أقر الرئيس الأمريكي جو بايدن يوم السبت 24 إبريل الحالي، في كلمة صيغت بحذر شديد، على أن ما جرى للأرمن عام 1915 «جريمة إبادة جماعية» ارتكبت في أواخر الدولة العثمانية. لقد أقر بايدن في بيانه بأن جريمة الإبادة وقعت فعلا، لكنه لم يحمّل أحداً المسؤولية. الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، استشاط غضبا من استخدام نظيره الأمريكي، مصطلح «الإبادة الجماعية» في بيانه قائلا «إن رئيس الولايات المتحدة بايدن استخدم عبارات غير محقة، لا أساس لها، وتخالف الحقائق بشأن أحداث أليمة وقعت في منطقتنا قبل أكثر من قرن».
لكن يبدو أن يريفان كانت في أمسّ الحاجة لهذا الاعتراف، لرفع معنويات الشعب الأرمني بعد الهزيمة النكراء التي ألحقتها أذربيجان بأرمينيا، بتحرير أراضيها المحتلة منذ 30 سنة بمساعدة تركيا، فأقامت الأفراح لهذا الموقف المعنوي، الذي لا يعني الكثير في ميزان القانون الدولي الصارم، في قضية تصنيف جريمة الإبادة الجماعية، والأمر لا يحسم بموقف رئيس دولة أو أكثر.
من حقنا هنا أن نطرح أسئلة منطقية: من أعطى أمريكا حق تصنيف أي جريمة على أنها إبادة جماعية؟ من هي الجهة التي يحق لها أن تصنف الجرائم الجماعية الكبرى على أنها «جريمة إبادة جماعية»؟ وماذا حدث بالضبط عام 1915؟ ثم لماذا انتظر العالم الغربي المنافق أكثر من قرن ليثير مسألة مذابح 1915؟
اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948
اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة «اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها» بتاريخ 9 ديسمبر 1948 وفتحت للتوقيعات والتصديقات، ودخلت حيز الإنفاذ بتاريخ 12 يناير 1951. ولا شك بأن التوصل إلى هذه الاتفاقية جاء على خلفية ما جرى من مذابح خلال الحرب العالمية الثانية، خاصة أن أخبار المحرقة اليهودية كانت قد تكشفت، وتبين للعالم آنذاك أن ما قام به هتلر هو محاولة إبادة مجموعة كبيرة من البشر، بسبب انتمائهم لدين معين، أو عرق معين (الغجر). ويبلغ عدد أعضاء الدول المنضمة للاتفاقية الآن 152 دولة من بينها تركيا وأرمينيا والولايات المتحدة وروسيا.
من تكون يداه ملطخة بدماء الشعوب لا يحق له أن يحاكم الآخرين على ما ارتكبوه من جرائم
وقد مرّت تلك الاتفاقية المقترحة من الجمعية العامة قبل اعتمادها بثلاث مراحل: استشارة ثلاثة خبراء دوليين كان من بينهم رافائيل لمكين، الذي صاغ مصطلح Genocide . ثم تناولت لجنة متخصصة منبثقة عن المجلس الاقتصادي والاجتماعي وثيقة الجمعية العامة، وأعادت صياغتها بشكل أوسع، ثم قدم مشروع الاتفاقية للجنة السادسة، أو اللجنة القانونية التابعة للجمعية العامة، لوضعها في صيغتها النهائية. وهذه المراحل تبين حساسية الموضوع. وقد اقتصر التعريف النهائي للإبادة على الإبادة المادية والبيولوجية، واستبعد الإبادة الثقافية، كما استبعد التطهير العرقي واعتبره جريمة دون مستوى الإبادة الجماعية. تضم المادة الثانية من الاتفاقية تعريف الإبادة الجماعية، التي تعني «التدمير المقصود الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو عرقية أو عنصرية أو دينية». وتنص المادة نفسها على خمسة أعمال للإبادة الجماعية تستوجب العقاب: قتل أعضاء من جماعة، إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة، إخضاع الجماعة عمدا لظروف معيشية يراد بها تدميرها ماديا كليا أو جزئيا، وفرض تدابير لمنع إنجاب الأطفال، ونقل الأطفال من جماعة إلى جماعة أخرى». وظل هذا التعريف قائما مع مرور الزمن. وقد ورد بدون أي تعديل في صكوك ميثاقي المحكمتين المخصّصتين ليوغوسلافيا السابقة ورواندا وميثاق روما للمحكمة الجنائية الدولية. أما المادة الثالثة المتعلقة بالعقاب فتشمل جريمة الإبادة الجماعية والتآمر لارتكاب الجريمة والتحريض على ارتكابها ومحاولة ارتكابها والاشتراك في ارتكابها.
من يقرر أن إبادة جماعية حدثت؟
تنص المادة التاسعة في الاتفاقية على ما يلي: «تعرض على محكمة العدل الدولية، بناءً على طلب أي من الأطراف المتنازعة، النزاعات التي تنشأ بين الأطراف المتعاقدة بشأن تفسير أو تطبيق أو تنفيذ هذه الاتفاقية، بما في ذلك النزاعات المتصلة بمسؤولية دولة ما عن إبادة جماعية، أو عن أي من الأفعال الأخرى المذكورة في المادة الثالثة». فمحكمة العدل الدولية هي صاحبة الاختصاص عند نشوب خلاف حول تصنيف مذبحة ما على أنها إبادة جماعية أو دون ذلك. وقد قامت المحكمة فعلا بالنظر في ما حدث في البوسنة والهرسك وأقرت أن ما جرى فيها هو جريمة إبادة جماعية، ارتكبتها السلطات في صربيا والجبل الأسود. كما تم تطبيق بنود العقوبات في الاتفاقية في 2 سبتمبر 1998 عندما وجدت المحكمة الجنائية الدولية لرواندا، جان بول أكايسو، العمدة السابق لبلدة صغيرة في رواندا، مذنبا في تسع تهم تتعلق بالإبادة الجماعية. وبعد يومين، أدين الرئيس السابق لرواندا جان كامباندا، بجريمة الإبادة الجماعية ليصبح أول رئيس دولة يدان بهذه الجريمة. وعلى عكس معظم المعاهدات الرئيسية الأخرى لحقوق الإنسان، فإن اتفاقية الإبادة الجماعية لم تنشئ آلية رصد وتحقق. لكن الأمين العام الأسبق كوفي عنان، أنشا منصبا رفيعا في مكتبه عام 2004، لمستشار خاص يكون معنياً بمنع الإبادة الجماعية، وعين فيه مواطنا من جنوب السودان هو فرنسيس دينق، الذي قدم عدة تقارير حول ما جرى في دارفور ووصف تلك الجرائم بأنها»لا تقل خطورة عن جرائم الإبادة الجماعية».
ماذا حدث في تركيا عام 1915؟
نحن لسنا في وضع يسمح لنا أن نقرر ما إذا الذي حدث عام 1915 يندرج تحت بند الإبادة الجماعية، أم دون ذلك؟ لكن من حق المجتمع الدولي أن يحسم هذا الموضوع بالتحقيق الدقيق ومراجعة جميع الوثائق وجزء كبير منها محفوظ في الأرشيف البريطاني. ومن حق تركيا أن تُسمع ومن حق لجنة من الدول الأعضاء أن تنشئ لجنة محايدة لبحث المسألة والرسو على موقف نهائي وقانوني. وباختصار يتمحور الموقف التركي تاريخيا حول الاعتراف بأن مجازر قد وقعت وأن عملية تهجير واسعة للأرمن قد تمت. لكن الخلاف حول الأرقام كبير والأسباب والتعريف. فتركيا تضع الرقم بين 200000 إلى 300000 معظمهم قضوا أثناء التهجير وبسبب الأمراض والمجاعة والنزاعات القبلية. لكن الأرشيفات البريطانية التي كان يشرف عليها المؤرخ الشهير برتراند راسل ترفع الأرقام إلى 600000. وقد كان الأرمن حتى عام 1961 لا يستخدمون مصطلح الإبادة الجماعية، بل يطلقون على ما حدث Meds Yeghern أو الكارثة الكبرى أو النكبة العظيمة، وقد غيروا المصطلح بعد محاكمة النازي أدولف أيخمان وتكرار استخدام مصطلح Genocide . تركيا تقول إنها فقدت خمسة ملايين في الحرب، وكانت تقاتل ضد الاحتلالات الروسية والبريطانية والفرنسية واليونانية والإيطالية. وقد شكل الأرمن جيشا من المتطوعين لمساندة الجيوش الغازية، خاصة الجيش الروسي الذي غزا منطقة الأناضول الشرقية. كما تثبت الوثائق التركية أن المنظمات الأرمنية ارتكبت مجازر بحق الجيش العثماني، وقد كشفت عن عدد من المقابر الجماعية في المنطقة. لكن حسم هذا الموضوع بتبرئة الدولة العثمانية أو إدانتها، وحسم الجدل حول ما جرى بالضبط هو من اختصاص محكمة العدل الدولية، التي تسمح للأطراف كافة بعرض وثائقها وحججها.
النفاق الغربي
الشيء الذي يثير الحنق أن تنصب مجموعة من الدول الغربية مثل الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا نفسها حكما على تصرفات العالم السابقة واللاحقة. كل هذا الصخب ضد مذبحة الأرمن، لم نسمعة إلا في العقد الأخير، بعدما بدا لهذه الدول أن النظام في تركيا مختلف عن سوابقه من العسكر. صمتت هذه الدول أكثر من 90 سنة عندما كان العسكر يحكمون تركيا. كانت دولة محبوبة ومدللة. تغير الأمر بعد وصول نظام مختلف يريد ويعمل على التخلص من إرث كمال أتاتورك، الذي كبل البلاد وقطعها عن ماضيها وتاريخها وثقافتها، وربطها في عجلة الدول الاستعمارية.
إن من تكون يداه ملطخة بدماء الشعوب لا يحق له أن يحاكم الآخرين على ما ارتكبوه من جرائم. فمن أقام بلده على الإبادة الجماعية للسكان الأصليين، حيث أهلك ما يزيد عن 120 مليونا، ومن أقام بلاده على استرقاق ملايين الأفارقة، التي أدت إلى مقتل 20 مليونا منهم أو يزيد، ومن أسقط قنبلتين نوويتين على هيروشيما وناغازاكي، ومن دمر مدينة دريزدن الألمانية بعد توقف الحرب العالمية الثانية ومن قتل أكثر من مليون ونصف من العراقيين في حربين متتاليتين، لا يحق له أن ينصب نفسه حكما أخلاقيا على العالم. أما فرنسا فهي آخر من يحق له أن يتكلم عن المجازر والإبادات الجماعية، وسجلها ملطخ بالعار في مستعمراتها في كل مكان، وعلى رأسها الجزائر، حيث أبادت مليونا ونصف المليون من بلد كان عدد سكانه لا يزيد عن ثمانية ملايين. وأما عن بريطانيا فلو لم تقم إلا بزرع الكيان الصهيوني في فلسطين، وطرد شعب آمن من بلده لكفاها ذلك العار إلى الأبد.
نتمنى أن يحسم هذا الموضوع قانونيا بالعودة إلى بنود الاتفاقية وطرح الموضوع أمام محكمة العدل الدولية للبت فيه والخروج برأي قانوني حاسم يفوت الفرصة على دول تعمل على قول كلمة فيها شيء من الحقيقة من أجل باطل عظيم.
عبدالحميد صيام
القدس العربي