أكّد وزير خارجية إيران، محمد جواد ظريف، ما يقوله أغلبية المحلّلين من أنّ الحرس الثوري والولي الفقيه، هما الحاكم الفعلي لإيران، داخلياً وخارجياً. وبخصوص العرب أنّ قائد فيلق القدس في الحرس الثوري (السابق) قاسم سليماني، هو المقرّر في ما يخص الدواخل العربية، وهذا كان قبل مقتله، والآن هناك قراءات جديدة عن تلك العلاقة. لطّف ظريف الأمر، قائلاً: الميداني يتحكم بالدبلوماسي، ويجب أن ينتهي ذلك لصالح التوافق بينهما، وتحت إشراف الولي الفقيه (المرشد الإيراني علي خامنئي)… وتوضح التسريبات غير المعدّة للنشر أزمة النظام الإيراني؛ فالحرس الثوري هو الأساس، وبالتالي كلّ المنتمين للحياة السياسية خارجه، وعموم الشعب الإيراني، متضرّرون من هذه الحيثية. هناك فرق جذري بين الشعب، الذي انتفض كثيراً في الأعوام الأخيرة، والطبقة السياسية التي تتذمّر من هيمنة الحرس الثوري، لكنّها تطأطئ الرأس له، وللولي الفقيه. ولن أقول إنّ هناك أدواراً مرسومة والجناحان يقومان بتنفيذها؛ لا .. هناك أكثر من صراع انفتح بين الطرفين، وليس آخره قمعُ الجناح الإصلاحي بعد الانتخابات الرئاسية 2009، وكذلك تقديم ظريف نفسه الاستقالة حين عَلِمَ من الإعلام بزيارة الرئيس السوري، بشار الأسد، طهران 2019، بينما دبلوماسياً يجب أن يكون الأمر من اختصاص وزارته.
أصبحت حادثة التسجيلات قضية النقاش الأولى داخل إيران، وكذلك عالمياً، لما تضمنته من قضايا، تُظهر التأزّم الشديد داخل النظام الإيراني، والذي أصبح يتمحور بأكمله لصالح الجناح المتطرّف وتهميش كلّ مظاهر الحياة السياسية “النظامية”. خطورة ذلك لا تتأتّى من إعاقة الجناح المتطرّف الحياة السياسية، بل من العزلة الداخلية المستمرة للنظام والعزلة الخارجية أيضاً؛ إذ لا يمكن للعالم أن يتعايش طويلاً مع نظامٍ كهذا، وإن حصل ذلك، فسيكون عبر تشديد العقوبات عليه من الغرب وانفتاحه التبعي لصالح روسيا والصين. النظام الإيراني، وبدلاً من أن ينظُر لعُريه بالمرآة جيداً، أي عبر أحوال شعبه، والمنطقة وعلى قدم المساواة، يجاهر بسيطرته على دول عربية عديدة، ويتشدّد قامعاً الانتفاضات الداخلية والخارجية. الجناح الإصلاحي، الذي يطأطئ رأسه كثيراً سيكون أول الهاربين من سفينة الولي الفقيه، حينما تتعرّض لأزمةٍ شديدة. ليست هناك أزمة حالياً يمكن أن يعوّل عليها؛ لا قضية الضغوط الأميركية، خصوصاً من أجل اتفاق نووي جديد، وليست هناك ضغوط إقليمية رافضة الوجود الإيراني، وكذلك لم تستطع الانتفاضات الأخيرة الاستمرارية. في ظلّ وضعيةٍ كهذه، ستظل إيران، منها الجناح الإصلاحي، تحت هيمنة الحرس الثوري، والأخير يحميه الولي الفقيه، ويكفي قادة الحرس الاسم منه، إذ إنّ رحيل خامنئي، كما تقول تقارير كثيرة بسبب مرضه أو هرمه، لن يغيّر في الأمر شيئاً.
أزمة النظام الإيراني لن تتغير، والجناح المتشدّد فيه لن يتراجع، ولن تستطيع إيران الهروب عبر تبعيتها للصين، كما في الاتفاقية الاقتصادية الموقعة أخيراً معها، ولا نحو روسيا
لا يمكن للعرب وسواهم استغلال التأزّم الشديد في النظام الإيراني؛ فالأنظمة العربية أصبحت بلا وزن إقليمياً وعالمياً، لا سيما بعد احتلال أميركا وإيران، العراق عام 2003، وانعدام الحس الوطني لديها بعد الثورات الشعبية 2011 حين ضحّت بالشعوب، ورفضت التنازل لها ببعض الحقوق، وارتضت التبعية لصالح الخارج. كذلك، هرولت أنظمة إلى إسرائيل من أجل حمايتها من إيران، وبسبب تعرّضها لابتزازٍ شديد من الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، والآن تتعرّض لتضييق جديد مع محاولة الرئيس جو بايدن اعتماد الديمقراطية وحقوق الإنسان أحد المقاييس في إدارة العلاقات مع العالم. لا تمتلك الأنظمة العربية بتلويناتها كافة أيّ مشروعٍ قوميٍّ للتقارب في ما بينها، وهي تَحكم شعوبها بالقمع أو بديمقراطية ضعيفة. إذاً، لا يمكن للأنظمة العربية أن تستفيد من ضعف الدولة الإيرانية، وكذلك لن تستفيد من مشكلاتٍ كبرى أصبحت تقف أمام الدولة التركية، وقد راحت الحريات فيها تتقلص، وتزيد من قمع الأكراد، حتى وصلت إلى رفع الحصانة عن نواب حزب الشعوب الكردي!
ليست المشكلة فقط في طبيعة الأنظمة العربية القمعية والناهبة، بل كذلك في معارضاتها المكرّسة، التي بدورها لا تحوز على مشاريعٍ وطنية للتغيير الجذري أو الإصلاحي حتى. يمكن ملاحظة حالة العراق ولبنان، البلدين اللذين ينتفضان منذ أكثر من عام، لكنّ انتفاضاتهما تضعف وتتهاوى، على الرغم من أن وضع البلدين يستدعى تلك الانتفاضات. قصدتُ أنّ غياب معارضات عربية وطنية وجادّة يؤدي إلى غياب أيّ تنسيق بين شعوب المنطقة، ومنها الإيراني، ويسمح للنظام هناك بإعادة إنتاج نفسه والبقاء في الدواخل العربية، والإمعان في تطييفها وتخريب أيّ مشاريع نهضوية، ونهب ثرواتها كما يحصل في العراق وسورية.
لا يمكن للعرب وسواهم استغلال التأزّم الشديد في النظام الإيراني؛ فالأنظمة العربية بلا وزن إقليمياً وعالمياً
على الرغم من الملاحظات أعلاه، واستناداً إليها، نرى أنّ أزمة النظام الإيراني لن تتغير، والجناح المتشدّد فيه لن يتراجع، ولن تستطيع إيران الهروب عبر تبعيتها للصين، كما في الاتفاقية الاقتصادية الموقعة أخيراً معها، ولا نحو روسيا. منطقتنا، ووجود إسرائيل فيها، يدفعان الأميركيين والأوروبيين إلى سياسات شبه ثابتة، وتؤدّي إلى بقاء النظام الإيراني معاقباً، وربما تدفعه إلى تسليم بعض البلدان العربية إلى أهلها، كاليمن مثلاً، والتخفيف من حضوره في بقية الدواخل العربية. ليس هناك من تعويلٍ على سياسات الأنظمة العربية للاستفادة من أزمة النظام الإيراني؛ فهي أكثر تأزّماً منه، ومنها من يقيم صلات قوية معه، وهناك الآن فرصةٌ جديدةٌ لإعادة العلاقات الخليجية مع إيران.
مشروعٌ واحدٌ فقط قد يغير مما يسمى بشرقٍ أوسطي جديد، هو مشروع شعوب المنطقة؛ فكلّ الشعوب متضرّرة من الأنظمة، ويستوي في ذلك الإيرانيون والأتراك والأكراد والعرب، بل فقراء إسرائيل. هنا فقط يمكن تفعيل العمل الإقليمي وتغيير وجهته الحالية، والتنسيق بين شعوب المنطقة. لا خيار آخر لشعوب المنطقة، وأنظمتها تزداد تأزّماً، ولن يتغير هذا التأزّم إلّا عبر التقارب والتنسيق بينها. نعم، ليس هناك إلّا التنسيق بين شعوب منطقتنا، وحركاتها السياسية والنقابية والشبابية سبيلاً للاستفادة من تأزّمات النظام الإيراني الشديدة، وكذلك التركي والإسرائيلي، وقبل الجميع هناك تأزمات النظام العربي.
تُظهر تسجيلات ظريف مجدّداً حقيقة إيران المأزومة، فهل هناك من يستفيد منها؟
عمار ديوب
العربي الجديد