لم تكن المصادفة وحدها هي التي جعلت دولة الاحتلال الإسرائيلي تجمع بين حدثين متعارضين من حيث الشكل ومتكاملين من حيث المضمون: الأول هو افتتاح جلسات استعراض الأدلة في محاكمة رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو بتهم الرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة، والحدث الثاني هو إعلان الرئيس الإسرائيلي تكليف نتنياهو بتشكيل الحكومة.
وكان الشكل يقتضي ألا يكون الخاضع لمحاكمة مثل هذه على تهم مثل تلك على رأس السلطة التنفيذية، وأن يسجل رقماً قياسياً جديداً كأطول رئيس حكومة في المنصب على امتداد تاريخ الكيان. لكن المضمون اقتضى أن يدخل الكنيست الإسرائيلي في مأزق رابع لجهة العثور على أغلبية كافية تتيح تشكيل الحكومة، لأسباب عديدة قد يكون أبرزها أن شرائح واسعة في المجتمع الإسرائيلي تواصل تعلقها بهذا الماثل أمام القضاء ولا تريد سواه على رأس الحكومة.
المظهر الثاني لهذا التأزم هو أن نتنياهو لا يكتفي بتوظيف شعبيته لدى تلك الشرائح وفي قيادة الليكود، الذي يظل أكبر أحزاب دولة الاحتلال، بل يواصل التنمر على النظام القضائي ذاته في الدولة التي يفاخر أصدقاؤها الغربيون بأنها الواحة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط. آخر اتهاماته للقضاة وللادعاء العام أنهم يحيكون ضده مؤامرة انقلابية، ويستبعدون الشهود، ويخفون تسجيلات لصالحه، وكل هذا لتقويض «رئيس حكومة قوي قادم من صفوف اليمين».
غير أن المظهر الثالث للأزمة المفتوحة هو هذا على وجه التحديد: أن اليمين الإسرائيلي، التقليدي والمتدين والمتطرف على حد سواء، عاجز عن إقناع شرائح أخرى من المجتمع الإسرائيلي ببراءة نتنياهو أو جدارته لرئاسة الحكومة. هو كذلك يمين متفرق غير قادر على توحيد صفوفه في الحدود الدنيا التي يمكن أن تفرز أغلبية كافية في الكنيست، بل إنه يشهد انقسامات متعاقبة كان أحدثها انشقاق جدعون ساعر عن الليكود وتشكيل حركة «أمل جديد».
وليست معارضة نتنياهو في حال أفضل بالطبع، وهذا هو المظهر الرابع الذي يُبقي الوضع عالقاً، إذْ لم يعلن الرئيس الإسرائيلي أن تكليف نتنياهو بتشكيل الحكومة لم يكن سهلاً «على الصعيد المعنوي أو الأخلاقي» إلا لأن خصوم الأخير فشلوا بدورهم في حيازة ثقة الشارع الإسرائيلي وامتلاك أغلبية الحد الأدنى لانتزاع التكليف. ولم تنقضِ سوى أشهر قليلة على الانتخابات الثالثة التي شهدت صعود ائتلاف «أزرق أبيض» بوصفه قائد المعارضة، قبل أن ينزلق وقادته سريعاً إلى سلسلة تنازلات أمام نتنياهو لم تسفر عن تفكك الائتلاف فقط بل جلبت عليه لعنة الناخب الإسرائيلي في دورة الانتخابات الأخيرة.
ويبقى أن مظاهر التأزم الأربعة هذه، وسواها أخرى عديدة، لا تحجب حقيقة اتفاق جميع الأحزاب والكتل والحركات الإسرائيلية على الجوهر الاستيطاني والعنصري لدولة الاحتلال، والتعامي استطراداً عن حقيقة أن الأزمات التي تعصف بنظامه السياسي ليست ناجمة عن مشكلات طارئة أو مؤقتة بقدر ما هي معضلات بنيوية كان لا مفرّ من أن تتأصل في بنية الكيان وتنخر ركائزه تباعاً. وليس الاجتماع في شخص نتنياهو بين المثول أمام القضاء واستلام التكليف بتشكيل الحكومة سوى واحد من التجليات الأحدث لذلك النخر البنيوي.
القدس العربي