أججت أزمة سفينة الشحن اليابانية، التي جنحت في قناة السويس وسدت أهم ممر مائي في العالم قبل إعادة تسييرها، صراع المصالح الاقتصادية في قطاع النقل البحري. وبدأت قوى كبرى في طرح ممراتها الملاحية كبديل عن قناة السويس؛ فقد قامت روسيا، بدعم من حليفيها الصين وإيران، بالترويج لممرها المتجمد وتعظيم قدرة خطها لنقل الغاز إلى أوروبا لجذب الانتباه العالمي إليه.
القاهرة – كشفت أزمة قناة السويس الأخيرة عن الوجه الخفي للمصالح الاقتصادية التي يسعى إليها أقرب حلفاء مصر بهدف حصد مكاسب على حساب أزمتها التي استمرت حوالي أسبوع بسبب جنوح الناقلة العملاقة “إيفر غيفن”، حيث منعت مرور السفن في أهم ممر مائي على سطح كوكب الأرض، وأربكت سلاسل الإمداد في حركة التجارة العالمية.
ورغم انتهاء المشكلة وسحب السفينة وعودة الحركة إلى سالف عهدها أظهرت تداعيات ما حصل استمرار محاولات قوى كبرى طرح بدائل ملاحية أمام حركة التجارة لكسر احتكار قناة السويس التي تستحوذ وحدها على نحو 12 في المئة من حجم التجارة العالمية.
وتترقب الدول الحالمة بطرح شرايينها الملاحية واستغلال أزمات قناة السويس الفرصة السانحة للفت انتباه خطوط الملاحة إلى البدائل المحتملة، فخفوت الأصوات في الأحوال الطبيعية يبعث على عدم جدوى تلك البدائل وكلفتها أمام حركة الملاحة العالمية.
جاءت روسيا على رأس الدول التي حاولت أن تستثمر أزمة جنوح السفينة اليابانية في الترويج لخطها البحري بالقطب الشمالي لنقل البضائع الآسيوية إلى أوروبا والموجود بالفعل، لكن تشغيله ليس له جدوى اقتصادية مقارنة بقناة السويس.
وفي محاولة لتبرير عكس ذلك أشار نائب رئيس الوزراء الروسي يوري تروتنيف، خلال مؤتمر صحافي عقده في موسكو الأربعاء، إلى أهمية ممر الملاحة الشمالي كخيار احتياطي للتجارة العالمية في حال تعطل الشحن عبر قناة السويس.
وقال إن “المشروع ضخم وهو يهدف إلى إنشاء ممر نقل دولي جديد، وقد تم التأكيد على أهميته عند تعطل الحركة في قناة السويس. وأضاف “أعتقد أن العالم يشعر بأنه من الجيد الحصول على ممر احتياطي والخيار الوحيد هو ممر الملاحة الشمالي”.
ويرعى خط بحر الشمال المتجمد عملاق الطاقة الروسي شركة روساتم الحكومية التي تستخدمه في شحن الغاز والنفط لمختلف أسواق أوروبا. ولذلك تسعى موسكو إلى اعتماد خطها كناقل رسمي لسفن الغاز، تزامنا مع الفورة المرتقبة في منطقة غاز شرق المتوسط والاستكشافات الضخمة في المياه العميقة، واتجاه الدول إلى إعادة تصدير الغاز المسال لمختلف المقاصد الدولية.
ولا يركن الروس إلى الرد بشكل عملي بين الفينة والأخرى على تحالفات منتدى غاز شرق المتوسط الذي يضم في عضويته دولا رئيسية؛ فإلى جانب مصر هناك الأردن وإسرائيل والسلطة الفلسطينية واليونان وقبرص وإيطاليا، فضلا عن الولايات المتحدة بصفة مراقب دائم. وهو ما يعزز التواجد الرسمي لواشنطن في المنطقة.
وتشير دراسات المسح السيزمي في أعماق منطقة شرق المتوسط إلى أنها تعوم فوق أكبر حوض غازي على مستوى العالم، تقدر احتياطياته بنحو 122 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي، ونحو1.7 مليار برميل من النفط، وهي أرقام تقديرية قابلة للزيادة.
وفق هذه التقديرات التي نشرتها هيئة المسح الجيولوجي الأميركية وتقديرات شركات التنقيب عن الغاز يعد حوض شرق المتوسط من أهم أحواض الغاز في العالم التي تكفي لتلبية حاجة السوق الأوروبية لمدة تصل إلى ثلاثة عقود.
ومن هنا تكمن أهمية التواجد الأميركي في هذه المنطقة وضم الطاقة إلى الحوار الإستراتيجي مع القاهرة بوصفها مقرا لمنتدى غاز شرق المتوسط الذي أصبح منظمة دولية قادرة على تحريك سوق الغاز العالمي.
ويتواكب التحرك الروسي مع إعلان موسكو قبل عام في منتدى “حزام واحد – طريق واحد” أنها تدرس إمكانية الربط بين طريق بحر الشمال وطريق الحرير البحري الصيني، وبالتالي هناك فرصة “لإنشاء طريق تنافسي يربط شمال شرق وشرق وجنوب شرق آسيا بأوروبا”.
وتبارك إيران خطي روسيا والصين، حيث نشرت وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية (إرنا) تغريدة كتبها السفير الإيراني في موسكو كاظم جلالي عبر تويتر السبت الماضي يقول فيها إن “الإسراع في إكمال البنى التحتية وتفعيل ممر ‘شمال – جنوب’ كبديل عن ممر قناة السويس صارا يحظيان بالأهمية أكثر مما مضى”.
وتستحوذ قناة السويس على عشرة في المئة من عمليات نقل الغاز المسال والبترول عالميا، وهذه النسبة مؤثرة في حركة تداول المحروقات دوليا، وكشف عن ذلك الارتفاع الذي شهدته أسواق تداول النفط والغاز بمجرد الإعلان عن جنوح السفينة في عرض قناة السويس.
وقفزت أسعار برميل النفط بنحو خمسة في المئة خلال الأزمة، وعادت إلى الهبوط بعد تحرير السفينة وتعويمها. وتعكس استجابة الأسواق لهذا الحدث الجوهري الأهمية الحيوية للقناة المصرية، بعد أن كانت المؤشرات تشير خلال الأزمة إلى اتجاه الشركات للسحب من مخزونها النفطي بسبب تعطل عمليات الإمداد.
أمعنت روسيا في التخطيط لسحب البساط من قناة السويس وجذب السفن للمرور شمالا عبر مياه المحيط المتجمد الشمالي، ورصدت حوافز مالية وتعويضات للسفن عن أي أضرار محتملة، وتطمئن الخطوط الملاحية بخططها الفعلية الخاصة بنقل الغاز الطبيعي المسال عن طريق الشمال.
وأعدت برنامجا لتنمية القطب الشمالي أكد عزم روسيا على تشجيع هذا التحول عن قناة السويس وتكثيف الدعاية للممر كوسيلة انتقال على مدار الأعوام القادمة إلى غاية حلول 2030، وتستهدف حوافزها المالية حل مشكلة رفض الناقلين التجاريين لدفع تكلفة تأمين وتأجير كاسحات الجليد التي تسير أمام السفن لفتح وتمهيد الطريق أمام الناقلات.
وأسست روسيا شركة حكومية لتنظيم حركة السفن تقوم بتعويض الناقلات التجارية عن أي تعطل وعن التأمين المرتفع للرحلات البحرية القطبية، فضلا عن قيامها بنقل البضائع بين شبه جزيرة كاماشتكا في أقصى شرق روسيا حتى ميناء مورمانسك في الغرب، بمسافة تصل إلى نحو ثلاثة آلاف ميل بحري تعرف بالخط البحري الشمالي.
ويرى أحمد الشامي الخبير المصري في النقل البحري أنه لا يمكن اعتبار الممر البحري الروسي في القطب الشمالي بديلا عن قناة السويس، والذي عبرت فيه سفن بحمولات لا تتجاوز ستين مليون طن آخر عشر سنوات، بينما تمر بالقناة المصرية سفن بحمولات تبلغ قرابة 1.2 مليار طن سنويا.
وقال الشامي في تصريح لـ”العرب” إن “القطب الشمالي لا يعد مجرى ملاحيا معتمدا، ولا يمكن أن يعتمد عليه إلا إذا ذاب الجليد، ووفقا للتوقعات الجغرافية هذا لن يحدث قبل عام 2050 على أقل تقدير”.
وتكشف حركة نقل البضائع والحاويات عالميا عن خروج الخط الروسي من دائرة المنافسة مع قناة السويس كمعبر ملاحي، إذ تمر بها نحو 18500 سفينة سنويا، وهو عدد ضخم مقارنة بالشرايين الملاحية الصناعية عالميا.
وفي دليل على أن المساعي الروسية تصطدم بعراقيل في طريق تحقيق مبتغاها ما أشار إليه بحث في جامعة توركو الفنلندية، حيث ذكر أن تكلفة نقل البضائع عبر الخط البحري الشمالي أعلى 36 في المئة من قناة السويس، فيما يعد السفر عبر الخط الشمالي متاحا فقط خلال الفترة من يوليو إلى أكتوبر من كل عام.
ولم يخف فؤاد ثابت، عضو جمعية مستثمري بورسعيد، خلال تصريح لـ”العرب” استغرابه من خطوة الكرملين متسائلا “إذا كان الخط الروسي منافسا فلماذا تكاسلت موسكو طيلة السنوات الماضية في تشغيله بشكل اقتصادي؟” واستطرد “قناة السويس تكتسب أهمية خاصة منذ تدشينها إذ تمر بها نحو 40 في المئة من حجم بضائع العالم”.
وتستطيع السفن التي تعبر قناة السويس تخفيض نحو 30 في المئة من قيمة تكاليف الشحن، الأمر الذي يجعل القناة منافسا لطريق رأس الرجاء الصالح، فضلا عن اختصار فترة شحن البضائع بين الموانئ بنحو أسبوعين.
ولذلك تخرج هذه الظروف مجتمعة الخط الروسي المتجمد من دائرة المنافسة، لكن تظل مناوشاته قائمة حال تكرار أزمات مستقبلا في المجري الملاحي المصري، وتتجدد معه دعوات شراء المصالح الاقتصادية، على الرغم من التوافق على مستوى العلاقات السياسية بين القاهرة وموسكو.
العرب