من السهل أن تبدأ الحرب ولكن من الصعب أن تتوقف، خاصة أنه تنشأ في سياقاتها مصالح متعددة تتعارض مع مسألة السلام ذاتها. في الشرق الأوسط، وبعدما تزايدت حدة الصراعات والحروب، وطالت تأثيراتها أوروبا والولايات المتحدة ، بات السؤال الأهم لدى مراكز التفكير الأمريكية، كيف يمكن إنهاء الحروب في الشرق الأوسط؟.في محاولة للإجابة هذا السؤال جاءت دراسة “إدارة وإنهاء وتجنب الحروب في الشرق الأوسط” في دورية “سياسة الشرق الأوسط” في ربيع 2015، والتي كانت نتاج جهد مشترك “لمايكل هايدن” الرئيس السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، و”دانيال بولجر” الفريق الأول في الجيش الأمريكي، و”دافنا راند” عضو سابق في إدارة أوباما، و”فرانسيس ريتشاردوني” السفير السابق للولايات المتحدة الأمريكية في مصر. وقد تناولت الدراسةُ عددًا من الاتجاهات يُمكن من خلالها إنهاء الحروب والصراعات في الشرق الأوسط.
الاتجاه الأول- تحالف أمريكي – تركي:
أرجع عدد من المفكرين الأمريكيين الصراعات التي تشهدها المنطقة العربية لما تعرضت له من استعمار وآثار ناجمة عنه، والتي تمثلت في الحدود الاصطناعية التي وضعها الاستعمار تحقيقًا لمصالحه دون النظر إلى الاعتبارات اللغوية والدينية والثقافية، وتفاقمت الأوضاع مع فشل الأنظمة العربية المستبدة في إدارة التعددية لتجعل منها تعددية ثراء، فاعتمدت على استخدام الأساليب التسلطية اعتقادًا منها أنها الأمثل لتحقيق الانصهار المجتمعي والقضاء على التعددية.
وبحسب الدراسة، انكشف هذا سريعًا مع سقوط الحكام المستبدين، فبدأت تظهر القوى المكبوتة، وتأزمت الأوضاع، ودخلت الثورات العربية في نفق مظلم لتتحول إلى انتكاسات متلاحقة انتهت بسقوط عدد من الدول العربية سوريا وليبيا واليمن، بالإضافة إلى الفشل المسبق للدولة العراقية، وضعف الدولة اللبنانية.
فرأى بعض المفكرين، وهو ما أشار إليه “مايكل هايدن” أن الأوضاع في الشرق الأوسط تتقارب مع ما شهدته أوروبا خلال حرب الثلاثين عامًا، حيث إن الحروب في تلك الفترة كانت تقوم على أُسس دينية، ونتج عنها وفاة ما يقرب من ثلث سكان أوروبا، وكانت بمثابة الهزة التي دفعت أوروبا إلى بناء حضاراتها، واستعادة مكانتها، وبداية الطريق نحو الحداثة، ومن المتوقع أن يكون هذا هو المسار الذي سوف تنتهجه المنطقة حتى يتم بناء دول قومية تكون قادرة على إدارة التعددية الدينية والعرقية، وتقوم على أُسس علمانية.
ومن ثمّ فيوصي هايدن بأن يكون للولايات المتحدة دور فاعل رئيسي في رسم مستقبل المنطقة، وأن تسعى إلى بناء شبكة من التحالفات يمكن الاعتماد عليها في ذلك، وهو ما دعا إليه من خلال بناء “تحالف أمريكي تركي” كمخرج لتحقيق الاستقرار في ظل السيطرة الأمريكية، مما يمكن الولايات المتحدة من التعاون مع فاعل إقليمي قوي لديه تفاهمات ومخاوف مشتركة لشن هجمات عسكرية ذات أهداف مشتركة؛ حيث إن الجانب التركي الأكثر تضررًا في المنطقة من الأوضاع في سوريا، واستمرار نظام الأسد الذي أدى إلى زعزعة الاستقرار الإقليمي. بالإضافة إلى تدفق اللاجئين السوريين نحو تركيا، وتعاون الأكراد في تركيا مع الأكراد في العراق وسوريا من أجل السعي إلى إنشاء دولة كردية، والتواجد الداعشي في الدول المجاورة لتركيا مما يُمثل تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي، مما يجعل أنقره الحليف الدولة الأقدر على التعاون مع واشنطن لإدارة الصراعات في المنطقة وعودة الاستقرار.
ولكن، وبحسب هايدن، يبدو أن هناك صعوبات تواجه ذلك التحالف لا بد من إيجاد حلول لها وهي أن الأكراد يُعتبرون من حلفاء الولايات المتحدة التي تسعى دومًا إلى مناصرتهم، وهو ما يخلق اختلافًا في وجهات النظر، كما أن التحالف التركي الأمريكي سوف يؤثر على علاقة الولايات المتحدة بحلفائها التقليديين في المنطقة، وعلى رأسهم مصر، خاصةً في ظل الاختلاف السياسي بين مصر وتركيا، وهو ما يجب أن تضعه الولايات المتحدة في اعتبارها. ومن ثم يقترح هايدن بأن تستمر الولايات المتحدة في دعم علاقاتها مع مصر وإسرائيل والسعودية ودول الخليج كحلفاء تقليديين لها، وأن تسعى إلى تقريب الفجوة في وجهات النظر بينها وبين تركيا من أجل إيجاد تحالف قوى قادر على حل الصراعات، وضمان استقرار الوضع الراهن.
الاتجاه الثاني- الإنهاك المتبادل:
تصاعدت المطالبات داخل الولايات المتحدة بضرورة التدخل العسكري في سوريا وليبيا واليمن من جانب البعض للقضاء على التنظيمات الإرهابية، ووقف التمدد الإيراني في اليمن، يأتي هذا في ظل تفاقم الأوضاع بعد أحداث “تشارلي إيبدو” في فرنسا حيث ظهرت اتجاهات فكرية تعارض الإدارة الأمريكية، وترى أنه إذا استمر التخاذل الأمريكي والغربي عن التدخل العسكري في سوريا وليبيا للقضاء على داعش فسوف يهدد الإرهاب الولايات المتحدة في عقر دارها.
وعلى النقيض من هذا يظهر اتجاه يؤكد أن ليس كل ما يحدث في الشرق الأوسط يؤثر على الأمن الأمريكي، ومن ثم يجب عدم التدخل بتاتًا في المنطقة. فمنذ التدخل الأمريكي في العراق تصاعدت أصوات من يطالبون الإدارة الأمريكية بعدم تكرار التدخل العسكري في الشرق الأوسط، خاصةً بعد الخسائر الفادحة التي تكبدتها الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق، وما انتهت إليه الأوضاعُ من زرع المزيد من الحقد والكراهية داخل المنطقة العربية تجاه الولايات المتحدة نتيجة التدخل المستمر تحت دعوى الحفاظ على الأمن القومي الأمريكي، وهو ما انتهى بتدمير العراق، واشتعال النزاعات السنية الشيعية، والخروج مما هو سيئ إلى ما هو أسوأ.
ويرى هذا الاتجاه أن الحروب في الشرق الأوسط ستنتهي تلقائيًّا دون التدخل من أي طرف خارجي، بل إن التدخل غالبًا سيؤدي إلى زيادة حدتها، ومن ثمّ على الولايات المتحدة ألا تتدخل في هذه الحروب، والانتظار حتى يحدث إنهاكٌ للأطراف المتحاربة.
الاتجاه الثالث- التوجهات الشعبية:
توقّع بعضُ الباحثين في إطار السيناريوهات الموضوعة لإدارة الصراعات في الشرق الأوسط -وفي مقدمتهم “دافنا راند”- أن المنطقة سوف تظل متأججة بالصراعات لعشر سنوات قادمة، وذلك نتيجة تفكك الدول العربية، والاختفاء التام لمفهوم الدولة، وهو ما ظهر في الحالة الليبية والسورية والعراقية واليمنية واللبنانية، بالإضافة إلى سيطرة الجماعات الإرهابية على مجريات الأمور في المنطقة.
يُضاف إلى ذلك ضعف القيادات الوطنية، ووجود تعددية عرقية ومذهبية كل منها يحارب الآخر بدعم من قوى وأطراف دولية تسعى إلى حماية مصالحها، مما زاد الأمر سوءًا وأطال من عمر الصراعات، وامتدت النزاعات لتهدد استقرار كافة دول الإقليم، وهو ما اتضح للعيان في الأزمة السورية والليبية؛ حيث لم يقتصر التأثير على الدول المجاورة فقط أو الدول التي تربطها مصالح بهما، ولكن أصبحت الأزمتان -وخاصة السورية- محط اهتمام دول الإقليم كافة.
بحسب الدراسة، فإن استمرار الصراعات في الشرق الأوسط يمثل تحديًا حقيقيًّا للإدارة الأمريكية؛ حيث إن الشعب الأمريكي سئم من الدخول في الحروب، ولا يزال هناك رفض شعبي لإرسال القوات الأمريكية للخارج، والتدخل الأمريكي في الصراع العربي الإسرائيلي، ودخول الولايات المتحدة في أزمات مع القوى الدولية (روسيا والصين) بسبب الأزمة السورية، واستنزاف مواردها بلا عائد يجدي، بل بمزيد من الخسائر ومزيد من الكراهية.
في هذا السياق، رأى أصحاب هذا الاتجاه أنه لا يوجد أمام الإدارة الأمريكية سوى أحد خيارين هما: إما أن تسير وفقًا للتوجهات الشعبية داخل الولايات المتحدة مما ينتج عن ذلك تجاهل ما يحدث في الشرق الأوسط، وفك الارتباط مع دول المنطقة، وعدم التدخل في قضايا الإقليم إلا في حالة وجود خطر صريح يهدد الأمن القومي الأمريكي وبتأييد شعبي، أو أن تنتهج الولايات المتحدة استراتيجية تجمع بين الخيارين العسكري والدبلوماسي؛ حيث تعتمد الولايات المتحدة على القوات العسكرية لتنفيذ مخططاتها في المنطقة، ولكن في أضيق الحدود وبمشاركة دولية، حتى لا تتورط الولايات المتحدة بمفردها في المنطقة، مع الاستناد على الأداة الدبلوماسية لتبرير الاستخدام الأمريكي للقوة العسكرية تحت ادعاء أنه يصب في صالح دول المنطقة.
الاتجاه الرابع- مركزية الأداة العسكرية:
يرى أصحاب هذا الاتجاه أن الإدارة الأمريكية قد أخفقت في الفترة الأخيرة على مستوى سياستها الخارجية وإدارتها للأحداث الخارجية، خاصة في ظل انشغال الرئيس والإدارة الأمريكية بالأوضاع الداخلية، فلم يتم وضع خطط واستراتيجيات محكمة للتعامل مع تطورات الأوضاع في الشرق الأوسط وخسارة الولايات المتحدة لحلفائها في المنطقة واحدًا تلو آخر، حيث بدأ الأمر بتدهور العلاقات المصرية الأمريكية ثم السعودية يليها بعض دول الخليج، مما جعل الولايات المتحدة في وضع شديد الحرج.
وهو ما دفع السفير فرانسيس ريتشاردوني إلى الإشارة إلى محورية دور وزارة الدفاع الأمريكية في الوقت الحالي، حيث رأى ضرورة تولي وزارة الدفاع الأمريكية إدارة الأوضاع في الشرق الأوسط، حيث إنها الأجدر في الوقت الحالي لما تتمتع به من شعبية داخل الولايات المتحدة، بالإضافة لما لديها من موارد بشرية ومالية وفنية وسلطة قانونية ودعم سياسي، خاصة بعد فشل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، حيث لم تعد المساعدات الاقتصادية كافية من أجل بناء مجتمعات قوية قادرة على التعايش السلمي والتغلب على الأفكار المتطرفة.
كما أن هناك حاجة إلى ما تمتلكه وزارة الدفاع من أجهزة استخباراتية قادرة على رصد ومراقبة حركة الشباب الأمريكي داخل الأراضي العربية، وكيفية استقطابهم، وكيفية تمويل تلك الجماعات، ومن ثم فإن الوسيلة الأساسية لإنهاء الحروب في هذا الاتجاه تقوم على التدخل العسكري، مع التعاون بشكل موازٍ مع القيادات والتنظيمات السياسية، ومنظمات المجتمع المدني.
وإجمالا يُمكن القول إن الحروب والصراعات في الشرق الأوسط امتد تأثيرها ليصل إلى مختلف أرجاء العالم، وهو ما دفع العديد من الدول للتساؤل عن كيفية إيقاف هذه الصراعات أو الحروب؟ أو على الأقل التخفيف من حدة تأثيراتها، إلا أن تعقد خريطة هذه الصراعات والحروب وتشابكها وسرعة التحول في مساراتها يعد عائقًا أساسيًّا للتوصل إلى هذا الهدف.
عرض: رضوى منتصر الفقي
المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية