود تخضع مصالح إيران لحراسة ميليشيات مثل عصائب أهل الحق التي تدعمها طهران ولكنها تعمل تحت راية قوات الحشد الشعبي كجزء من الأجهزة الأمنية. ويعني عدم اهتمام روسيا بدير الزور أن إيران ليست مضطرة إلى التنافس وإقامة معسكر هناك.
وقال بسام بربندي الدبلوماسي السوري السابق المقيم حاليا في المنفى بالولايات المتحدة إن الوجود الإيراني والأنشطة التي تمارسها زرعت بذور تمرّد مستقبلي في بلاده، ويتوقع أن تكون هناك اشتباكات لمعارضة الغزو الفارسي. وتابع “أولا ذهب الإيرانيون وحزب الله إلى اللاذقية التي يهيمن عليها العلويون. لكنّ العلويين مجتمع مفتوح عندما يتعلق الأمر بالدين والأعراف الاجتماعية. ورفض العلويون الإيرانيين فتوجّه هؤلاء نحو المناطق الأكثر تضرّرا من الحرب والتي كانت سابقا تحت سيطرة الدولة الإسلامية لأن التلاعب بأهلها أسهل ومجال التوسع فيها مفتوح”.
وقال نوّار شعبان وهو خبير النزاعات في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية والمتخصص في العلاقات السورية الإيرانية، إن إيران أقامت علاقات مع السوريين من جميع الخلفيات ببطء وثبات. وأضاف “اشترت إيران عقارات في دير الزور وفي المناطق التي يسيطر عليها الأكراد من خلال السكان المحليين. ونسجت شبكة عنكبوت في سوريا مع أفراد في كل مكان في الجيش والحكومة وحتى بين رجال الأعمال السنّة والمسيحيين”.
وفرض الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب عقوبات منهكة على النظام الإيراني في إطار حملة الضغوط القصوى ومع ذلك استمرّت إيران في تمويل أنشطتها في سوريا.
وتقول مراسلة فورين بوليسي إنّها حضرت في أغسطس 2017 ضمن رحلة صحافية إلى سوريا المعرض التجاري الأول في دمشق منذ ست سنوات. وكانت معظم أروقة المعرض مملوكة لشركات إيرانية تعرض كل شيء من محطات الطاقة إلى البسكويت والصابون. وبعد ذلك بعامين تمّ إنشاء غرفة التجارة السورية الإيرانية المشتركة. وفي الشهر الماضي سافر وفد إيراني إلى دمشق لتكثيف الجهود لزيادة تواجد طهران الاقتصادي في سوريا.
ويشعر المراقبون بالقلق من أن إيران التي لم تكبح تدخلها في سوريا على الرغم من عقوبات ترامب ستُغرق ميليشياتها المسلحة وجمعياتها الخيرية بالأموال لتشجع التحول إلى التشيّع في البلد بمجرد عودة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى الاتفاق النووي. فبعد عامين من توقيع الاتفاق سنة 2015 تبيّن أن طهران ضاعفت تمويلها لحزب الله أربع مرات.
ولا توجد بيانات تحدد عدد السوريين الذين تمكنت إيران من تحويلهم إلى المذهب الشيعي أو عدد الذين نجحت في استمالتهم نحو أفكارها. لكن توسعها العسكري والثقافي والاقتصادي يخلق خطوط صدع جديدة في بلد هشّ على جميع الجبهات بالفعل. وتسهل رؤية كيف يمكن أن يؤدي توسع إيران إلى تفاقم التوترات الطائفية في المنطقة.
العرب