الحركة الإسلامية في قلب المنظومة الإسرائيلية بعد عقود من “العداء”

الحركة الإسلامية في قلب المنظومة الإسرائيلية بعد عقود من “العداء”

تتباين المواقف حيال انفتاح الحركة الإسلامية – الجناح الجنوبي على اليمين الإسرائيلي والذي يعكس عقلية براغماتية، يذهب البعض إلى حد توصيفها بالانتهازية السياسية. إلا أن الاختبار الحقيقي لمدى صوابية خيارات الحركة يبقى رهين نتائج الاستحقاق التشريعي المقرر إجراؤه الثلاثاء.

شغلت الحركة الإسلامية – الجناح الجنوبي في الأشهر الأخيرة الأوساط العربية داخل إسرائيل وخارجها، ليس فقط لجهة الدور الذي لعبته في إضعاف القائمة العربية المشتركة بل لأنها عرت أيضا التناقضات الكبيرة داخل المجتمع العربي الذي بدا منقسما حيال مسلك الحركة وما أبدته من تماه وتناغم مع المنظومة اليمينية في إسرائيل.

ظهرت الحركة الإسلامية – الجناح الجنوبي المنبثقة عن جماعة الإخوان المسلمين في ثوب حركة سياسية براغماتية بامتياز، مستعدة للعمل وحتى التحالف مع التيار اليميني الصهيوني، وهو ما ترجم في التقاطعات بين الطرفين في أكثر من محطة داخل الكنيست في الأشهر الماضية.

وذهبت الحركة الإسلامية، التي يقودها حماد أبودعابس حد فتح أبرز معاقلها لليمين، حيث قام زعيم ليكود ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بزيارة “تاريخية” في فبراير إلى الناصرة، إحدى كبرى المدن العربية داخل إسرائيل والتي تضم نحو 110 آلاف نسمة، في خطوة أثارت انقسامات داخل المجتمع العربي بين مبارك لها ومتحفظ عليها.

قيام زعيم ليكود بطرق أبواب الوسط العربي بدعم من الحركة الإسلامية كان من وجهة رأي الكثيرين خطوة ذكية، في ظل الثقل الذي يمثله الناخب العربي، والذي أثبت في الانتخابات التشريعية الماضية أنه قادر على أن يحدث الفارق ويقلب المعادلة داخل الكنيست.

فقط ليكود يستطيع

الجمهور العربي يريد من قادته السياسيين أن يكونوا شركاء في إدارة الحكم في إسرائيل، وليس مجرد معارضة تجيد الصراخ والخطابات

بزيارته إلى الناصرة وتوجهه بحزمة وعود للمجتمع العربي من بينها التصدي للجريمة المتفشية والعمل على تحسين الخدمات في تلك البيئة التي سبق أن كانت معاداتها أحد مرتكزات حملاته الانتخابية السابقة، نجح نتنياهو في كسر الحاجز وفي إثبات الشعار المركزي الذي سبق أن رفعه حزبه في انتخابات عام 1981 والذي يقول “فقط ليكود يستطيع”.

لم يجرؤ أي حزب من الأحزاب اليسارية أو الوسطية في إسرائيل على القيام بهكذا خطوة، أو مجرد إبداء أي دعم للمكون العربي، خشية أن تلتصق به تهمة مناصرة العرب والقضية الفلسطينية، وهي التهمة الجاهزة التي لطالما استخدمها اليمين للتشكيك في ولاء تلك القوى، على الرغم من أن هذا المكون شكل أحد الروافع لبلوغها الكنيست في الكثير من المحطات الانتخابية، وآخرها في مارس 2020.

لم يقف نتنياهو في خطب ود المكون العربي عند ذلك بل تعهد بتعيين عربي وهو نائل الزعبي، المرشح المدرج على إحدى قائمات حزب ليكود، في منصب وزير تطوير المجتمع العربي حال فوزه في الانتخابات التشريعية الجديدة.

ووعد زعيم ليكود بإطلاق رحلات جوية مباشرة إلى المملكة العربية السعودية، إذا فاز في الاستحقاق حيث صرح مخاطبا الجمهور العربي ذي الغالبية المسلمة “سأؤمن لكم رحلات جوية مباشرة من تل أبيب إلى مكة!”.

مسار نتنياهو الجديد في التعاطي مع المكون العربي الذي يمثل 21 في المئة من النسيج المجتمعي الإسرائيلي لا تنحصر أهدافه فقط في إضعاف الفريق المقابل وكسر شوكة القائمة العربية المشتركة التي حصدت في الانتخابات السابقة 15 مقعدا لتكون بذلك ثالث أكبر كتلة نيابية في الكنيست، بل تشمل أيضا العمل على بناء كتلة انتخابية وازنة داخل الأوساط العربية تعزز الثقل اليميني، مستندا في ذلك على وجود أقلية عربية تعادل 25 في المئة لا تخفي تأييدها له.

ترويض الحركة الإسلامية
هذا التحول في نهج نتنياهو حيال عرب إسرائيل ليس وليد لحظة انتخابية عابرة بل سبق أن هيأ له من خلال ترويض الحركة الإسلامية التي حادت عن موقف “القائمة العربية المشتركة” وصوتت لصالحه في الكنيست عند إقرار الموازنة العامة. كما تعاون النائب منصور عباس مع ليكود، بصفته نائبا لرئيس الكنيست، في إلغاء نتائج التصويت على تشكيل لجنة برلمانية مكلفة بالتحقيق في شبهات تورط نتنياهو في قضية فساد تتعلق بصفقة الغواصات الألمانية.

منتقدو الحركة الإسلامية – الجناح الجنوبي يعتقدون أن استدارتها الأخيرة ستكلفها الكثير انتخابيا لكن استطلاعات الرأي الإسرائيلية كشفت أن الحركة قد تضمن لنفسها أربعة مقاعد

ومثل إعلان نائب رئيس الحركة عن قرار الانسحاب من القائمة العربية المشتركة وخوض الانتخابات التشريعية عبر”القائمة العربية الموحدة” بالتحالف مع رئيس بلدية الناصرة علي سلام الذي لا يخفي تأييده لنتنياهو القطيعة النهائية مع نهج لطالما اتخذ من عداء اليمين هدفا.

الحركة الإسلامية وزعيمها حماد أبودعابس البراغماتي يدركان أن اليمين الإسرائيلي سيبقى الطرف الأقوى والمتحكم في المعادلة الإسرائيلية للسنوات أو ربما العقود القادمة، في ظل اضمحلال أحزاب اليسار وانكسار تيار الوسط الذي يجسده حزب الجنرالات “كحالان لافان”، وبالتالي الأفضل مجارات التيار بدل السير عكسه.

وفي لقاء مع “القناة 20” التابعة لليمين الإسرائيلي حرص منصور عباس على مغازلة الأخير وزعيمه نتنياهو، قائلا “في إسرائيل توجد حكومة يمين. ومن يريد تحصيل حقوق للمواطنين العرب يجب أن يتوجه إلى الحكومة”. وعندما سُئل عباس عما إذا كان ممكنا أن يدعم نتنياهو صراحة تجنب الخوض في ذلك، واعتبر أن “قوة السياسي ألا يكون مفهوما ضمنا، فكل عرض يُطرح على الطاولة سنناقشه ونفحصه”.

لا يخفى أن أحد محركات هذا التحول في نهج الحركة الإسلامية – الجناح الجنوبي نزعات الزعامة التي تستوطن قادة العمل السياسي داخل عرب إسرائيل، وهناك تنافس حاد بين رئيس القائمة المشتركة أيمن عودة الذي يتخذ من فكرة التصدي لليمين الإسرائيلي إحدى آلياته لدغدغة مشاعر البيئة العربية وبين زعيم الحركة الإسلامية حماد أبودعابس الذي يرى أنه آن الأوان لتصدر المشهد، وهذا لا يمكن أن يتحقق في إطار العمل داخل القائمة المشتركة.

تمايز لتحصيل مكاسب
غراف

قرار زعيم الحركة الإسلامية التمايز عن ممثلي القائمة المشتركة والسير على خلاف النهج السائد عبر التقارب مع اليمين يأتي ضمن جملة السياقات التي تخدم توجهه، من بينها الوضع الإقليمي لاسيما مع انطلاق مسار التسويات العربية الإسرائيلية المعروفة بـ”اتفاقات أبراهام”، والعلاقة الوثيقة التي تجمع بعض القوى الإقليمية الداعمة للحركة مع اليمين في إسرائيل.

ولعل النقطة الأهم التي ارتكز عليها أبودعابس في استدارته هي التغير المسجل داخل المجتمع العربي نفسه الذي سئم التخندق في صفوف المعارضة، وهو ما لم يمنحه أي مكاسب لجهة تحسين أوضاعه، فضلا عن وجود حالة يأس من إمكانية تحقيق أي اختراق في مسار القضية الأم في ظل حالة الضعف والهوان على الساحة الفلسطينية.

والمجتمع العربي داخل إسرائيل مجتمع شاب غالبيته لم تعش نكبة 1948 أو حرب 1967، وكمواطن إسرائيلي يرى أن عليه الاندماج أكثر في بيئته المحيطة وتحسين أوضاعه سواء على مستوى الميزانيات المخصصة له أو لجهة فرض سلطة القانون مع تفشي الجريمة.

لم يعد هذا الوسط يقبل السير في نهج “المجتمع العصامي” المتمرد على المنظومة القائمة معولا على إمكانياته الذاتية، بل يريد اليوم أن يكون المسار مصوبا على تحقيق المساواة مع باقي المكونات الإسرائيلية باعتباره جزءا من هذه الدولة.

يقول منصور عباس في حواره مع “قناة 20” إنه يقرأ الخارطة السياسية بين الجمهور العربي في إسرائيل، ويجد بوضوح أن هذا الجمهور يريد من قادته السياسيين أن يكونوا شركاء في إدارة الحكم في إسرائيل “وليس مجرد معارضة تجيد الصراخ والخطابات”. ويضيف “الناس عندنا أذكياء وحكماء، ويريدون أن يكون لهم تأثير في السياسة الإسرائيلية والتأثير لا يكون إلا بالتعاطي مع الواقع، وبواقعية”.

تشكلت الحركة الإسلامية في سياق تاريخي حساس ترافق مع الانتكاسات المسجلة على صعيد الصراع العربي الإسرائيلي، وبدا ظهور النواة الأولى لهذه الحركة كرد فعل انفعالي على حالة الانهزامية التي طبعت “القومية العربية” فترة السبعينات من القرن الماضي، قبل أن تربط تلك النواة علاقات وصلات مع قادة جماعة الإخوان المسلمين في الضفة الغربية وقطاع غزة.

وعلى غرار باقي التنظيمات الإسلامية عززت الثورة الإيرانية التي اندلعت في العام 1979 حماسة مؤسسي تلك النواة وعلى رأسهم عبدالله نمر درويش ورائد صلاح وفريد أبومخ وتم تشكيل ما يسمى بـ”أسرة الجهاد” خلال ذلك العام.

واجه عناصر وقيادات “أسرة الجهاد” حملة اعتقالات من قبل السلطات الإسرائيلية في العام 1981، ومن بينهم درويش وأبومخ، قبل أن يجري الإفراج عنهم تباعا بين عامي 1984 و1985، ليعيدوا تنظيم صفوفهم مجددا ويجرى التحول إلى حركة منظمة حملت اسم “الحركة الإسلامية”.

وانتقلت الحركة إلى العمل القاعدي داخل سكان عرب 84 من خلال بناء شبكة من الهيئات والجمعيات الاجتماعية والدينية ونجحت الحركة في فرض حضورها على الساحة وكسب قاعدة شعبية مهمة، وهو ما ترجم في فوزها في العام 1989 برئاسة 5 بلديات ومجالس محلية، وبعضوية العشرات من البلديات.

وشكل العام 1993 بتوقيع إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية على اتفاقية أوسلو منعطفا جديدا بالنسبة للحركة التي اختلفت قياداتها حول الموقف من قرار المنظمة الفلسطينية بين موافق عليها ورافض لهذه الخطوة.

وانفجرت الخلافات بين تلك القيادات في العام 1996، حينما قرر عبدالله نمر درويش المشاركة في انتخابات الكنيست الإسرائيلي، في تحول على مستوى عمل الجماعة وفكرها، لينتهي الأمر بانقسام الحركة إلى جناحين: شمالي بقيادة الشيخ رائد صلاح، وجنوبي بقيادة درويش.

أحد محركات التحول في نهج الحركة الإسلامية نزعات الزعامة التي تستوطن قادة العمل السياسي داخل عرب إسرائيل

موقف الجناح الشمالي جعله في مواجهة مفتوحة مع السلطات الإسرائيلية التي ضيقت عليه الخناق، وصولا إلى حظره واعتقال قادته في العام 2015، وهو ما صب في صالح الجناح الشمالي الذي طور أداءه السياسي والإداري ووسع شبكات الدعم الاجتماعي ليفرض نفسه رقما صعبا في المعادلة السياسية القائمة داخل عرب إسرائيل.

ويعتقد منتقدو الحركة الإسلامية – الجناح الجنوبي أن استدارتها الأخيرة ستكلفها الكثير انتخابيا، لكن استطلاعات الرأي الإسرائيلية الأخيرة كشفت أن الحركة لن تخرج من المعادلة وقد تضمن لنفسها أربعة مقاعد، وهو ما قد يؤهلها لأن تصبح أحد صناع الملوك لترجيح كفة هذا الطرف أو ذاك في تشكيل الائتلاف الحكومي الإسرائيلي المقبل، في ظل التقارب المسجل بين معسكري اليمين واليسار.

وتستعد إسرائيل الثلاثاء إلى إجراء رابع انتخابات تشريعية في غضون عامين، ولئن تكشف استطلاعات الرأي عن تصدر كتلة اليمين بزعامة ليكود النتائج، بحصوله على 60 مقعدا إذا ما تم احتساب حزب “يمينا” الديني، فإنه سيكون في حاجة إلى دعم الأحزاب الصغيرة ومن بينها الحركة الإسلامية.
العرب