الولايات المتحدة وسوريا.. من أساء فهم الآخر؟

الولايات المتحدة وسوريا.. من أساء فهم الآخر؟

كان مثيراً للاهتمام والتفكّر خلال الأيام الماضية، نشر صفحات لليهود العراقيين على موقع تويتر لصورة فوتوغرافية لجنديين أميركيين يعكفان على نشر قفل خزنة فولاذية خلال الحرب على العراق مع التعليق التالي “جنديان أميركيان وهما ينشران الديمقراطية في العراق”. تعبير ساخر يستدعي معه أحدث طروحات أدلى بها اثنان من صنّاع القرار الأميركي في الشرق الأوسط، أولهما السفير الأسبق في سوريا روبرت فورد، الذي كتب مؤخراً أن الشعب السوري فهم موقف واشنطن بطريقة خاطئة، حين اعتقد أنها تدعم التغيير في سوريا وأنها بالفعل، تنوي إزاحة نظام الرئيس بشار الأسد. وثانيهما وهو الأهم والفاعل اليوم بقوة، وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن الذي تحدّث بانفعال وتأثّر في اجتماع حول الملف السوري عقد قبل أيام.

قال بلينكن إن على القوى الدولية أن تخجل من عدم تحريكها ساكناً في سوريا، وطالب بفتح الحدود السورية أمام المساعدات الدولية. وعبّر فوق ذلك عن شعوره بالغضب الشديد، كلما جرى الحديث عن سوريا.

ليس هذا فقط، بل إن الوزير المحنّك أضاف بلغة تعبيرية مقصودة قائلاً “كيف يمكن ألا نجد في قلوبنا قيماً إنسانية مشتركة من أجل القيام بفعل ذي معنى؟ انظروا في قلوبكم. يجب علينا أن نجد طريقة لعمل شيء ما. هذه مسؤوليتنا، وعارٌ علينا إن لم نفعل ذلك”.

بين هذين الموقفين، يمكن السؤال، ليس فقط عن السوريين وقصتهم مع نظام معقّد حكمهم بالحديد والنار منذ بدايات الستينات وحتى اللحظة، بل مع جميع من لامستهم يد الرحمة الأميركية في العالم العربي. فهل حقّاً فهمت الشعوب العربية مشروع واشنطن لنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط الذي بدأ بغزو العراق في العام 2003 بشكل خاطئ؟

إذ كيف يمكن أن يُساء فهم المطالب الأميركية للزعماء العرب بالتنحّي على لسان أوباما في تلك السنوات المثيرة، إن لم يكن هذا موقف واشنطن؟ ألم يخرج أوباما موجّهاً خطابه إلى الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك بصيغة الأمر، مكرّراً أن عليه أن “يرحل. الآن، يعني الآن”؟ ألم تشجّع الولايات المتحدة الليبيين على الثورة وتساهم في قصف نظام القذافي؟ الأمر ذاته في اليمن وفي ملفات أخرى.

من الصعب تصديق فورد بعد إشرافه شخصياً، كأمّ العروس، على كل صغيرة وكبيرة في تشكيل المعارضة السورية الحالية، وحرصه على تلصيق قطع صغيرة صنعت مشهداً بعينه، علاوة على رسمه الدقيق لمواقف تلك القوى الدولية التي يتحدّث عنها بلينكن اليوم، حين كانت الساحة خالية، ولم يكن بوسع أحد التدخّل سوى واشنطن التي واجهت واقعاً خارجاً عن السيطرة، فكان عليها أن تعالجه بمعطيات تناور مع جميع الأطراف بواقع جديد مهمّة فورد كانت تركيبه بعناية، وكأنه كان يقرأ من “كاتالوغ طوارئ” معدّ سلفاً.

هناك رؤية أميركية إذاً. والأمر ليس كما يزعم فورد، مجرّد سوء تفاهم. ومحض تداعيات حول بائع “لحم بعجين” روى السفير “العاطفي” كيف أنه كان يتوجّه إليه بعد عمله سيراً على الأقدام في دمشق. واصفاً طريق عودته إلى مقر إقامته بالقول “خلال سيري، كنت أمرّ بمقاهٍ ومحال تجارية كان الناس يتابعون فيها، عبر شاشات التلفزيون، الأحداث الجارية في مصر، وفيما بعد الأحداث في ليبيا واليمن. وعلمنا مساء 17 فبراير بالمظاهرة السلمية التي خرجت، ذلك اليوم، في سوق الحريقة في قلب دمشق، على بعد ثلاثة كيلومترات من مقر سفارتنا. وأرشدني أحد السوريين إلى كيفية العثور على معلومات عن هذه المظاهرة على شبكات التواصل الاجتماعي”.

التحوّل الكاركاتوري للدور الأميركي في الشرق الأوسط، من حارس للعالم، إلى مجرّد متابع عبر فيسبوك، والذي يبرز جلياً في كلام فورد وبلينكن، يقود إلى ما تفعله واشنطن مع حلفاء آخرين لها في المنطقة، أهم وأكثر تاريخية من شعوب الشرق التي تطلّعت إلى التحرّر والديمقراطية التي تنشرها الولايات المتحدة بجيوشها. الحقيقة أنها لن تستطيع التخلص من هذه التهمة، مهما فعلت، لأن نظام العولمة الذي ينتشر بإرادة سياسية أميركية منذ مطالع التسعينات، ينقل معه فايروس الديمقراطية بالضرورة، فلا حرية تكنولوجية بلا حرية رأي، ولا قدرة شرائية بلا تحرير سوق، ولا خلق للحاجة والجديد من دون التخلّص من هيمنة الدولة الأم؛ النظام القديم.

لنعد إلى حلفاء الولايات المتحدة، وإلى طرفة يرويها ساخراً الرئيس الأشدّ فقراً في العالم، في الفيلم الوثائقي الذي أعدّه المخرج الصربي أمير كوستاريكا صاحب فيلم “زمن الغجر” عنه. فقد ردّد رئيس الجمهورية السابق في الأوروغواي خوسيه موخيكا حكمة لاتينية عتيقة تقول “إن الدولة الوحيدة في الكرة الأرضية التي لا يوجد فيها انقلابات هي الولايات المتحدة، لأنه لا توجد سفارة أميركية في واشنطن”. وهي فكرة تعكس كيف يفهم العالم الدور الأميركي الذي نراه دون أي تشويش في الخليج العربي. حيث تحرص الولايات المتحدة على إبقاء توازن الرعب بين إيران وحلفائها الأكثر قرباً والأكثر أهمية دوماً، العرب.

قال فورد إن المسؤولين الأميركيين أصرّوا على الحديث عن “عدم وجود حل عسكري” للأوضاع في سوريا. وأضاف “كرّرنا هذا الأمر الآلاف من المرات منذ عام 2011 حتى يومنا هذا، إلى درجة أن هذه العبارة تحوّلت إلى عقيدة راسخة في أذهاننا. ومع ذلك، تبقى الحقيقة أنه في الحروب، يظل التوازن العسكري الأمر الأكثر أهمية”. لكن واشنطن سمحت بالحلّ العسكري الروسي – الإيراني في سوريا لدعم الأسد، دون أن تحرّك ساكناً. المفارقة أن فورد لم يفته لفت انتباه قرائه إلى عدو قديم، بات اليوم، على ما يبدو، مُلهماً للساسة الأميركيين. إنه الزعيم السوفييتي الشيوعي الأسبق جوزيف ستالين الذي يرى فورد أنه من الجدير التذكير أن “ستالين، عندما حذّره مستشاروه من أن بابا الفاتيكان سيغضب إزاء تصرفات السوفيات داخل بولندا، الدولة الكاثوليكية، كان تعليقه: كم عدد الكتائب التي يملكها البابا؟ وبالفعل، ظل الجيش السوفييتي داخل بولندا طوال 49 عاماً”. وبدلاً من استلهام أبراهام لينكولن وتوماس جيفرسون وجورج واشنطن، غدا ستالين الأكثر واقعية ودموية، هو النبي الأميركي الجديد.

لا شكّ أن الخطاب السياسي الأميركي اليوم خطاب بالغ التهلهل، تساهم عولمتهم ذاتها بفضحه أكثر، ولو أن الأوضاع كانت كما في زمن الحرب الباردة لربما خرجت المحكمة العليا في واشنطن مطالبة بمحاكمة أوباما وسفيره فورد على التلاعب بالقيم الأميركية الذي قاما به في سوريا.

أما الخطأ الأكبر الذي ارتكبه الأميركيون، حسب فورد دائماً، فهو عجزهم عن استيعاب كيف يفكّر السوريون. يقول “زرتُ حماة في يوليو 2011 لبعث رسالة إلى حكومة الأسد، مفادها أنه حال ارتكابها مذبحة فإننا سنراقب الوضع بدقة، على خلاف ما حدث عام 1982. وذكرت هذا بالفعل خلال لقائي بوزير الخارجية وليد المعلم، الاثنين التالي لزيارتي للمدينة. بيد أنه للأسف، تركت زيارتي انطباعاً لدى الكثير من المتظاهرين السوريين بأن واشنطن تدعم ‘تغيير النظام’، وجاء التصريح الصادر عن أوباما في أغسطس2011 حول ضرورة تنحي الأسد ليعزّز هذا الانطباع الخاطئ”.

يتحدث فورد عن تهديد للأسد بعدم ارتكاب مجازر، وعن أن من فهم الرسالة هم من صاروا الضحايا لا المُرسَل إليه. لكن الأميركيين ظلّوا، حتى هذه اللحظة، يشتغلون على الضحايا وتركوا من وجّهوا إليه الرسالة يواصل تدمير سوريا وارتكاب مجازر أكبر بأضعاف من مجازر حماة. وهم لم يتدخلوا لأن هذا البلد له سيادة، كما يبرّرون، بينما يقول بلينكن في أيامنا هذه إن “السيادة لا تعني ضمان حق الحكومة في تجويع شعبها وحرمانه من الدواء، وقصف المستشفيات وارتكاب أي انتهاكات أخرى لحقوق الإنسان بحق المدنيين”.

فضيلة فورد الوحيدة هي إشارته في حديثه حول سوء الفهم، إلى أن الألمان استعادوا وحدتهم عام 1990 بعد مفاوضات بين الشطرين الشرقي والغربي لألمانيا، جرت على مسار، في حين انهمكت دول الاحتلال الأربع في مناقشة الأمن الإقليمي الأوروبي على مسار مختلف. “ولم يكن ممكناً التوصل إلى اتفاق، لو أن الألمان لم يتوصلوا في ما بينهم لاتفاقٍ في المقام الأول”. وهو يعبّر بهذا عن مخاوف أميركية، تدلّ على أن واشنطن تفهم جيداً، ولا تسيء الفهم، وأنّ العرب والسوريون من بينهم، سيفهمونها كما فهمها الألمان ذات يوم.

العرب