تعتمد الدول الريعية على تصدير سلعة معينة في تحديد غالبية دخلها المالي. ويتأثر انخفاض سعر النفط إما بالتذبذبات اليومية للمضاربات في البورصات العالمية، أو بتدهور الأسعار بسبب نزاعات سياسية أو تغييرات أساسية في صناعة النفط كما يحصل الآن. ومهما يكن السبب، أصاب اقتصادات بعض الدول المصدرة وهن قد لا يمكنها من تحمل صدمات انخفاض الأسعار، ومن ثم فاستمرار اعتمادها على الريع النفطي قد يعرضها إلى أخطار جسيمة، في ضوء التحولات الكبرى في صناعة الطاقة.
استعرض كاتب هذه السطور «آثار انخفاض الأسعار على الدول المصدرة» في ندوة أقامها «المركز اللبناني للدراسات» في بيروت الأسبوع الماضي. وجاء في ورقته أن الخطورة تكمن في الاتكال على الريع النفطي بما قد يفقدها السيطرة على زمام الأمور. وفي إحدى الدول المصدرة الرئيسة بلغ تعداد الموظفين أكثر من 10 في المئة من عدد سكان البلاد، ما قد يحرم الدولة من بعض الخيارات لمواجهة انخفاض الأسعار.
ومما يزيد الطين بلة أن دولاً مصدرة كثيرة تعتمد السعر النفطي الأعلى المفترض في موازنة العام المقبل، وتضع سياسات طموحة على أساس السعر المفترض في التوظيف والتسلح وتنفيذ المشاريع. وتضطر الدول في حالتي التذبذب والتدهور في الأسعار، إلى إعادة النظر في رسم موازناتها. وهذا ليس بالأمر السهل، إذ ان إعادة النظر في عقود المشاريع مع الشركات تسبب خلافات قانونية قد تؤدي إلى دفع تعويضات مالية باهظة أو تأخر تنفيذ المشاريع، ما يؤدي إلى انخفاض معدلات الإنتاج وخسارة الأموال. وستثير محاولة خفض الرواتب ومعاشات التقاعد ردود فعل اجتماعية وسياسية.
يعود التشبث بالسياسة الاتكالية على النفط إلى وجهة نظر تقول إن الطلب على النفط في ازدياد مستمر نظراً إلى تحسن مستوى المعيشة والنمو الاقتصادي المستدام وازدياد عدد السكان في الدول الناشئة في العالم الثالث في المدى البعيد. وبالفعل ارتفعت معدلات الطلب العالمي على النفط إلى نحو 92 مليون برميل يومياً، تبلغ حصة «أوبك» منها نحو 30 في المئة.
إن فرضية زيادة الطلب في المدى البعيد صحيحة بسبب النمو الاقتصادي المستدام وزيادة عدد السكان في دول ناشئة مهمة، ما يعطي الدول المصدرة الثقة في أن تراجع أو تدهور أسعار النفط هو أمر موقت، يعود إلى دورات اقتصادية قصيرة المدى نسبياً، وأن الطلب على الطاقة سيزداد عاجلاً أم آجلاً، وستتحسن الأسعار. لكن تبني هذه الفرضية يتطلب وجود اقتصادات ناجحة ومرنة عند الدول المصدرة تتحمل الصدمات المالية المتكررة. وهذا ما لا يتوافر في عدد كبير منها فتنشأ المشكلات والخلافات. وتتعرض أسواق الدول الناشئة الكبرى ذات الاقتصادات النامية المستدامة إلى الهزات الاقتصادية نفسها التي تتعرض لها أسواق الدول الصناعية الكبرى من تضخم وتقلبات في أسواق الأسهم وتغير في قيمة العملات والسياسات المالية الحكومية، كما هو حاصل الآن في الصين. فالسياسات القصيرة المدى في الدول الناشئة لها انعكاساتها السلبية على الأسواق العالمية، حالها حال انعكاسات الدول الصناعية.
ويمر العالم اليوم بتقدم علمي هائل يترك بصماته على صناعة الطاقة. هو يزيد استهلاك الطاقة بسبب زيادة استعمال وسائل النقل والأدوات الكهربائية المنزلية. لكن التقدم العلمي يؤدي كذلك إلى زيادة مصادر الطاقة، مثل اكتشاف النفط الصخري أو نفوط أعماق البحار، مع الاستخدام المتزايد للطاقات البديلة. والأمر الأهم هو مدى توسع إنتاج وسائل النقل الهجينة، فقطاع المواصلات هو السوق الأهم للنفط، وأي اختراق له بكميات تجارية من الطاقات البديلة يؤثر سلباً في النفط. وهناك تأثير الاهتمام العالمي للمجتمع المدني والحكومات بالبيئة والتغير المناخي والانبعاثات الهيدروكربونية.
كذلك تغيرت صناعة النفط، فـ «أوبك» ليست المحرك الأساس والوحيد في الصناعة، بل تحتاج إلى التعاون بجدية مع الدول غير الأعضاء فيها. فإلى السعودية، هناك دولتان أخريان ينتج كل منهما نحو 10 ملايين برميل يومياً، هما روسيا والولايات المتحدة. وتفوق الطاقة الإنتاجية لروسيا 10 ملايين برميل يومياً، كما أن السعودية تخطط لزيادة طاقتها الإنتاجية إلى نحو 12 مليون برميل يومياً. وتتراوح الطاقة الإنتاجية الأميركية عند نحو 10 ملايين برميل يومياً على رغم توقع انخفاض إنتاج النفط الصخري الأميركي بين الحين والآخر نظراً إلى طبيعة صناعة تكسير الصخور.
هذه الحقائق تتطلب نهجاً جيوسياسياً جديداً من جانب «أوبك» فهي تتعامل مع هذه الحقائق اليوم من خلال تشكيل محاور داخل المنظمة بدلاً من انتهاج سياسة موحدة، وهذا هو أسوأ البدائل، إذ ان المحاور ستؤدي إلى انقسامات عميقة في المنظمة بعد سنوات من العمل المشترك والناجح على رغم اختلاف سياسات الدول الأعضاء عموماً. وروسيا والولايات المتحدة دولتان كبريان، لهما مصالح عالمية مختلفة ومناقضة. وهناك الاختلافات في النظم الاقتصادية والقانونية بين البلدين، وهذا يتطلب استراتيجية مرنة جديدة من جانب «أوبك» تجاههما.
تريد كل الدول المنتجة من دون استثناء الدفاع عن حصصها في الأسواق. وبما ان تكاليف إنتاج النفوط التقليدية أقل بكثير من النفوط غير التقليدية، سيوقف بعض حقول النفوط غير التقليدية إنتاجه إلى حين تحسن الأسعار ليعود إلى الإنتاج ثانية. وهذا ما حصل في السبعينات حين أجلت الشركات الإنتاج من بعض حقول بحر الشمال وألاسكا العالية الكلفة حتى تحسنت الأسعار. ويتوقع أن تتكرر هذه التجربة خلال المرحلة الحالية مع بعض حقول النفوط غير التقليدية. وخلال الثمانينات، مع بدء إنتاج بحر الشمال وحقول ألاسكا، خفضت «أوبك» الإنتاج من 31 إلى 13 مليون برميل يومياً. وهذا الحجم من التخفيض غير معقول أو ممكن الآن.
ماذا تستطيع الدول المصدرة أن تفعل حالياً للتعامل مع هذه التحديات؟ هناك التحديث وخلق الاستقرار في النظم السياسية الداخلية. وهناك ضرورة تنويع الاقتصاد كي لا يعتمد على سلعة فقط. وهذه خطوات سيأخذ تحقيقها وقتاً طويلاً في أحسن الأحوال. لكن هناك خطوة صعبة يمكن تحقيقها تدريجاً في المدى المتوسط، يمكن أن تشكل نقطة انطلاق في اتجاه التغييرات الأساسية. يمكن تحويل الريع إلى المشاريع المنتجة والبنى التحتية مباشرة بدلاً من المرور بالموازنة السنوية المتخمة بالرواتب. ويمكن إفساح مجال أوسع للقطاع الخاص مع ضرورة توافر قوانين تحد من تضارب المصالح الخاصة وانتشار الفساد.
نقلا عن صحيفة “الحياة