دخلت أزمة سد النهضة مرحلة جديدة، قد تفضي إلى مواجهة عسكرية بين إثيوبيا، من ناحية، وكل من مصر والسودان، من ناحية أخرى، فقد أعلنت إثيوبيا، قبل أسابيع، أنها ستقوم بالملء الثاني لخزان السد في موعده المحدد، شهر يوليو/ تموز المقبل، سواء تم التوصل إلى اتفاق حول الملء والتشغيل أو لم يتم، الأمر الذي أثار ردود فعل غاضبة، ربما أكثرها وضوحا ما صدر عن الرئيس عبد الفتاح السيسي أن “حقوق مصر في مياه نهر النيل خط أحمر”، وأن “كل الخيارات ستكون مفتوحة إذا ما تم المساس بحقوق مصر المائية”. ما يشير بوضوح إلى أن مصر لن تتردّد في اللجوء إلى الخيار العسكري، إذا استمرت إثيوبيا في موقفها المتعنت.
يعتقد بعضهم أن أزمة سد النهضة تتعلق بتوزيع مياه نهر شحيح الموارد، وهذا خطأ شائع، فعدد الدول المشاطئة لنهر النيل، أطول أنهار العالم قاطبة (6650 كلم)، وأحد أهم مصادر المياه العذبة فيه، ييلغ 11 دولة، بعضها يخترقها مساره، وأخرى توجد على أرضها منابعه، وثالثة تجري عبر أراضيها روافده. ولا تشمل الأزمة الحالية كل دول الحوض، وإنما تقتصر فقط على إثيوبيا، إحدى دول المنبع، وكل من السودان ومصر دولتي المصب. فكل دول الحوض، باستثناء مصر والسودان، لا تواجه عجزا في احتياجاتها من المياه، أما الأخرى فلديها ما يكفيها وزيادة، حيث معدل هطول الأمطار عندها يتراوح بين 100و1500 ملم في السنة، بينما لا يتجاوز في شمال السودان وكل مصر 20 ملم في السنة، الأمر الذي يضطر مصر إلى الاعتماد في 97% من احتياجاتها المائية على مياه نهر النيل، والسودان على 77% من احتياجاتها. وربما يكون مفيدا هنا التذكير بأن حصة مصر والسودان معا من مياه نهر النيل لا تتجاوز 74 مليار متر مكعب، بينما يسقط على هضبة الحبشة وحدها حوالي 900 مليار متر مكعب سنويا في المتوسط، ما يعني أن كمية المياه التي تصل إلى مصر والسودان معا لا يزيد حجمها على 8% من كمية المياه التي تسقط على الهضبة الحبشية.
مصر لن تتردّد في اللجوء إلى الخيار العسكري، إذا استمرت إثيوبيا في موقفها المتعنت
إذا كانت الأزمة الراهنة لا تتعلق بشح موارد المياه، ولا تشمل كل دول حوض نهر النيل، فما هي إذن أسبابها ودوافعها الحقيقية؟ لفهم طبيعة تلك الأزمة وأبعادها، يتعين النظر في ثلاث قضايا أساسية: حقوق الأطراف الثلاثة المتصارعة، أو بالأحرى ما يدّعي كل طرف أنها حقوقه المشروعة التي لا يحق لأحد المساس بها. المرجعيات التي تستند إليها تلك الادعاءات، خصوصا القانونية منها. الخيارات والبدائل المتاحة أمام أطرافها، وكذلك المدى الذي يمكن أن يذهب إليه كل طرف في تعامله مع الأزمة.
تقول إثيوبيا إن لها الحق في التنمية، وهو حق يتفرع منه حق آخر لا يقل عنه أهمية، السيطرة على مواردها الطبيعية. ولذا تعتبر الأمطار التي تسقط على هضبتها، وتشكل نسبة كبيرة من حصيلة المياه المتجمّعة في النيل الأزرق، جزءا من مواردها الطبيعية التي يحق لها أن تستغلها بشكل منفرد، سواء في توليد الكهرباء أو في الزراعة أو في أي وجه آخر من الاستخدامات المتنوعة للمياه. بل يذهب الشطط بإثيوبيا إلى حد اعتقاد أن من حقها بيع فائض حاجتها من مياه الأمطار المتساقطة على أراضيها إلى كل من يرغب من الدول المجاورة أو غير المجاورة، تماما مثلما يحق للدول العربية أن تتصرف في استخدام وبيع النفط الذي تستخرجه من أراضيها بالطريقة التي تراها.
مصر والسودان لا تريان الأمر على هذا النحو، فهما لا ينكران حق إثيوبيا في التنمية، لكن اعتراضهما ينصبّ على ادّعاء إثيوبيا ملكيتها الخالصة والمنفردة للأمطار المتساقطة على هضبتها، والتي تسهم بالنصيب الأكبر من مياه نهر النيل الواصلة إليهما عند المصبّ. بل ويعتقدان أنه ليس في مقدور أحد على الإطلاق أن يشكّك في حقيقة أن نهر النيل دولي بامتياز، وأن الطبيعة وحدها هي التي رسمت على مدى آلاف السنين منابعه وروافده ومساره ومصبّه، ومن ثم فمياهه لا بد وأن تكون ملكية مشتركة لجميع الدول المشاطئة، تتحدد أنصبتها وحقوقها وفقا لقواعد القانون الدولي وحده، ومن ثم لا يجوز لدولة بعينها، حتى ولو كانت دولة المنبع أو الدولة التي تتساقط على أراضيها الكمية الأكبر من الأمطار المغذّية للنهر، أن تدّعي ملكيتها المنفردة لها، أو تعترض مسارها بطريقةٍ تلحق الضرر بالشركاء الآخرين.
مصر والسودان لا ينكران حق إثيوبيا في التنمية، لكن اعتراضهما ينصبّ على ادّعاء إثيوبيا ملكيتها الخالصة والمنفردة للأمطار المتساقطة على هضبتها
كانت مياه النيل موضوعا لعدة بروتوكولات واتفاقيات ومذكرات دولية متبادلة، تم توقيعها في أعوام 1891, 1902, 1906, 1925, 1929, و1934, وهي اتفاقياتٌ لا تتعلق بتحديد حصص مياه نهر النيل أو توزيعها، وإنما تدور اساسا حول التزام دول المنبع وتعهدها بعدم إقامة اية سدود أو مشروعات، من شأنها الإضرار بدولتي المصب، أي بمصر والسودان، اللذين يعتمدان بشكل شبه كامل على مياه نهر النيل. بعبارة أخرى، تلزم هذه الاتفاقيات دول المنبع بضرورة أخذ رأي دولتي المصب مسبقا قبل الشروع في إقامة أية سدود أو مشروعات على نهر النيل. غير أن إثيوبيا تدّعي أن هذه الاتفاقيات لا تُلزمها، لأنها أبرمت في الحقبة الاستعمارية، وهي حجة مردود عليها لسببين رئيسين: أن الاتفاقيات التي أبرمت في تلك الحقبة ليست كلها معيبة، أو مشكوكا في إنصافها، بدليل اعتراف منظمة الوحدة الأفريقية باتفاقيات الحدود المبرمة في تلك الحقبة، واعتبارها ملزمة لجميع أطرافها. وبالتالي، يشكل إنكارها أو الخروج عليها انتهاكا للقانون الدولي. أن إثيوبيا بالذات لم تتعرّض للاستعمار إلا لفترة قصيرة جدا (1936 – 1941) هي فترة الاحتلال الإيطالي في عهد موسوليني. وكانت دولة مستقلة تماما، حين وقعت بملء إرادتها على اتفاق 1902 الذي يُلزمها بعدم إقامة سدود أو مشروعات على نهر النيل، إلا بعد الحصول على موافقة صريحة من دولتي المصب.
الاتفاق الوحيد المتعلق بتوزيع حصص المياه جرى توقيعه بين مصر والسودان بمناسبة تشييد السد العالي في مصر. ولأنه لا يمسّ مصالح أي طرف آخر، وينصبّ على توزيع كمية المياه الواصلة إليهما، بعد استيفاء الدول الأخرى احتياجاتها من مياه النهر، فمن الطبيعي ألا يلزم الاتفاق سواهما، ومن ثم لا يحق لأي طرف آخر، في الوقت نفسه، أن يعرقل التدفق الطبيعي للمياه المتجهة إليهما إلا بعد التشاور المسبق معهما، تجنبا لوقوع ضرر. ووفقا لهذا الالتزام الواضح القاطع، كان على إثيوبيا أن تحصل على موافقة كل من مصر والسودان قبل البدء في تنفيذ سد النهضة، لضمان أن يتم تشييده وفقا للموصفات الهندسية والفنية التي تمنع وقوع الضرر على دولتي المصب، غير أن إثيوبيا انتهزت حالة عدم الاستقرار التي مرّت بها مصر عقب اندلاع ثورة 25 يناير، للبدء في تنفيذ مشروع السد، ومن دون الحصول على موافقة مسبقة. وكان على الحكومات التي تعاقبت على حكم مصر منذ 2011 أن تتخذ موقفا أكثر حسما في مواجهة إثيوبيا، لإجبارها على وقف البناء في السد إلى أن يتم التوصل إلى اتفاق تام وملزم حول المواصفات والاشتراطات الفنية، خصوصا ما يتعلق منها بالملء والتشغيل، لضمان عدم إلحاق ضرر بمصالحها. لكن، ولأسباب لا مجال للخوض فيها هنا، سارت الأمور في مسار آخر، كان من أبرز معالمه التوقيع عام 2015 على اتفاق إعلان المبادئ بين مصر والسودان وإثيوبيا.
القضية لم تعد تنمية أو توليد كهرباء، وإنما تتعلق أكثر بالرغبة في التحكّم في كمية المياه المتدفقة نحو مصر والسودان
اللافت أن إثيوبيا تتصرّف، منذ ذلك الحين، وكأن هذا الاتفاق هو الوحيد المطروح على الساحة، وأنه يلغي كل ما سبقه من اتفاقات، وهذا موقف غريب حقا، فكيف لإعلان مبادئ يتصف بطبيعته بالعمومية، ولم تصدّق عليه برلمانات الدول الموقعة، أن يلغي أو يحل محل اتفاقيات دولية نافذة المفعول؟ صحيح أن هذا الإعلان يعترف لإثيوبيا بالحق في بناء السد، تاسيسا على حقها في التنمية، لكنه ينصّ، في الوقت نفسه، على ضرورة ألا يتسبب البناء في أي ضرر جسيم للآخرين. كل ما تريده مصر والسودان الآن ترجمة هذا المبدأ إلى معاهدة دولية، تحدد كيفية ملء السد وتشغيله، وتضمن آلية قانونية ملزمة، يمكن اللجوء إليها في حال وقوع ضرر. وهناك سيناريوهات عديدة لوقوع الضرر، وفقا لآراء الخبراء، تتوقف على حجم الفيضان وفترات الجفاف، خصوصا الممتد منها. وعلى سبيل المثال، هناك منسوب معين من المياه يلزم توفره لتوليد الكهرباء من السد العالي، وبالتالي يمكن أن تتعرّض توريينات السد للتوقف عن العمل، إذا انخفض مستوى المياه عن هذا المنسوب المحدّد سلفا. هذا معناه أن لمصالح جميع الأطراف المشاطئة لنهر النيل مصلحة مشتركة في إخضاع جميع السدود المقامة على النهر إلى نظام عام متفق عليه للملء والتشغيل، خصوصا سد النهضة الذي يمكنه التحكّم في كمية المياه المتدفقة نحو مصر والسودان، غير أن إثيوبيا ترفض فكرة الاتفاق الملزم، وتصرّ على الاكتفاء بقواعد “إرشادية”، وهو ما يستحيل قبوله مصريا وسودانيا.
يعكس إصرار إثيوبيا على الملء المنفرد للمرحلة الثانية من خزّان سد النهضة سوء نية مبيتا، ويؤكّد أن القضية لم تعد قضية تنمية أو توليد كهرباء، وإنما تتعلق أكثر بالرغبة في التحكّم في كمية المياه المتدفقة نحو مصر والسودان، والتعامل مع المياه التي تسقط على هضبتها باعتبارها مُلكا خالصا يحق لها أن تتصرّف فيه كيفما تشاء، بما في ذلك بيع الفائض منه عن حاجتها لمن تشاء. وهذا معناه ببساطة تحكّم إثيوبيا في مصائر المصريين والسودانيين. ولا يثير موقف إثيوبيا المتعنت هذا مخاوف المصريين فقط، وإنما غضبهم أيضا. وتعتقد الغالبية الساحقة منهم أن حبال الصبر تجاه إثيوبيا طالت بأكثر مما ينبغي، وأنه آن الأوان لاتخاذ موقف أكثر حسما. وتصريحات الرئيس السيسي عن أن كل الخيارات أصبحت مفتوحة تعني أن العمل العسكري وارد. ولكن هل سيتم اللجوء إليه بعد أن يقع الضرر أم لمنع وقوعه؟ هذا سؤال لا يستطيع أحد أن يجيب عنه في اللحظة الراهنة.
حسن نافعة
العربي الجديد