أثناء المواجهات البطولية في باب العامود، التي أطلقها شباب وشابات القدس الشريف، وفي خضم الانتصارات التي سجلتها عدسات الآيفون، وهم يطاردون قطعان المستوطنين، ويحطمون كاميرات المراقبة، ويحررون ساحة باب العامود بعد انسحاب قوات الأمن الصهيونية، أطلقت حركة حماس نحو مئة مقذوفة بدائية نحو الحزام الاستيطاني القريب من غزة، بدون أن توقع أي خسائر في الجانب الآخر. قامت على إثرها السلطات الصهيونية بقصف مواقع عديدة في قطاع غزة، وأغلقت الشاطئ أمام صيادي السمك، وهددت باجتياح القطاع.
وقد سلمت السلطات الصهيونية رسالة تهديد رسمية لمبعوث الأمين العام للأمم المتحدة ومنسق عملية السلام تور وينسلاند، وطلبت منه تسليمها لقيادة حماس. لا أعرف من هو الذي قرر إطلاق المقذوفات في ذلك التوقيت الخاطئ، الذي يحرف الأنظار عن هبة القدس العظيمة، ويشتت التغطية الإعلامية، ويعطي ذخيرة للأعداء جميعا، الذين يتحدثون عما يسمونه «إطلاق الصواريخ على المدنيين» في الوقت الذي كان على الفصائل جميعها، وسلطة رام الله، أن تركز فقط على دعم المقدسيين في هبتهم، وأن تطلق طاقات الجماهير الحبيسة لتعبر عن تضامنها مع الهبة المقدسية بدون حاجة لمثل تلك المقذوفات.
مرة أخرى تقع حركة حماس في الخطأ السياسي حيث تنتصر مصلحة الفصيل على مصلحة الوطن، وتعلو أهمية توجيه الرسائل عن طريق تلك المقذوفات، بدون التأمل في مردوداتها وآثارها على مجمل القضية من جهة، وعلى السكان المحاصرين في قطاع غزة بين فكي كماشة من جهة أخرى.
المقاومة الشعبية وتجلياتها الخلاقة
قد يكون عنوان المقال صادما، ولكن صديقك من صدقك وليس من صدّقك. وسأدلي برأيي هنا من موقع القول النصوح، وليس من موقع العدو الشامت، أو المنافس الحاقد، أو السلطوي المتهـِم. فأنا شخصيا مع المقاومة الواعية والشاملة والمتواصلة، التي تخوضها الجماهير التي تعرف ماذا تريد أن تحقق وما هي إمكانياتها. ومن موقع الحرص على كل قطرة دم من أبناء الشعب الفلسطيني، والحرص على استمرار المقاومة والمواجهة بالطرق المتاحة والفعالة والمتتابعة والمؤثرة والجاذبة للتعاطف العالمي، ندعو شعبنا إلى التبصر والعمل الإبداعي في إدارة معركة الحق الفلسطيني ضد الباطل الصهيوني، بعيدا عن التهور والاستعراضية والأفعال اليائسة والخطاب الشعبوي. نحن مع المقاومة بمعناها الواسع الذي يشمل كل أنواع الفعل الذي يؤدي إلى إضعاف قوة العدو العسكرية والاقتصادية والمعنوية والنفسية والأمنية. المقاومة حالة ذهنية أولا تنطلق من رفض المساومة على الحقوق والتفريط بها، أو القبول ببعضها، أو التخلي عن أجزاء منها. الحالة الذهنية تتحول إلى تيار شعبي عارم وثقافة جماهيرية عريضة، تتحول إلى فعل على الأرض، بحيث ينخرط في هذا الفعل كل فئات الشعب كل من موقعه. الفلاح يقاوم بالتمسك بأرضه، والمرأة تقاوم بصمودها وتربية أبنائها على حب الوطن وحمايته وسلوك دروب العلم. الطالب يقاوم بالإبداع والانخراط في العمل الجماهيري والتطوعي، وتجنيد الأصدقاء ونشر المعلومات الصادقة عن فلسطين ومعاناة شعبها. الأطفال يمكنهم أن يشاركوا في المقاومة السلمية البريئة النظيفة، التي تعكس حضارية هذا الشعب المناضل ورقيه، مثل تشكيل فرق الدبكة والتنافس في الرياضة والرسم، ومعرفة جغرافية فلسطين، بدون أن يتعرض ولو طفل واحد للأذى. يجب أن تركز مقاومة الشعب الفلسطيني في أرض الاشتباك في فلسطين التاريخية من النهر إلى البحر على ثلاثة وجوه قبيحة لإسرائيل: وجه الفصل العنصري، الذي يتجسد أكثر في فلسطين التاريخية، ووجه الاحتلال الذي يتجسد أكثر في الضفة الغربية والقدس الشرقية، ووجه الحصار الذي يتجسد في غزة. كل فئة تقاوم بالطرق التي تراها مناسبة وفعالة وذات مردود عالٍ لصالح الوطن. إن مصادرة بعض الفصائل لحق المقاومة الشعبية وذلك بتكديس بعض المقذوفات، وإطلاق بعضها في المواسم لتسجيل موقف أو إيصال رسالة لجهات معينة، بدون أي هدف استراتيجي لا يندرج تحت فعل المقاومة، التي نتحدث عنها. ومن هنا أريد أن أذكر الإخوة في حماس أن هناك أخطاء يرتكبونها أحيانا تلحق الضرر بالشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، ويمكن تجنبها ودعني أذكرهم ببعض الأمثلة.
تبني خطف المستوطنين الثلاثة عام 2014
في صيف 2014 اختفى ثلاثة شبان إسرائيليين من مستوطنة قريبة من الخليل. وظلت إسرائيل تفتش على المختفين حتى وجدت جثثهم يوم 30 حزيران/يونيو 2014 بعد 18 يوما من الاختفاء. لقد اقتنع العالم كله بمن فيهم أوساط إسرائيلية وأمريكية والأمم المتحدة، أن لا علاقة لحركة حماس بخطفهم، بعد النفي المتكرر من الحركة، لدرجة أن العالم عاد وصدق الرواية. لكن فجأة وبدون أسباب مقنعة أعلن ممثل الحركة في إسطنبول آنذاك، صالح العاروري، مسؤولية حماس عن العملية عندما قال يوم 21 آب/أغسطس «وكان الحراك الجماهيري قد اتسع ليشمل كل الأرض المحتلة، ووصل ذروته في العملية البطولية التي قامت بها كتائب القسام في أسر المستوطنين الثلاثة في الخليل». كانت أجهزة الأمن الإسرائيلية متيقنة من أن ناشطين من حركات المقاومة، خاصة حماس ذات النفوذ الأقوى في منطقة الخليل، وراء العملية، لكنها لم تستطع إيجاد الدليل القاطع. فشنت عملية «الجرف الصامد» على غزة لتنتقم ليس من حركة حماس، بل من جميع سكان القطاع، لكن مبرراتها للعملية العسكرية لم تقنع أحدا. ثم جاء الاعتراف من مسؤول رفيع في حركة حماس، ليعطي المبرر للكيان الصهيوني لتلك الحرب المدمرة، وكأنها أصبحت حربا دفاعية.
المقاومة حالة ذهنية أولا تنطلق من رفض المساومة على الحقوق والتفريط بها، أو القبول ببعضها، أو التخلي عن أجزاء منها
لا أعرف لماذا جاء ذلك الاعتراف الذي ينقصه المبرر، ولم يأت بمردود لا للحركة ولا للشعب الفلسطيني، بل ليدفع الشعب الفلسطيني ثمنا باهظا من دمه وأرضه ومؤسساته وسمعته وتضامن العالم معه. ما الفائدة التي جنتها حماس من ذلك الاعتراف المتأخر؟ قد يقول قائل وهل إسرائيل بحاجة إلى هذا الاعتراف لتبرر مصادرتها للأرض، وتدمير البيوت، وشن الحروب واعتقال المئات؟ والجواب طبعا لا. لكن مثل هذا الاعتراف يتم تسويقه للعالم كمبرر لتلك الجرائم، وذلك الدمار ومصادرة الأرض. لقد شنت إسرائيل الحرب تحت حجة خطف المستوطنين الثلاثة لكن أحدا لم يقتنع بمبررات إسرائيل، إلى أن جاء هذا الاعتراف المجاني ليضع سيناريو للعدوان الإسرائيلي بأثر رجعي سهل تسويقه عالميا.
عسكرة مسيرات العودة
مسيرات العودة التي بدأت يوم 30 آذار/مارس 2018، فعلت ما لم تفعله الفصائل مجتمعة منذ الانتفاضة الثانية. فقد كشفت المسيرات في بداياتها السلمية الجماهيرية المنظمة، عن طاقة كفاحية مخزونة لدى الشعب الفلسطيني، قادرة على خلط كل الأوراق وإعادة الصراع إلى جوهره الأساسي ألا وهو صراع على الأرض وحق الفلسطينيـين في العودة إليها. لقد أظهر هذا الشعب المناضل قدرته على إبداع وسائل كفاحية جديدة سلمية حضارية منظمة تنزع عن الفلسطينيين صفة التطرف وتضع الإسرائيليين في خانة الإرهاب، وارتكاب جرائم ضد الإنسانية باستهدافهم قتل المدنيين العزل بدم بارد. لقد كانت مذبحة مسيرة العودة الكبرى يوم 14 أيار/مايو، يوم افتتاح سفارة الولايات المتحدة في القدس، التي ذهب ضحيتها أزيد من 60 شهيدا، ذروة هذا الإجرام الذي سبب عزلة خانقة لإسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة، فلم تجد نيكي هيلي آنذاك من يصوت معها في إدانة حماس إلا صوتها هي. مسيرات العودة تلك أحرجت سلطة رام الله، التي اختطت لنفسها نهج «المفاوضات إلى الأبد حتى لو يضيع البلد» فاصدرت بيانا رديئا باردا بدل التجاوب الشامل مع مسيرات العودة، ودعم الشارع الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس لإطلاق مسيرات مماثلة. لكن حماس والفصائل الأخرى أبت إلا أن تعود لعقلية «مصلحة الفصيل» فراحت تعسكر المسيرات وتطلق الصواريخ، وأصدرت بيانا يعدد أسماء الشهداء من الفصيل نفسه، وهو ما تم توظيفه في مجلس الأمن من قبل السفير الإسرائيلي، الذي اقتبس كلام المسؤول، وذكر أسماء شهداء ذلك الفصيل كما ذكرها بيان حماس، ليحاول أن يثبت أن هذه ليست مسيرات طوعية مدنية سلمية، بل مخطط مرسوم من فصيل محدد. ولا أعرف مرة أخرى ما الفائدة التي جناها ذلك الفصيل من تلك المفاخرة. انتهت مسيرات العودة بعد أن انتهى الطابع الجماهيري العفوي المتدفق حيوية والتزاما، بعد أن اندست الفصائل في تلك المسيرات فانكفأت عنها الجماهير وما لبثت أن ذوت واختفت، بدون أن يكون لها مردود إيجابي على القضية بحجم تلك التضحيات العظيمة.
كلمة أخيرة للإخوة في فصائل المقاومة في غزة: من واجب حركات التحرر الوطني أن تعرف كيف تستخدم نقاط قوتها ضد نقاط ضعف أعدائها، وكيف تتجنب الوقوع في شرك الانجرار إلى المربع الذي يريد العدو أن تقع فيه، خاصة عسكرة المقاومة الشعبية. قارنوا بين دروس الانتفاضة الأولى والانتفاضة الثانية، وأنتم من صناعهما، تعرفون من منهما جلب مردودا أكبر لقضيتنا العادلة.
عبدالحميد صيام
القدس العربي