عام 2019، احتلت الهند مرتبة متميزة ضمن مجموعة العشرين من حيث قيمة الناتج المحلي الإجمالي، إذ جاءت في المرتبة الخامسة، وهو ما سهل من التوقعات بأن تقود مع الصين حركة إنعاش الاقتصاد العالمي، ولكن مع حلول أزمة كورونا نهاية 2019 وبداية 2020، تغيرت التوقعات، إذ شهد الاقتصاد الهندي انكماشا ملحوظا.
ومع حالة التفاؤل التي تبنتها الحكومة الهندية في عامها المالي 2021/2022، والذي بدأ في أبريل/نيسان 2021، أتت كارثة تفشي وباء كورونا مؤخرا، لتضع هذا البلد في مقدمة الدول التي تعاني من ارتفاع حالات الإصابة بنحو 350 ألف إصابة، وارتفع حالات الوفاة، ووجود حالة انهيار في مؤسسات الرعاية الصحية، وهو ما استجلب تقديم المساعدات الطبية من أكثر من دولة، للمساهمة في مواجهة كارثة جائحة كورونا هناك.
والهند لما لها من مكانة اقتصادية على الصعيد الدولي، وكذلك عدد سكانها الكبير، ومساحتها المترامية، ينتظر أن يؤثر وضعها الصحي المتراجع في مواجهة أزمة كورونا، على حركة الاقتصاد العالمي، سواء من حيث التأثير السلبي لناتجها المحلي، وكذلك تأثر تجارتها الخارجية، وما يتركه ذلك من خسارة لشركائها التجاريين.
وإذا لم تتحسن أوضاع الوباء في الهند، فسيكون لذلك أيضا تداعيات على السكان من حيث ارتفاع معدلات الفقر والبطالة. وفي السطور التالية، نحاول إلقاء الضوء على تداعيات أزمة كورونا في الهند على الجوانب الاقتصادية المحلية والدولية.
ما تأثير الأزمة على الناتج المحلي للهند؟
يعد عام 2019 الأفضل خلال السنوات الماضية لأداء الهند في مؤشر الناتج المحلي الإجمالي، إذ بلغ هذا العام 2.86 تريلون دولار، مما أهلها لتحتل المرتبة الخامسة على قائمة مجموعة العشرين، وكان معدل نمو ناتجها هذا العام 4.18%.
ويمول الناتج المحلي الإجمالي من المدخرات المحلية بشكل جيد، إذ تبلغ المدخرات المحلية كنسبة من الناتج عام 2019 نحو 29%، وذلك حسب أرقام قاعدة بيانات البنك الدولي، كما تمثل القيمة المضافة لقطاع الزراعة 16% كنسبة من الناتج المحلي، في حين تمثل القيمة المضافة للصناعة كنسبة من الناتج 24.8%.
غير أن التداعيات السلبية لأزمة كورونا عام 2020، فرضت نفسها على أداء الناتج المحلي للهند، مما جعلها تتراجع على قائمة مجموعة العشرين، لتحتل المرتبة السادسة بناتج محلي قيمته 2.71 تريليون دولار، وحسب ما أوردته وكالة “رويترز” (Reuters) فإن الناتج المحلي الإجمالي في الهند شهد انكماشا عام 2020 بنسبة تصل إلى 7.7%.
ولكن الأجواء التي شهدتها الهند خلال أبريل/نيسان 2021 -حيث تزايدت أعداد المصابين بكورونا بشكل كبير- مثل تهديدا للدولة، وجعل حالة التفاؤل التي انتابت تقديرات النمو للعام المالي الجديدة 2021/2022، محل شك، في وقت كانت الحكومة تستهدف أن تحقق معدل نمو يصل إلى 11%.
وما لم يتدارك الأمر هناك في خلال الشهور الثلاثة القليلة القادمة، فبلا شك سيكون للأمر تداعيات سلبية، على الصعيد المحلي للاقتصاد في الهند، من حيث استمرار حالة انكماش النمو الاقتصادي، وهو ما يعني ارتفاع معدلات الفقر والبطالة، كما سوف يؤثر على حركة الصادرات والواردات، في ظل حالة الخوف التي تنتاب العالم الآن من خروج الوباء من الهند إلى باقي دول العالم.
وثمة قطاع مهم سوف يتأثر بأوضاع تفشي وباء كورونا، وهو قطاع السياحة، حيث تعد الهند واحدة من المقاصد السياحية المهمة، لكونها تمتلك مقومات سياحية كبيرة، ذات ثقافات وحضارات متعددة، وبلا شك فإن حركة السياحة سوف تضرب في مقتل على الأقل خلال عام 2021، بعد أن كانت مؤهلة لاستعادة أوضاع ما قبل الجائحة.
ما تأثير كورونا على الفقر؟
كانت الهند تصنف من قبل على أنها واحدة من أفقر دول العالم، إلا أن الجهود المبذولة خلال الفترة من 2005 – 2015، غيرت تلك النتيجة، وأصبحت تحقق معدلات ملموسة في تخفيض معدلات الفقر ذلك حسب تقديرات البنك الدولي.
وحسب بيانات تقرير التنمية البشرية العالمي، الصادر عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة عام 2020، فقد أتت الهند في تصنيف الدول ذات التنمية البشرية المتوسطة، واحتلت المرتبة 131 من بين 189 دولة شملها مؤشر التنمية البشرية على مستوى العالم.
ويبين التقرير أن نسبة الفقر متعدد الأبعاد في الهند خلال الفترة 2008 – 2019 قد بلغت 27.9% من عدد السكان، في حين تبلغ نسبة الحرمان بين السكان 43.9%، ويذكر أن مؤشر الفقر متعدد الأبعاد مركب يضم (مستوى الدخل، نصيب الفرد من التعليم والصحة والمرافق الأساسية والأمن).
وفي ضوء التداعيات السلبية لجائحة كورونا خلال 2020، توقع الخبراء أن تزيد حالات الفقر في الهند بنحو 60 مليون نسمة إلى 75 مليونا، ولعل الوضع يزداد سوءا في ظل الوضع الحالي، بعد تفشي الوباء في أبريل/نيسان 2021، وهو ما يستلزم بذل جهود من قبل الدولة، وكذلك المساعدة من باقي دول العالم لتطويق الوباء وحصره في أضيق دائرة، وإلا فستكون العواقب وخيمة.
يُذكر أن الهند تعد ثاني أكبر دولة سكانيا بعد الصين ويصل عدد سكانها 1.36 مليار نسمة، ومما يثير مخاوف ارتفاع معدلات الفقر، في ظل كورونا، أن نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بحدود ألفيْ دولار، وإذا ما تناقص هذا المعدل، بسبب استمرار حالة الانكماش المتوقعة في ظل تفشي الوباء، فسيكون معنى ذلك تعميق حالة الفقر، وتعطيل خطة الهند للتخلص من الفقر المدقع عام 2030.
ما مصير قطاع الزراعة مع تفشي كورونا؟
قطاع الزراعة في الهند يمكن أن نطلق عليه قطاع الفقراء، والذي يعد مصدر رزق لنحو 70% من السكان، ويستوعب عددا كبيرا من قوة العمل، ورغم أن مساهمة قطاع الزراعة تراجعت خلال العقدين الآخرين، من نحو 55% من الناتج المحلي إلى حوالي 16% فقط، فإن هذا القطاع نجح في تحقيق نسبة كبيرة من الاكتفاء الذاتي، بل وجعل هذا البلد من مصدري السلع الزراعية، والمواد الغذائية.
وتشير أرقام قاعدة بيانات البنك الدولي إلى أن 60% من مساحة الأراضي الهند زراعية، وهو ما جعل قطاع الزراعة موردا مهما لهذا البلد، والجدير بالذكر أن مساحة الأراضي الكلية تبلغ 3.28 ملايين كيلومتر مربع، وعن الواردات من السلع الزراعية الأولية تشير الأرقام الخاصة بالبنك الدولي إلى أنها تمثل فقط نسبة 3.6% من إجمالي الواردات السلعية للهند والتي تزيد قيمتها على 400 مليار دولار.
ويخشى بشكل كبير في ظل تفشي وباء كورونا على العاملين والمستفيدين من قطاع الزراعة، لما يمثلونه من نسبة كبيرة من الفقراء، وافتقادهم للإنفاق الكافي على الإجراءات الوقائية من كورونا، كما يخشى كذلك على صادرات القطاع في ظل تفشي الوباء، لأن الكثير من الدول التي تستورد السلع الزراعية والغذائية من الهند قد تضع العوائق أمام استيراد هذه السلع من الهند، لمنع انتقال الوباء إليها.
الكثير من الدول التي تستورد السلع الزراعية والغذائية من الهند قد تضع العوائق أمام استمرار الاستيراد (الأوروبية)
ما التداعيات السلبية على التجارة الخارجية؟
بلغت التجارة السلعية الخارجية للهند 810 مليار دولار عام 2019 حسب أرقام قاعدة بيانات البنك الدولي، حيث بلغت الصادرات السلعية 324.2 مليارا، والواردات السلعية لنفس العام 486 مليارا، وبذلك حققت الهند عجزا تجاريا قدره نحو 162 مليارا.
ومع ذلك تتميز الهند بصادراتها السلعية، بسبب وجود مكون من الصادرات السلعية للتكنولوجيا المتقدمة بنحو 23.6 مليار دولار.
وبالنسبة لأهم الشركاء التجاريين، أظهر تقرير وزارة التجارة والصناعة في الهند أن أهم 5 دول تستقبل الصادرات الهندية هي أميركا (54.2 مليار دولار) والإمارات (29.7 مليارا) والصين (17 مليارا) وهونغ كونغ (11.5 مليارا) وسنغافورة (10.7 مليارات). إلا أن أكبر 15 مستوردا للسلع الهندية يستحوذون على نسبة 60% من الصادرات السلعية لهذا البلد.
أما أهم الشركاء التجاريين على جانب الواردات الهندية، فتأتي الصين في المقدمة بنحو 65.2 مليار دولار، ثم أميركا (35.8 مليارا) ثم الإمارات (30.2 مليارا) ثم السعودية (26.8 مليارا) وفي المرتبة الخامسة هونغ كونغ بـ 16.9 مليارا.
وسوف تعتمد النتيجة النهائية لأداء تجارة الهند الخارجية على مدى نجاحها في تطويق الوباء في أسرع وقت، أما إذا لم تنجح أو تأخر الوقت فسوف ينخفض بلا شك أداء الصادرات والواردات السلعية، لما سيترتب عليه من (تردد) الشركاء التجاريين من التعامل مع الهند مخافة نقل الوباء.
ما مستقبل العلاقات التجارية والاقتصادية العربية الهندية؟
علاقات تاريخية شاملة تجمع الهند مع المنطقة العربية، وبخاصة دول الخليج، وحسب أرقام 2019، فإن قيمة التبادل التجاري مع الدول العربية بلغت 162 مليار دولار، منها نحو 108.2 مليارات تخص قيمة التبادل التجاري مع دول مجلس التعاون الخليجي، وتمثل كل من السعودية والإمارات ما نسبته 75% من قيمة التبادل التجاري بين نيودلهي ودول الخليج.
ولا تقتصر العلاقات العربية الهندية على التبادل التجاري فقط، ولكن ثمة استثمارات وشؤونا أخرى بين الطرفين، فعلى سبيل المثال هناك نحو 8.5 ملايين مواطن هندي ينتشرون في دول الخليج، ويقومون سنويا بتحويل ما قيمته 40 مليار دولار سنويا لبلدهم.
وتعتبر الهند واحدة من الوجهات المهمة لتصدير الأرز لمنطقة الخليج، وكذلك الذهب الخام، والمنسوجات، وبعض العدد والآلات.
وإذا ما استمرت أزمة تفشي كورونا بالهند، فإنه سيكون لها تأثيرها السلبي على اقتصاديات الخليج بالأجل القصير، وخاصة على السعودية والإمارات، فقط تتأثر واردات الهند من النفط الخليجي بنهاية أبريل/نيسان الجاري، وما يليه من شهور، ما لم تتم السيطرة على الوباء في الهند.
هل ستنال أزمة كورونا بالهند من الاقتصاد العالمي؟
منذ أن بدأت أزمة جائحة كورونا، يتم التأكيد على أن الأمور الاقتصادية تأتي في إطار المتغير التابع في معادلة تلك الأزمة، لما للأمور الصحية من تأثير كبير وموجه. وفي إطار تصاعد تفشي الوباء، فإن الأوضاع الاقتصادية سوف تشهد ما يمكن وصفه بردة كبيرة، سواء بالنسبة للاقتصاد العالمي أو داخل الهند.
فبعض الدول الأوروبية فرضت حظرا على الرحلات الجوية الآتية من الهند، ومن ناحية أخرى فإن الهند من أكبر الدول المستوردة للمواد الأولية، وكان يعول عليها مع الصين وأميركا في تحريك الاقتصاد العالمي عام 2021.
ففي سوق النفط مثلا كانت الهند تستورد ما قيمته 5 ملايين برميل يوميا، وفق بيانات ديسمبر/كانون الأول 2020، ومعظم هذه الواردات البترولية تأتي من منطقة الخليج، وبخاصة السعودية والإمارات، ومن شأن تراجع واردات الهند من النفط بسبب تفشي كورونا أن يؤثر على الأوضاع الاقتصادية بالخليج من ناحية، ومن ناحية أخرى قد يؤدي ذلك أيضا إلى إعاقة توجه “أوبك بلس” بزيادة كميات إنتاج النفط مستقبلا.
ماذا عن تأثر قطاع التكنولوجيا بالأزمة؟
منذ بداية الألفية الثالثة، والهند لها موضع قدم في ساحة التكنولوجيا العالمية، وبخاصة إمداد أميركا وأوروبا بالكوادر البشرية المؤهلة لإنتاج وإدارة تكنولوجيا المعلومات، وتذهب التقديرات لأن تزيد صادرات الهند من قطاع التكنولوجيا على 150 مليار دولار سنويا.
وإذا كانت الصادرات السلعية الأخرى، بخلاف الصادرات التكنولوجية، تحتاج إلى وسائل نقل وعمالة يديوية وغيرها مما يمثل عائقا في ظل تفشي الوباء، فإن صادرات التكنولوجيا ستكون بخلاف ذلك، حيث إنها يتم التبادل فيها عبر الوسائل التكنولوجيا، وبخاصة البرمجيات، وثمة أمر مهم يتعلق بقطاع التكنولوجيا الهندي وهو إتاحة إمكانيات الوقاية من الوباء، سواء الأفراد أو الشركات، وما يمكن معه توقع تقليل خسائر الهند بقطاع التكنولوجيا.
ختاما، سيكون استمرار تفشي وباء كورونا في الهند، لفترة طويلة، بمثابة تحد لها بوجه خاص وللعالم بوجه عام، فالهند ذات موقع مؤثر بالاقتصاد العالمي، من جوانب مختلفة سواء سوق النفط، أو استيراد المواد الأولية، أو صناعة البرمجيات، أو مساهمتها المتزايدة عاما بعد عام في الناتج المحلي العالمي، ولذلك ستركز الجهود الدولية بشكل كبير لمساعدة هذا البلد على تطويق أزمة تفشي وباء كورونا.
المصدر : الجزيرة