تتسارع التطورات السياسية في تونس على وقع الأزمة التي تعرفها البلاد منذ أشهر. لكن مع احتدام الصراع بين رئيسة الحزب الدستوري الحر عبير موسي وحركة النهضة بدا وكأن شقا كبيرا من اليساريين يميل إلى إعادة تقييم العلاقة بالدستوريين وتجاوز الخلافات التاريخية التي جمعت بينهم يوما ما، والتوجه نحو التحالف في مواجهة تيار الإسلام السياسي.
تونس- بدت تحركات حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد (وطد) اليساري، وأحد قيادييه البارزين النائب منجي الرحوي توحي بأن هناك التقاء موضوعيا مع الدستوريين، الذين تمثلهم رئيسة الحزب الدستوري الحر عبير موسي رغم الخلافات التاريخية والأيديولوجية بين الطرفين.
واليسار التونسي في مفترق طرق إذ يحاول تجنب “الموت السريري” بعد أن مُني بهزيمة قاسية في الانتخابات التشريعية الأخيرة رغم إرثه النضالي، ما يجعله يسعى إلى استعادة شعبيته بأي طريقة عبر التحالف مع موسي في ظل تبلور رأي عام مناهض لحركة النهضة الإسلامية التي يحمّلها شق كبير من التونسيين مسؤولية الأزمة باعتبارها في الحكم منذ 2011.
ويبدو الالتقاء بين الطرفين له مبرراته باعتبار أن اليسار يكن عداء كبيرا للمنظومة الحالية، التي أخفقت في تحقيق مطالب الثورة التي أسقطت نظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، في الوقت الذي ترفض فيه موسي هذه المنظومة برمتها.
وشهد البرلمان الأسبوع الماضي مناوشات حادة بين أعضائه بعد تعرض موسي إلى “اعتداء” ما أثار غضب الرحوي، الذي لم تتوان قيادات من النهضة عن اتهامه بالتحالف معها.
وقال الرحوي متوجها بخطابه لنواب النهضة “عبير موسي لم تفعل شيئا لكم”، مستدركا “سترون ماذا سأفعل أنا مقارنة بما فعلته، عليكم الرحيل أنتم ورئيسكم (راشد الغنوشي الذي يرأس البرلمان)”.
وصعّد النائب من لهجته حيال النهضة حيث قال الاثنين الماضي في تصريحات لوكالة تونس أفريقيا للأنباء إن “هناك حملة تكفير وتهديدات ونزعات تشهير طالتني في الأيام الماضية”. وأوضح أن الحملة تأتي بعد مطالبته في برنامج تلفزيوني، رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد “بالتحقيق في نمو ثروة قياديين من حركة النهضة ومن بينهم نواب من الحركة”.
لم تكن انتخابات 2019 استحقاقا انتخابيا عاديا نظرا للظروف، التي أحاطت بها، فوفاة الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي سرعت بتنظيم اقتراع برلماني ورئاسي سابق لأوانه مر بجانبه التيار اليساري مرور الكرام، حيث لم يحصد أي مقعد في البرلمان، وخسر مرشحوه عبيد البريكي وحمة الهمامي ومنجي الرحوي في الاستحقاق الرئاسي منذ الدور الأول.
في المقابل، عاد رموز حزب التجمع الدستوري الديمقراطي المنحل في مارس 2011 إلى الواجهة حيث حصد الحزب الدستوري الحر 16 مقعدا في الانتخابات مستفيدا من خطاب يُحمل الإسلاميين والمنظومة التي أفرزتها الثورة مسؤولية تدهور الأوضاع في البلاد.
واللافت أنه رغم الخطاب الثوري الذي ساد طيلة العشرية الماضية والذي أرغم العديد من الأسماء المحسوبة على بن علي على الانخراط في المنظومة الحاكمة والتحالف مع أعداء الأمس (الإسلاميين) على غرار آخر أمين عام لحزب التجمع محمد الغرياني، الذي أصبح اليوم مستشارا لدى راشد الغنوشي، إلا أن موسي لم تحد عن الأفكار التي تبنتها في السابق.
وتبنت موسي التي باتت تتصدر استطلاعات الرأي مع حزبها، خطابا مناهضا للثورة التي تعتبرها انقلابا، إلى جانب من أتت به تلك الأحداث ما جعلها تنجح في حشد فئة كبيرة من المناوئين للإسلاميين، ويبدو ذلك جليا خلال اجتماعات حزبها والتحركات التي تنظمها ضد النهضة وأذرعها على غرار الاعتصام الأخير ضد وجود اتحاد علماء المسلمين فرع تونس.
ورغم الخلافات التاريخية التي طبعت علاقة اليسار بنظامي الزعيم الحبيب بورقيبة (1956-1987) -الذي تقول موسي إنها تستلهم منه أفكارها- وبن علي (1987-2011) إلا أن ذلك لا ينفي بروز بوادر تقارب بين موسي وشق من اليسار في ظل احتدام المعركة ضد النهضة.
ويبدو أن هذا التقارب تنقصه خطوة أخيرة لإزالة الخلافات القديمة مادام العدو واحدا وهو تيار الإسلام السياسي بمختلف أطيافه، وهذه الخلافات تتعلق بالأساس بالاتهامات من الطرفين بالتحالف سابقا مع الإسلاميين لضرب الطرف المقابل.
وهذا صحيح، فاليسار التونسي كان من ضمن الفعاليات، التي شكلت هيئة 18 أكتوبر التي هي بمثابة تجمع لمعارضي بن علي من إسلاميين ويساريين وعروبيين بعد أن قام قياديون من مختلف تلك التوجهات بإضراب جوع في العام 2005 انتهى بإعلان تشكيل هذه الهيئة لمواجهة “استبداد بن علي”.
في المقابل تتهم التيارات اليسارية، التي لم تتوان يوما عن حمل المطرقة والمنجل رغم حالة الضعف الشعبي لاعتبارات عدة، الدستوريين باستعمال نظام بورقيبة للإسلاميين من أجل ضرب خصومه اليساريين.
اليسار في مفترق طرق حيث يحاول تجنب «الموت السريري»، مما يجعله يسعى لاستعادة شعبيته بأي طريقة
ولئن اختلفت الروايات التاريخية حول الصراع بين الطرفين فإن الثابت هو أن اليساريين باتوا عاجزين على حشد الشارع رغم تغلغلهم في العديد من الهيئات النقابية والمنظمات الطلابية وغيرهما، والدستوريين وتحديدا الشق الراديكالي منهم الذي يرفض أي تسوية مع الإسلاميين عاد بقوة إلى الواجهة بعد سنوات من إخفاق ما يعرف بالأحزاب الثورية رغم الترويج إلى أن هناك تحالفا سيجمع الدستوريين والإسلاميين في مرحلة مقبلة.
ومع إصرار النهضة على مواصلة التمكين ومحاولة الهيمنة على مؤسسات الدولة على غرار البرلمان والمحكمة الدستورية وغيرهما بدا جليا أن قيادات يسارية وازنة بدأت تميل للتحالف مع شق من الدستوريين لمواجهة المد الإسلامي.
وجاءت التطورات التي فرضتها إخفاقات التيارات الثورية في إحداث التغيير المنشود ما جعل موسي تستعيد الشارع رغم الحملات التي طالت الدستوريين منذ 2011.
رغم أن التيارات اليسارية تدرك أن استمراريتها رهين تحالفات مثلها مثل بقية الأطراف السياسية لكن الشق الراديكالي داخلها لا يزال مترددا بشأن العمل مع موسي مع احتدام المعركة ضد الإسلاميين، الذين يخوضون صراع بقاء بعد تزايد الخصوم في ظل المواجهة مع الحزب الدستوري الحر والرئيس قيس سعيد وغيرهما.
ويقود هذا الشق المتحدث باسم حزب العمال حمة الهمامي ويساريين آخرين على غرار البريكي. ويرفض هؤلاء أي تحالف مع موسي كما النهضة محاولين التأسيس لما بات يعرف بـ”الخيار الثالث الوطني”، الذي يُخرج البلاد من دائرة الاستقطاب الثنائي.
ومع أنه عاجز على التحشيد، وهذا بدا جليا في الـ6 من فبراير الماضي عندما دعت منظمات وأحزاب يسارية أو القريبة من التيار اليساري إلى مسيرة لم يتجاوز عدد المشاركين فيها بضعة المئات رددوا شعارات من قبيل “سحقا سحقا للرجعية.. دساترة وخوانجية (دستوريون وإخوان)” لا يزال هذا الشق يحاول دون جدوى استعادة زمام المبادرة ولو بالشارع.
وقال الهمامي في تصريحات سابقة لـ”العرب”، “نحن ندفع نحو تكوين قطب جديد يجمع القوى اليسارية لأن مكان اليسار واضح في المشهد الذي يتصدره صراع يميني-يميني بين النهضة وحلفائها وأطراف أخرى أو مع من يحنون للنظام السابق،.. هذا القطب سيطيح بالمنظومة الحاكمة حاليا بالشارع”.
ولم يبق الحزب الدستوري الحر، الذي يتقدم في استطلاعات الرأي الوطنية دون أي حلفاء، مكتوف الأيدي إذ حاول مرارا استمالة اليساريين كما غيرهم إلى صفه لدفع المواجهة مع الإسلاميين إلى أقصاها.
وأصدر الحزب في ديسمبر الماضي ميثاق “تصحيح المسار” تضمن دعوة إلى الكتل البرلمانية والمنظمات الوطنية إلى الاطلاع عليه وإمضاءه قصد بناء شراكة بين هذه الأطراف.
ولم يتردد حزب موسي في وضع نقطة عدم التحالف مع الإسلام السياسي في طليعة بنود ذلك الميثاق حيث نص على أن “تونس جمهورية، مدنية، اجتماعية، ذات سيادة وطنية، لا مكان فيها للإسلام السياسي” وهي النقطة التي شددت عليها رئيسة الحزب في وقت لاحق محملة القوى السياسية التي لم تتحرك مسؤولية غياب جبهة موحدة في مواجهة الإسلاميين.
ورغم هذه الجهود إلا أن ما يعاب على الدستوري الحر هو عدم توجهه إلى عائلته السياسية أولا، فموسي لا تزال بعيدة على تحقيق الإجماع حول شخصها داخل العائلة الوسطية التي تحمل لواء الدفاع عن مدنية الدولة والتي تتبنى أفكار بورقيبة.
ولذلك، ربما النقطة التي يشترك فيها اليسار وموسي هو غياب المراجعات الذاتية – شأنهم في ذلك شأن الإسلاميين- ما يجعل التباعد والتنافر بين الطرفين ميزة المرحلة الأساسية رغم الحاجة إلى توحيد الجهود لوضع حد لحركة النهضة التي يغيب عنها اليوم خطاب المظلومية الذي انتهجته لعقود، ومكنها من اعتلاء دفة الحكم.
وجعلت هذه المعطيات موسي تندفع نحو استمالة قواعد العائلة الوسطية واليسارية على حد سواء دون الذهاب إلى قياداتها وهو ما نجحت فيه باعتبار اكتساحها للمشهد الأمر الذي قد يدفع تلك القيادات إلى الانعطاف نحو تخطي الخلافات التاريخية وبناء تحالف قوي يطيح بالإسلاميين في الاستحقاقات المقبلة.
العرب