في الأيام الأخيرة توتر الوضع بين روسيا وأوكرانيا، المتوتر أصلا على خلفية انفصال جنوب شرق أوكرانيا من الجسد السيادي لها، بمساعدة وعون عسكري غير مباشر من روسيا، بعد حصول تغييرات في أوكرانيا؛ أفضت إلى وصول رئيس يكن العداء لروسيا، ويريد التقرب من الغرب، وتحديدا الولايات المتحدة الأمريكية.
فما كان من روسيا إلا أن سيطرت بالقوة العسكرية على شبه جزيرة القرم، وضمتها إليها، ولاحقا أقامت جسرا يربط البر الروسي بشبه جزيرة القرم. الغرب والولايات المتحدة قاما بإصدار عقوبات اقتصادية على روسيا، على خلفية ضمها لشبه جزيرة القرم. وفي تزامن مع هذا التطور؛ اشتعلت المعارك بين الجيش الأوكراني والانفصاليين في جنوب شرق أوكرانيا، استمرت لعدة أشهر، ولكنها وبعون ومساعدة روسية غير مباشرة؛ أجبرت أوكرانيا على التوقيع على اتفاق منسك، الذي قاد إلى إقامة جمهوريتين انفصاليتين غير معترف بهما في جنوب وشرق أوكرانيا. تعتبر أوكرانيا من أكثر جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق أهمية وخطورة أمنية وعسكرية وما إليهما، على الاتحاد الروسي. الغرب يعتبر روسيا مع أوكرانيا دولة عظمى، وروسيا بدون أوكرانيا دولة كبرى. استمر هذا الوضع المتوتر على ما هو عليه، من دون أي تغير؛ فلا الغرب والولايات المتحدة اعترفا بضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا، ولا الوضع غير المستقر في جنوب شرق أوكرانيا تمت تسويته، أي إيجاد حل، أو حلول للوضع المتوتر في تلك المنطقة، وظل الوضع الساخن، حاضرا كميدان، وجاهزا للعب السياسي والعسكري، لإشغال روسيا واستنزافها؛ كهدف استراتيجي من قبل الولايات المتحدة. إن التوتر بين أوكرانيا مع جزئها الجنوبي الشرقي؛ بلغ القمة، ووصل حد التهديد باستخدام القوة العسكرية من قبل أوكرانيا، لإعادته الى جغرافيتها، بدعم وتشجيع من الغرب والولايات المتحدة، وهي محاولة من أمريكا لاستنزاف روسيا؛ بدفعها إلى اجتياح أوكرانيا، وإغراقها في الوحل الأوكراني. وإذا ما أقدمت روسيا على الاجتياح، فإن أمريكا ستحقق بذلك هدفين من استراتيجيتها هذه، لقلع أنياب الدب الروسي؛ الهدف الأول هو الاستنزاف. والثاني هو دفع ألمانيا إلى إعادة النظر في السيل الشمالي الثاني للغاز الروسي، إلى ألمانيا وأوروبا أيضا، ما يقود حتما إلى حاجة روسيا، أو استمرار تلك الحاجة إلى أوكرانيا؛ لخط نقل الغاز إلى أوروبا عبر الأراضي الأوكرانية. وحتى في حالة سيطرة روسيا على أوكرانيا، لا تستطيع روسيا حماية خط نقل الغاز إلى أوروبا في ظل ما ينتج عن هذا الوضع من مقاومة للوجود الروسي في أوكرانيا. في الأيام الأخيرة قال أكثر من خبير استراتيجي ومحلل سياسي، وصحافة غربية، وتسريبات استخباراتية؛ إن روسيا سوف تتدخل إذا ما هاجمت القوات الأوكرانية أراضيها في الجنوب والشرق، بصورة مباشرة ومكشوفة، لحماية الجمهوريتين غير المعترف بهما، اللتين تقطن فيهما أغلبية من الناطقين باللغة الروسية؛ كما إن روسيا تقدر عدد المواطنين الروس الموجودين في تلك المناطق بأكثر من 400 ألف روسي، وهذا يعني أن لها الحق بحمايتهم وهي حجة.
القيادة الروسية تدرك أن أي مواجهة بطريقة الوكلاء مع أمريكا، أي مع الناتو على حدودها مع أوروبا؛ سوف تكلفها الكثير
إثر توارد الأخبار عن حشود روسية على حدود أوكرانيا في روسيا البيضاء وفي مولودوفا، وفي شبه جزيرة القرم، وفي حدودها الأخرى مع أوكرانيا؛ حذّرت واشنطن موسكو من أي عمل استفزازي ضد أوكرانيا؛ وهذه محاولة أمريكية أخرى لاستفزاز روسيا، وتوتير الوضع، ودفع روسيا إلى التصلب ورد الفعل.. روسيا بوتين تختلف اختلافا كليا عن روسيا التسعينيات، وحتى عن الاتحاد السوفييتي. بوتين داهية، وصبور ومتأن في اتخاذ خطواته السياسية والعسكرية مع الناتو ومع أوروبا، بشكل خاص، روسيا لا تتبع طريق المواجهة، فهي تتجنبها بكل الطرق والوسائل المتاحة لها، أو التي هي من تعمل على إيجادها؛ لأنها أي القيادة الروسية تدرك أن أي مواجهة بطريقة الوكلاء مع أمريكا، أي مع الناتو على حدودها مع أوروبا؛ سوف تكلفها الكثير، ويهتز وضعها الداخلي. وهذا هو ما تسعى إليه أمريكا. الصراع مع أوكرانيا ربما سيندلع في الفترة القليلة المقبلة، لكن روسيا سوف تتعامل مع هذا الوضع بطريقة تفوّت الفرصة على الولايات المتحدة، الساعية لجرها إلى حرب مع أوكرانيا، التي لا تريدها وتتجنبها بكل الوسائل والطرق لسببين، الأول هو السيل الشمالي الثاني لنقل الغاز إلى ألمانيا، لأن هذا المشروع حيوي لروسيا ولألمانيا وأوروبا أيضا، فألمانيا في حالة الاجتياح الروسي لأراضي أوكرانيا، أو الدخول المباشر في الصراع الأوكراني ـ الأوكراني؛ سوف تضطر لمعاقبة روسيا، واتخاذ موقف منها، أي إيقاف العمل بالسيل الشمالي الثاني. والسبب الثاني هو إفشال الخطط الروسية، منظورة ومتوسطة وبعيدة الأمد، بالتعاون مع الصين (مصالح متبادلة)؛ لفك الارتباط الاستراتيجي بين أمريكا وأوروبا. إنما، من الجانب الثاني؛ سوف لن تقف روسيا موقف المتفرج على المعارك الأوكرانية ـ الأوكرانية اذا ما اندلعت وهي من المتوقع أن تندلع في الأيام القليلة المقبلة، ستتدخل بطريقة فعالة مؤثرة وغير مباشرة وغير واضحة، وبطرق ووسائل تتقنها الدول العظمى، ومنها روسيا. رئيس جمهورية دونيتسك دينيس بوشلين؛ طلب من روسيا إفساح المجال للمتطوعين الروس بالقتال الى جانب الجمهورية سابقة الإشارة. أما تدريبات الناتو والحشود الروسية، سواء في روسيا البيضاء أو مولودوفا؛ فما هما إلا رسائل تحذير متبادلة وليس للمواجهة المباشرة؛ وهي لعبة عمرها قرن تقريبا.
في الختام نقول إن روسيا سوف تضخ مقاتلين وبأعداد كبيرة جدا، وكذا أسلحة متطورة جدا، تتكفل بإفشال المساعي الأوكرانية في استعادة سيطرتها على أراضيها.
مزهر جبر الساعدي
القدس العربي