تستعد الولايات المتحدة للعودة إلى الاتفاق النووي.. حلفاؤها يؤيدون عودتها باستثناء «إسرائيل». لكنها تريد ثمناً للعودة.. ما الثمن المطلوب؟ وأين تكون جبايته؟ الثمن باهظ.. أمريكا تريد أن تدفعه إيران وحلفاؤها في محور المقاومة، مكان الدفع إيران كما العراق وسوريا ولبنان وفلسطين واليمن.
من إيران تريد واشنطن خفض تخصيب اليورانيوم إلى أدنى نسبة مئوية ممكنة، لعلها تلك التي نصّ عليها الاتفاق النووي سنة 2015. إلى ذلك، تريد واشنطن من طهران الموافقة على تمديد مدة الاتفاق إلى أبعد أجل ممكن. إيران ترفض شروط أمريكا. تصرّ على عودتها بلا شروط أو مكاسب، بل تشترط أن تقترن عودتها برفعٍ للعقوبات كلها. واشنطن تناور: لا مانع من رفع العقوبات، لكن تدريجياً مقابل عودة إيران إلى الالتزام فوراً بكل أحكام الاتفاق النووي.
هكذا يجري تدوير بعض الزوايا بين الجانبين الأمريكي والإيراني، لكن عودة أمريكا إلى الاتفاق لا تبدو قريبة، السبب؟ لأن «إسرائيل» دخلت على الخط وأعلنت بلسان رئيس حكومتها بنيامين نتنياهو، أن الاتفاق النووي لا يعنيها، وأنها ستثابر على منع إيران من امتلاك سلاحٍ نوويٍ ومن التمركز عسكرياً في سوريا. إيران ردّت بأن لا مراكز عسكرية لها في سوريا، بل هم مستشارون عسكريون متواجدون بطلب من الحكومة السورية. ثم، لماذا أمريكا، حاضنة «إسرائيل» موجودة عسكرياً في العراق رغم قرار البرلمان العراقي القاطع بوجوب خروج جميع القوات الأجنبية من بلاد الرافدين؟ أمريكا تتجاهل هذه الحقيقة بل تدّعي بلسان قائد قيادتها العسكرية الوسطى الجنرال كينيث ماكنزي، أن قواتها باقية في العراق بطلب من حكومته. كلام خطير، دفع قائد «عصائب أهل الحق» قيس الخزعلي إلى مطالبة الحكومة العراقية بتكذيب موافقتها على بقاء قوات أمريكا تحت طائلة اعتبارها متواطئة ضمناً معها.
يتحصّل من مجمل هذا السجال أن ثمة خلافات عميقة بين أمريكا وإيران حول مسألة العودة إلى الاتفاق النووي ورفع العقوبات ووجود أمريكا في العراق وسوريا. أكثر من ذلك، يتبدّى من خلال هذا السجال أن كُلاًّ من الطرفين باشر هجوماً سياسياً وعسكرياً متدرجاً ضد الآخر، في العراق وسوريا ولبنان وقطاع غزة. من الواضح أن إدارة الرئيس بايدن، ومن ورائها الدولة العميقة في واشنطن، مضطرة إلى إعطاء «إسرائيل» وأنصارها في الكونغرس ثمناً لعودتها إلى الاتفاق النووي. يبدو أن أهم عناصر الثمن إخراج إيران بكل مظاهر وجودها من سوريا، وتعطيل فعالية محور المقاومة في كلٍّ من لبنان وسوريا (حزب الله) وفلسطين (الجهاد الإسلامي) والعراق (كتائب حزب الله وعصائب أهل الحق) واليمن (الحوثيين). بعبارة أخرى، تسعى واشنطن إلى إرساء قواعد معادلة جديدة مضمونها أن تعود أمريكا إلى الاتفاق النووي، مقابل خروج محور المقاومة بكل قواه من دول غرب آسيا. أمريكا تترجم مفاصل معادلتها هذه على الأرض من خلال الواقعات الآتية:
الاحتفاظ بوجودها العسكري في العراق بدعوى مساندة حكومته في مواجهة تنظيم «داعش» الإرهابي الناشط ( بدعمٍ منها!) في مناطق ديالي وكركوك والأنبار.
ثمة خلافات عميقة بين أمريكا وإيران حول مسألة العودة إلى الاتفاق النووي ورفع العقوبات ووجود أمريكا في العراق وسوريا
تعزيز وجودها العسكري في محافظة الحسكة في شمال شرق سوريا، وفي موقع التنف على الحدود بين سوريا والعراق، والتمادي في لعب بعض الجماعات الكردية المتعاونة معها ضد سوريا تارةً، وضد تركيا تارةً اخرى، وإيهامها بأنها تدعمها للحصول على حكم ذاتي، رغم معارضة الحكومة المركزية في دمشق.
الضغط على الأطراف السياسية الموالية لها في لبنان للامتناع عن إشراك حزب الله في الحكومة الجديدة، والتلويح للمنظومة الحاكمة بمساعدتها على التوصل إلى تسوية مع «إسرائيل» بشأن ترسيم الحدود البحرية لتمكين لبنان من استثمار مكامن النفط والغاز في مياهه الإقليمية.
دعم السعودية سياسياً وعسكرياً في حربها الرامية إلى تطويق حكومة صنعاء والحوثيين، الذين تمكّنوا أخيراً من تحقيق انتصارات لافتة ضد خصومهم المحليين.
غير أن نقطة الضعف الرئيسية في سياسة أمريكا هذه هي رفض طهران تقديم تنازلات لقاء عودة واشنطن إلى الاتفاق النووي. فقد استطاعت إيران الصمود سنوات في وجه أمريكا وعقوباتها الاقتصادية، كما تمكّنت من تطوير قدراتها العسكرية والتكنولوجية على نحوٍ باتت معه قوة إقليمية مركزية قادرة على تعزيز حركات المقاومة الناشطة ضد «إسرائيل» في فلسطين وسوريا ولبنان، ونجحت مؤخراً في عقد «اتفاق للتعاون الاستراتيجي» مع الصين يساعدها في تطوير قدراتها الاقتصادية والتكنولوجية. ليس أدل على اقتدار إيران ورفضها تقديم تنازلات لأمريكا من بوادر انتقال حلفائها من الدفاع إلى الهجوم في ساحات دول الإقليم:
ها هي قوى المقاومة في العراق تشدّد ضغوطها على حكومة مصطفى الكاظمي لتنفيذ قرار البرلمان، بإجلاء القوات الأمريكية من البلاد، تحت طائلة التهديد بلسان قيس الخزعلي باللجوء إلى ما سماه الطريقة الأفغانية في محاربة الاحتلال.
ها هي حركات المقاومة تعزز وجودها وتعاود نشاطها الصاروخي في غلاف قطاع غزة، وتنجح في تسعير مواجهة أهالي القدس خلال شهر رمضان ضد المستوطنين وجنود الاحتلال، في محاولاتهم الخائبة للسيطرة على الحرم الشريف.
ها هي سوريا تُطلق صاروخ أرض – ارض يقطع مسافة لا تقل عن 200 كيلومتر فوق الأراضي الفلسطينية، ولا تستطيع «إسرائيل» تدميره قبل أن ينفجر في محيط مفاعل ديمونا النووي، منجزاً بذلك مناورةً جريئة لإفهام العدو أن محور المقاومة يمتلك الإرادة والقدرة على إيذائه وتهديد أمنه.
ها هي القوى الوطنية تصمد في لبنان وتنجح في رفض مخطط أمريكا لترسيم الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة، لمصلحة «إسرائيل» بل تطرح مقاربةً جديدة لمسألة الترسيم، يكسب لبنان بموجبها مساحة كبيرة إضافية ملأى بمكامن النفط والغاز.
كل هذه الشواهد الميدانية تدل على أن قوى المقاومة العربية في دول غرب آسيا تتنامى وتتعزز، وأن محاولات الولايات المتحدة، ومن ورائها «إسرائيل» تدفيعها وإيران ثمناً لعودتها إلى الاتفاق النووي مصيرها الفشل.
عصام نعمان
القدس العربي