واشنطن – داهمت العالم في المئة عام الأخيرة أوبئة مدمرة مثل الإنفلونزا الإسبانية والإيبولا والإيدز تسببت في موت الكثير من الناس على سطح الكوكب، رغم أن تعدادهم لم يكن بالحجم الذي هو عليه اليوم، ولكن بالنظر إلى ما يحدث مع جائحة كورونا يبدو أن التهديدات ستكون أكبر على الأرجح.
وبشكل عام، تشترك الأوبئة في نمط معين في ما يتعلق بتأثيرها على السكان، يماثل بشكل ملحوظ تأثير الكوارث الطبيعية أو حتى الحروب، وهو حدوث انخفاض شديد في عدد المواليد تعقبه زيادة تدريجية، وينتهي المطاف بحدوث طفرة زيادة عدد المواليد. كما أن الظروف الاقتصادية والصحة العقلية والخوف والوفاة قد تؤثر على معدلات المواليد.
وفي وقت سابق الشهر الجاري، صدر للمؤرخ الطبي البريطاني مارك هونيغزباوم كتاب بعنوان “قرن الأوبئة…مئة عام من الذعر والهستيريا والعجرفة” تناول فيه أوجه الشبه والاختلاف مع أزمة كورونا، ووضع تحليلا للسبب الذي جعل البشرية عرضة لانتشار مثل هذه الأمراض على هذا النحو ومدى ارتباط الأوبئة بعوامل مجتمعية وطبية وتاريخية.
ومن الغريب أنه عندما بدأت الجائحة تتفشى في الولايات المتحدة، وهي من أكثر البلدان المتضررة من فايروس كورونا مع تسجيل وفاة أكثر من 542 ألف شخص من بين قرابة 29.8 مليون أميركي أصيبوا بالمرض، قال الكثيرون إن فرض الإغلاق على نطاق واسع سيؤدي إلى ارتفاع كبير للغاية في معدل المواليد.
ومن المفارقة أن شبكة سي.بي.أس الأميركية ذكرت أن البيانات، التي حصلت عليها من الجهات المسؤولة عن الصحة في 29 ولاية، أظهرت أنها شهدت تراجعا بنسبة حوالي 7.3 في عدد المواليد في ديسمبر الماضي، بعد تسعة شهور من إعلان منظمة الصحة العالمية أن مرض كوفيد – 19 الناجم عن الإصابة بفايروس كورونا المستجد أصبح جائحة.
المؤرخ البريطاني مارك هونيغزباوم شرح في كتابه “قرن الأوبئة…مئة عام من الذعر والهستيريا والعجرفة” العوامل المجتمعية والصحية والتاريخية كأسباب جعلت البشرية عرضة لانتشار وباء مثل كورونا اليوم
ووفقا للدراسات التي اهتمت بهذه القضية فإنه من الملاحظ أن معدلات الخصوبة تتأثر بالركود الاقتصادي والفقر، حيث تشهد الاقتصاديات الناشئة والمتقدمة معدلات فقر مختلفة، تؤدي إلى المزيد من الاختلاف في معدلات الخصوبة.
ويرى المتابعون والمختصون في مجال التنمية البشرية أن البيانات المتعلقة بمعدلات الخصوبة في العام الماضي، أوضحت أن فرنسا سجلت أقل معدل للمواليد منذ اندلاع الحرب العالمية الثانية، كما شهدت الصين تراجعا في عدد المواليد بنسبة 15 في المئة.
وأكد جيمس بوميروي الخبير الاقتصادي في بنك أتش.أس.بي.سي في تصريحات نقلتها عنه وكالة بلومبرغ للأنباء، أنه “كلما طالت فترة الركود واشتدت حدتها، كلما زادت حدة الانخفاض في معدلات المواليد، وزادت احتمالية أن يصبح ذلك الانخفاض تغيرا دائما في تنظيم الأسرة”.
ويتضح انخفاض معدل المواليد بشكل خاص في إيطاليا، وهي واحدة من البؤر الأولى التي تفشى فيها الفايروس المستجد، حيث انخفضت أعداد المواليد في 15 مدينة بها بنسبة 22 في المئة خلال ديسمبر الماضي.
كما تظهر تأثيرات مشابهة في أماكن أخرى، حيث شهدت اليابان بنهاية 2020 تسجيل تراجع قياسي في عدد المواليد الجدد، بينما انخفض معدل الخصوبة في تايوان، ليصل لأول مرة إلى أقل من طفل واحد لكل امرأة.
وفي ما يتعلق بالناحية المالية، فإن حدوث مثل هذه التداعيات ينذر بالسوء. ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال -وحتى من دون أخذ الآثار المترتبة على تفشي جائحة كورونا بعين الاعتبار- فمن المتوقع أن تفوق أعداد المتقاعدين عدد الأطفال بحلول حقبة الثلاثينات القادمة.
أما في الاتحاد الأوروبي، فمن المحتمل أن تتدهور النسبة بين الأشخاص الذين تزيد أعمارهم على 65 عاما، وأولئك الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و64 عاما، وهو مقياس رئيسي حول القدرة على تقديم الخدمات الاجتماعية لكبار السن. وسوف يؤدي ذلك إلى تفاقم الوضع، الذي يزداد سوءا بالفعل، مع ارتفاع الإنفاق على المعاشات بنسبة حوالي الثلث خلال الفترة بين عامي 2008 و2016.
ويعتقد سونال فارما وهو خبير اقتصادي في شركة نومورا هولدنغز للخدمات المالية، أنه من الممكن أن يمثل التأثير المالي ضربة مزدوجة، وقال إن “تراجع النمو السكاني سوف يضر بالنمو المحتمل (في ظل تراجع حجم القوة العاملة)، مما سوف يؤثر على الإيرادات الضريبية، وسوف يحدث ذلك بالتزامن مع زيادة الإنفاق على المعاشات العامة والرعاية الصحية”.
وحتى إذا نجحت حملات التطعيم في كبح جماح فايروس كورونا من المرجح أن تستمر التداعيات الاقتصادية، مثل البطالة، إلى ما بعد النقطة التي تنحسر فيها الأزمة الصحية، مع فرض قيود على معدلات المواليد.
وليس بالضرورة أن تتحسن الأمور عندما تظهر البيانات الاقتصادية حدوث انتعاش، مع الأخذ في الاعتبار أن الخصوبة في الاقتصادات الرئيسية، انخفضت لعقود بصورة مطردة.
وكانت الأزمة أكثر ضررا بالنسبة للأشخاص الذين هم في السن الأساسي للإنجاب، في العشرينات والثلاثينات من أعمارهم. وقد توصلت أبحاث أجراها معهد جوتماخر للصحة الإنجابية، إلى أن الوباء أدى إلى قيام أكثر من 40 في المئة من النساء في الولايات المتحدة بتغيير خططهن المتعلقة بتوقيت إنجابهن لأطفال، أو بعدد الأطفال الذين يرغبن في إنجابهم.
ويعد الأمر الأكثر إثارة للقلق في بعض الدول حاليا، هو أنه سيكون من الصعب تغيير اتجاه تراجع معدلات الخصوبة إلى الأفضل، بما يتماشى مع السبل الأخرى لتحقيق التعافي الاقتصادي.
العرب