لن تُحَلّ مشاكل لبنان من خلال تشكيل حكومة جديدة وإرسال المزيد من البطاقات التموينية. فالبلاد بحاجة إلى سياساتٍ عملية توحّد المعارضة، وتتصدى للهيمنة الإيرانية. وتمنح التداعيات السياسية للخطاب الأخير لقائد “الجيش اللبناني” فرصة ذهبية لواشنطن وشركائها لحث لبنان على تحويل مسارها من إدارة الأزمات إلى حلول فعلية.
بينما يواصل الاقتصاد اللبناني انحداره ويتأخّر تشكيل الحكومة في البلاد، عاد المحتجّون إلى الشوارع للرد على الأزمة الإنسانية الناتجة. وعلى الرغم من أنّ التحرّك لا يبدو منظّماً جدّاً كما كان في عام 2019، إلا أنه بالتأكيد أكثر احتداماً. وقد وصل التدهور الاقتصادي هذه المرّة إلى الجيش.
ففي خطابٍ ألقاه قائد “الجيش اللبناني” العماد جوزيف عون في الثامن من آذار/مارس، أعرب عن أسفه للوضع المزري الذي تواجهه المؤسسة وجنودها. وحَمِلت كلمته أيضاً رسائل سياسية مشحونة ضدّ النُخب الحاكمة، التي اتّهمها بخفض ميزانية الجيش إلى مستوى خطير. فقد أدّى تخفيض قيمة العملة إلى تقاضي معظم الجنود راتباً يناهز ستّين دولاراً شهرياً، وأصبح الكثيرون منهم يطلبون غيابات مؤقتة أو لا يحضرون لأداء وظائفهم، بينما يطلب كبار القادة التقاعد المبكر.
وبالطبع، لا يختلف الوضع المالي لـ “الجيش اللبناني” عن وضع مؤسسات الدولة الأخرى، كما أن رفع رواتب الجنود ببساطة (كما اقترح وزير المالية) سيكون غير عادل للآخرين، وقد يؤدي إلى زيادة التضخّم. لكن من خلال الإعلان عن خطابه غير المسبوق وتسييسه، أثارَ العماد عون نقاشاً مفتوحاً حول دور “الجيش اللبناني”، وأنشأ فرصة لترجمة المحنة المؤسسية التي يمرّ بها لبنان إلى خارطة طريق عملية لتنفيذ إصلاحٍ حقيقي.
المنطق الجديد لـ “الجيش اللبناني”
لا يخلو سجلّ الجيش في مجال دعم الإصلاح وسيادة الدولة من الشوائب – إذ يقوم عناصر “الجيش اللبناني” بالتنسيق مع «حزب الله» منذ سنوات، ودعَموا الحملات القمعية لهذه الميليشيا ضد جماعات معينة في صيدا وطرابلس، وتنصّلوا من مسؤولية اعتقال الإرهابيين والمجرمين المُدانين الذين تحميهم قيادة «حزب الله». إلّا أنّ “الجيش اللبناني” تمكّن من الحفاظ على بعض الاستقلالية، ويرجع ذلك جزئياً إلى برنامج المساعدة الأمريكية الذي يوفّر له التدريب والمعدّات.
وبسبب ظروف مختلفة، تغيّرت الدينامية القائمة بين “الجيش اللبناني” و«حزب الله» نوعاً ما في الأشهر الأخيرة. ففي تشرين الثاني/نوفمبر، فرضت وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات على النائب جبران باسيل المتحالف مع «حزب الله»، مما أدى إلى تعقيد فرصه في أن يصبح رئيساً في العام المقبل ووسّعت آفاق العماد عون. ورداً على ذلك، صعّد «حزب الله» جهوده لتشويه سمعة العماد و”الجيش اللبناني”، على سبيل المثال إلقاء اللوم على الجيش حول عرقلة التحقيق في انفجار مرفأ بيروت.
لكن مع استمرار الهجمات الإعلامية التي يشنّها «حزب الله»، أصبح واضحاً أنّ المسؤولَيْن اللذَيْن يفقدان الشرعية حقّاً هما باسيل والرئيس الحالي ميشال عون (والد زوجة باسيل ولكن ليس له علاقة بالعماد جوزيف عون). والأهمّ من ذلك أنّ كلا هذَين السياسيَيْن من الطائفة المسيحية المارونية يعلمان أنهما لم يعدا يحظيان بدعم الشارع المسيحي.
وفي 27 شباط/فبراير، دعا البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي إلى عقد مؤتمر دوليّ جديد لحل الأزمة السياسية في لبنان، في أعقاب اجتماعات باريس في عامَي 2019 و2020، حيث اشتُرِط إجراء خطة إنقاذ اقتصادية لتنفيذ الإصلاحات. كما ألمح إلى أنّ السبب الأساسي للأزمة في البلاد هو إصرار «حزب الله» على الاحتفاظ بترسانته الضخمة من الأسلحة والتدخّل في الشؤون الإقليمية لصالح إيران، وختم قائلاً: “نريد أن تبسط الدولة سلطتها على كامل الأراضي اللبنانية. ونريد توفير الدعم لـ «الجيش اللبناني»، وجعله المدافع الوحيد عن لبنان”. وجذب خطابه جمهوراً كبيراً، فزحف جزءٌ كبير منه إلى بكركي (مركز البطريركية المارونية) للاستماع إليه شخصيّاً. كما أنّ خطاب الراعي لاقى استحساناً كبيراً من المؤسسات والقادة المسيحيين اللبنانيين، مما أدى فعلياً إلى تحويل الجزء الأكبر من التأثير على المجتمع الماروني من بعبدا (القصر الرئاسي) إلى بكركي.
وكانت المرة الأخيرة التي برزَ فيها هذا النوع من الانشقاق بين بكركي وبعبدا تماماً هي قبل “ثورة الأرز” عام 2005، التي أدّت إلى الانسحاب العسكري السوري من لبنان. وبالتأكيد، لم يغفل هذا الواقع عن العماد عون، الذي استنتج على ما يبدو أنه لم يعد قادراً على دعم الرئيس وباسيل حالياً، بعد أن أصبح الشارع المسيحي يرفضهما. ويَعي «حزب الله» التداعيات أيضاً، فعمد إلى مهاجمة الراعي بعد خطابه في محاولةٍ للحفاظ على الغطاء المسيحي الذي استثمر فيه لعقود من خلال سياسيين متحالفين مثل ميشال عون وباسيل (اللذان أكّدا على مذكرة تفاهم مشتركة مع الحزب في عام 2006). وإذا فقدَ «حزب الله» هذا الغطاء، فقد يواجه خسائر كبيرة في الانتخابات النيابية المقبلة المقرر إجراؤها في أيار/مايو 2022.
“الجيش اللبناني” و”قانون قيصر”
بالرغم من الأهمية الرمزية والسياسية لخطاب قائد “الجيش اللبناني”، إلا أنه لن يعني الكثير على المدى الطويل ما لم تتم ترجمته إلى خطواتٍ عملية. فمع انهيار القطاع المصرفي، يتوقع الكثيرون أن يتدهور الوضع الأمني الداخلي في لبنان، لذلك من المرجح أن يضطرّ “الجيش اللبناني” إلى تحمّل عبء الحفاظ على الاستقرار واحتواء الفوضى في الشوارع. ومع ذلك، فإن قدرته على الوفاء بهذه المهمة غير مؤكدة الآن لأنه يواجه ضغوطاً متزايدة على صعيدَي السياسة والميزانية.
وفي غضون ذلك، تبددت آمال «حزب الله» في الحصول على زيادة سريعة في التمويل الإيراني، بسبب النهج الحذر الذي تتّبعه إدارة بايدن إزاء رفع العقوبات النووية، لذلك قرّر الحزب على ما يبدو أن إدارة أزمة لبنان أفضل من حلها. وعلى الرغم من تحدياته الداخلية المتصاعدة، إلا أنه أكثر قدرة من الفصائل اللبنانية الأخرى على استغلال الوضع الراهن لتحقيق قدرٍ من الاستقرار، على الأقل داخل مناطقه الأساسية التي تضمّ المسلمين الشيعة. ولا يزال التنظيم يسيطر على العديد من مؤسسات الدولة (الرئاسة، ومجلس النواب، ومعظم الوزارات) بالإضافة إلى كافة المعابر الحدودية. وكنتيجة لذلك، يمكنه الاستمرار في جني الأرباح من تهريب البضائع والعملة والأسلحة لبعض الوقت، مع استخدامه مؤسسات أمن الدولة للسيطرة على الاحتجاجات وتوجيه أجهزته الإعلامية لإدارة دفة الحديث ضدّ معارضيه.
وكان لتهريب السلع المدعومة من الدولة تأثير ضار بشكلٍ خاصّ على الأزمة. فحين أصبح “قانون قيصر لحماية المدنيين في سوريا” الذي اتخذته واشنطن ساري المفعول العام الماضي، كان له تأثير غير مقصود تَمَثل في تعزيز جهود «حزب الله» لسرقة هذه السلع (مثل الوقود والطحين) أو حيازتها بشكلٍ آخر وتهريبها إلى سوريا وبلدانٍ أخرى مع تحقيق أرباح ضخمة. وفضلاً عن المعابر الحدودية الشرعية في لبنان، يسيطر «حزب الله» على العديد من المعابر غير الشرعية مع سوريا، والتي يُقدَّر عددها بحوالي 129 معبراً، بما فيها المعبران الأكثر أهمية: حوش السيد في الهرمل، وجوسية في سهل البقاع. وتُفيد بعض التقارير بأنّ التهريب المستشري يُكلّف الدولة أكثر من 4 مليارات دولار سنويّاً، إلّا أنّ حكومة تصريف الأعمال التي يسيطر عليها «حزب الله» لن تسمح لـ “البنك المركزي” برفع الدعم طالما أنه يغذّي باستمرار خزائن الحزب.
وفي غضون ذلك، لم يعد بإمكان اللبنانيين الحصول على سلع مدعومة في محلات السوبرماركت، لذا لا يتمثل الحل بإرسال المزيد من المواد الغذائية – تحتاج السلطات أيضاً إلى منع «حزب الله» من تهريب المواد الغذائية واستنزاف احتياطيات “البنك المركزي”. يجب على واشنطن وشركائها دفع “الجيش اللبناني” إلى تولّي زمام المبادرة في هذا الجهد، الذي سيحقق منفعة إضافية تتمثل في تطبيق “قانون قيصر” وزيادة الضغط على نظام الأسد وطهران.
أزمة لبنان ليست إنسانية فقط
إن التعامل مع الأزمة على أساس كَوْنها مشكلة إنسانية أو اقتصادية بحتة لن يؤدي إلّا إلى تأجيل الانفجار الاجتماعي الوشيك. إن أكثر ما يحتاجه لبنان هو العمل السياسي الذي يتصدى للفساد العميق الجذور والمشاكل الماليّة. ووفقاً لذلك، يجب على واشنطن والمجتمع الدولي الأوسع نطاقاً استكمال خططهم الإنسانية قصيرة المدى من خلال رسم خارطة طريق سياسية على المدى الطويل. ويجب أن تركز معظم خطواتهم الأولى على “الجيش اللبناني” عبر:
مساعدة “الجيش اللبناني” على احتواء عمليات التهريب عبر الحدود. يجب منح الأولوية لذلك لأن له تأثيرات فورية على الاقتصاد ويحقق المنافع المباشرة لـ «حزب الله» ونظام الأسد. فلم يسبق أن عالج “الجيش اللبناني” مسألة التهريب في الماضي خوفاً من إغاظة «حزب الله»، لكن القيام بذلك هو السبيل الوحيد لضمان وصول المساعدات الإنسانية المستقبلية الخاصة بلبنان إلى الشعب اللبناني فعلاً. لذلك يجب أن تكون المساعدات الإضافية مشروطة ببذل جهودٍ واضحة وفعّالة لمكافحة التهريب.
التأكد من عدم قيام “الجيش اللبناني” باستهداف المحتجين أو محاولة التصدي لحرية التعبير بشكلٍ آخر.
مساعدة “الجيش اللبناني” على ترجمة خطاب العماد عون إلى “استراتيجية رسمية للدفاع الوطني”، مع التشديد على حياد لبنان واستقلاله وفي الوقت نفسه صيانة مسؤولية الدولة عن جميع عمليات صنع القرار العسكري والأسلحة (على الرغم من الإقرار بأن المبدأ الأخير سيستغرق وقتاً طويلاً لتطبيقه عملياً).
مساعدة “الجيش اللبناني” على تأمين إمكانية أكبر للجنود في الحصول على الرعاية الطبية والمنافع التعليمية، مع التأكد من توجيه هذه المساعدة إلى المؤسسات الجديرة بالثقة فقط، مثل “الجامعة الأمريكية” والمستشفى الخاص بها. ولا يجوز السماح للعناصر الموالية لـ «حزب الله» في الجيش والنُخَب الفاسدة باستغلال هذه المنافع.
وبالنسبة للخطوات الأخرى والقضايا السياسية طويلة المدى، على واشنطن وحلفائها القيام بما يلي:
معاقبة كلّ مَن يخالف “قانون قيصر”، بمن فيهم المؤسسات التي تساعد في عمليات التهريب بوثائق رسمية (على سبيل المثال، بعض السلطات في اللجنة العليا المسؤولة عن الجمارك وميناء طرابلس).
التركيز على الانتخابات النيابية القادمة، والتأكد من إجرائها في موعدها (أيار/مايو 2022)، وبطريقة ديمقراطية، وتحت إشراف دولي. وهذا هو السبيل الوحيد لتحقيق التغيير السياسي القابل للاستمرار في لبنان وتنفيذ الإصلاحات المطلوبة.
الاستمرار في استخدام “قانون ماغنيتسكي العالمي” ضدّ السياسيين الفاسدين وأي جهات فاعلة تحاول تأخير عملية الانتخابات أو التدخل فيها.
تشجيع الجهات الفاعلة اللبنانية على صياغة جبهة معارضة جديدة تكون قائمة على ثلاثة محاور قوة صاعدة هي: الشارع والبطريرك الماروني وقائد “الجيش اللبناني”. ولا يتمتّع أيّ من هذه المحاور وحده بالقوة الكافية لمواجهة ترسّخ المؤسسة السياسية و«حزب الله». لكن إذا وضعت خلافاتها جانباً واتحدت، فقد تتمكّن من صياغة خارطة طريق قابلة للاستمرار للخروج من الأزمة.
إن مشاكل لبنان لن تُحَلّ ببساطة من خلال تشكيل حكومة جديدة وإرسال المزيد من البطاقات التموينية. فالبلاد بحاجة إلى سياساتٍ عملية توحّد المعارضة، وتتصدى للهيمنة الإيرانية، وتحوِّل حالة الطوارئ الراهنة إلى فرصةٍ لمتابعة الإصلاحات العميقة والتغييرات الأمنية الطويلة المدى التي لطالما كان لبنان بحاجة إليها.
حنين غدار
معهد واشنطن