قامت السلطات الأردنية في الضفة الغربية، بتأجير أراضي منطقة الشيخ جراح المتنازع عليها للاجئين فلسطينيين هجروا من أراضيهم سنة 1948، على أن يتم استملاكهم للأراضي في مرحلة لاحقة، ويفترض أن السكان أصبحوا متملكين بصورة رسمية قبل عام 1967، والوثائق الأردنية هي أساس الملكية المتحققة.
بعد احتلال القدس عمدت جمعيات يهودية لادعاء ملكيتها للأرض، وذلك أمام السلطات الإسرائيلية، وهو ما يعتبر اعتداء على ملكيات شخصية غير مقبول على الأقل وفق الثقافة الغربية، التي تدعم إسرائيل، فالاعتداء الإسرائيلي وبجانب مخالفته للقانون الدولي، يناقض بصورة جوهرية المبادئ التي تؤسس لوجهة النظر الرأسمالية حول الممتلكات الشخصية، التي تتبناها الولايات المتحدة وأوروبا الغربية بوصفها مقدسات تأسيسية في فكرها ونظرتها للحياة.
المشكلة لا تتوقف عند مأساة الشيخ جراح، فهي قد تشكل أسبقية لحالات أخرى في الضفة الغربية، خصوصاً للأوضاع التي تشكلت أثناء الفترة من 1948 إلى 1967، ويعيد ذلك إلى ضرورة العمل بين الطرفين الفلسطيني والأردني للتوصل إلى غطاء قانوني لهذه المرحلة، بكل ما يتطلبه ذلك من حذر وحنكة في التعامل مع عدو متربص بكل إجراء، ومستعد للاستغراق في التفاصيل، ويمكنه دائماً أن يجد الشياطين التي يريدها داخلها.
المطلوب فلسطينياً في هذه المرحلة هو إعادة ترتيب الأوضاع القانونية المرتبطة باتفاقيات السلام المبرمة سابقاً
تهربت إسرائيل من مدريد 1991 من خلال التواصل عبر الأبواب الخلفية، وصولاً إلى أوسلو 1993 وكان الفخ الحقيقي يتمثل في اتفاقية غزة ـ أريحا، التي قامت على مرحلة الحقوق الفلسطينية، بناء على أداء السلطة الفلسطينية وكأنها طالب يدخل الامتحان الإسرائيلي، وكلما تقدم في أدائه حصل على قطعة هنا أو هناك، وفي أثناء عملية تفويت المراحل، كانت إسرائيل تعمل على تغيير الأمر الواقع وتفخيخه، من خلال عملية استيطان نشيطة، طالما أن ملف المستوطنين لم يكن واضحاً، في الإطار المؤسس الذي أطلقته اتفاقية أوسلو. تحقق ذلك من التهرب الإسرائيلي، وضرب أي محاولة للتنسيق بين الأردنيين والفلسطينيين، وانتقال زخم الأوراق الفلسطينية إلى الجانب المصري مع الرئيس حسني مبارك الذي كان متعجلاً لعقد الاتفاق، لتحقيق مكاسب شخصية وسياسية، لدرجة إجباره الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات على التوقيع في 4 أيار/مايو 1994 في القاهرة، وهو اليوم الذي تزامن مع عيد ميلاد الرئيس مبارك، في ما يبدو أنه كان إضفاء لجانب شخصي على اتفاقية بالغة الأهمية، تحدد جانباً من مصير الشعب الفلسطيني، وكانت الأردن الأكثر تقاطعاً وتداخلاً مع الملفات الفلسطينية المختلفة، غائبة عن ليلة القاهرة ومراحل إعدادها، والفصول اللاحقة التي شهدت اصطحاب الرئيس مبارك لعرفات لدخول قطاع غزة، بعد توقيع القاهرة بأسابيع قليلة.
الاحتكاكات المتواصلة بين الأردن والجانب (الإسرائيلي) حول ملف القدس، يضع هو الآخر العوائق أمام ترتيب الوضع الخاص بالقدس الشرقية، التي كانت جزءاً من المملكة الأردنية الهاشمية، وبقية أراضي الضفة الغربية التي اعتبرت أرضاً محتلة من المملكة، حتى فك الارتباط الذي أعلنه الملك الحسين سنة 1988، ويظهر أن جزءاً من المشكلة لا يتوقف عند الوصاية الهاشمية الأردنية على المقدسات الإسلامية والمسيحية، ولكنه يمتد لقطع الطريق أمام أي محاولة لترتيب أوضاع الفلسطينيين في الضفة الغربية بشكل عام، خاصة أن تعاملاتهم بيعاً وشراء وتملكاً، كانت تجري لعقدين من الزمن وفق القوانين الأردنية، وتسجل في الدوائر الرسمية الأردنية، ولذلك توجه وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي بجانب من الوثائق، التي تبين عملية عقود تأجير الوحدات السكنية وترتيبات التملك اللاحق إلى رام الله، لوضعها لدى السلطة الوطنية للقيام بالتحركات القانونية اللازمة لمصلحة سكان المنطقة.
قضايا مماثلة لما يحدث في الشيخ جراح، مرشحة للتفاعل بين وقت وآخر وفي أماكن أخرى من الضفة، وهو ما يحتم ضرورة البحث في إعادة تقييم المسارات التفاوضية السابقة، التي عملت على أساسها الأردن وفلسطين وبناء مسار موحد لمواجهة الطموحات الإسرائيلية في إقرار الأمر الواقع، بكل مخالفاته وعبثه على الأرض في العديد من نقاط التماس بين الفلسطينيين والمستوطنين، الذين ينتهزون الفوضى التي حدثت في عمليات تسجيل وتوثيق الملكيات القائمة في المناطق المحتلة 1967 في محاولة لتصحيح مسار التفاوض والاتفاقيات التي أبرمت سابقاً، وكانت تقوم على أساس انطباعات متفائلة أو ساذجة، وربما تواطؤ من أجل تحقيق مكاسب أخرى مع الغرب، في مواسم الوعود التي ترتبط مع اتفاقيات السلام والتي آلت في كل مرة إلى الخسارة. لا يوجد لدى الجانب الإسرائيلي ما يخسره، فإن آلت القضية إلى بقاء الفلسطينيين في النهاية، فإنها ستوظف لمصلحة التعويضات التي تسعى إسرائيل للحصول عليها عن ممتلكات اليهود المهجرين من الدول العربية في العقود السابقة، وإن تمكنوا من إخراج الفلسطينيين وتسكين المستوطنين محلهم، فهذه التجربة ستستثمر في مواقع أخرى من الضفة الغربية، أما المطلوب فلسطينياً في هذه المرحلة هو إعادة ترتيب الأوضاع القانونية المرتبطة باتفاقيات السلام المبرمة سابقاً، خاصة ما يتعلق بالمرحلة بين النكبة وهزيمة حزيران/يونيو 1967 وهو ما يستلزم تعاوناً فلسطينياً مع الجانبين الأردني والمصري، يقوم على أرضية منظمة ومنهجية وواعية، أما أردنياً فربما يتوجب العمل على تنظيم ملف هائل لتلك المرحلة، ومعه أيضاً توجهات واضحة لما يجب أن يتم اتخاذه في المستقبل بخصوص الضفة الغربية.
سامح المحاريق
القدس العربي