أبعاد التغيير في سياسة تركيا… وآفاقه المحتملة

أبعاد التغيير في سياسة تركيا… وآفاقه المحتملة

التحولات الأخيرة في السياسة الخارجية التركية، التي تتراوح بين التقدم شرقاً انطلاقاً من مصر، والسعي الحثيث تجاه الغرب لمحاولة إصلاح ما فسد في العلاقات مع أوروبا، وأيضاً العمل لكسر صلابة الموقف الأميركي تحت إدارة الرئيس الديمقراطي جو بايدن، تثير كلها تساؤلات حول دوافع استدارات أنقرة المتعددة والمتزامنة والمتناسقة السرعات.

والحال أن أنقرة تجتهد في محاولة القفز على الخلافات التي ولّدتها سياساتها في منطقة الشرق الأوسط، بعد أحداث ما يسمى بـ«الربيع العربي»، حين انقلب وجه هذه السياسة من المقاربة الناعمة في حقبة ما قبل العام 2011 يوم سادت نظرية «صفر مشكلات مع دول الجوار»… إلى التدخل المباشر في شؤون دول المنطقة والتوجه «التوسعي» عبر التموضع عسكرياً في سوريا وليبيا وتوسيع الوجود العسكري القائم في شمال العراق، ناهيك من استعداء القوى الإقليمية الكبرى بالمنطقة.

دفعت القراءة التركية لأحداث العام 2011، واعتقاد أنقرة أنها تملك في يدها دفة تسيير هذه الأحداث اعتماداً على توافق سابق مع الولايات المتحدة ضمن مشروع «الشرق الأوسط الكبير»، إلى شبه عزلة.

هذه العزلة، التي ربما لم يسبق أن عاشتها تركيا في تاريخها مع تحوّل سياسة «صفر مشكلات مع دول الجوار» إلى «صفر علاقات» «أو مشكلات بلا جوار»، حاول الحزب الحاكم تجميلها لسنوات بتسميتها «العزلة القيمة». غير أن التمادي في سياسة خارجية تكتيكية تقوم على تغيير مستمر في المحاور والتحالفات دفع – مع عوامل أخرى إقليمية ودولية – تركيا إلى أن تسلّم في النهاية بأن المعطيات مختلفة، وبالتالي، أن تسعى إلى لملمة الأوراق المبعثرة في العلاقات مع الشرق والغرب في وقت واحد.

– رسائل إلى أوروبا

قبل انتهاء العام 2020، شهدت سياسة تركيا الخارجية تغيراً باتجاه التهدئة والسعي لإصلاح العلاقات مع كثير من الدول، وأطلق المسؤولون الأتراك تصريحات إيجابية تشير إلى رغبتهم في تحسين العلاقات مع دول المنطقة وأوروبا والولايات المتحدة، وحلّ الخلافات والمشكلات. ودعا الرئيس رجب طيب إردوغان خلال نوفمبر (تشرين الثاني) الفائت إلى فتح أبواب المصالحة والقنوات الدبلوماسية على مصراعيها مع جميع دول المنطقة لحل النزاعات بسرعة، قائلاً: «ليست لدينا تحيّزات خفية أو معلنة، أو عداوات وحسابات غامضة ضد أي أحد. وبكل صدق ومودّة، ندعو الجميع للعمل معاً من أجل بناء مرحلة جديدة في إطار الاستقرار والأمان والعدل والاحترام».

وعقب القمة الأوروبية في ديسمبر (كانون الأول) ، أطلقت أنقرة سيلاً من التصريحات حول رغبتها في فتح صفحة جديدة مع أوروبا وطي الخلافات وإنهاء التوتر، مع تأكيد إردوغان أن «أوروبا هي مستقبل تركيا». لكن بروكسل قابلت ذلك بالمطالبة بـ«أفعال على الأرض وليس مجرد أقوال»، واشترطت على أنقرة إنهاء التوتر مع اليونان وقبرص بشأن ملف التنقيب عن النفط والغاز والأنشطة غير القانونية التي تمارسها هناك. ومع أن تركيا استجابت بوقف هذه الأنشطة، فإن قيادات أوروبا لا تزال متوجسة تجاه نوايا أنقرة، ولذا قرر القادة في قمتهم التي عقدت يوم 25 مارس (آذار) الماضي «مراقبة سلوك تركيا ومدى التزامها بإنهاء التوتر في شرق المتوسط»، ومن ثم تقييم الوضع مجدداً خلال القمة المقبلة المقررة في يونيو (حزيران) المقبل.

طيلة الأشهر الأربعة الماضية، حاولت أنقرة إقناع الأوروبيين بجديتها في تغيير نهجها، والحصول على تعهدات بمكاسب تتعلق بملف الهجرة واللاجئين، واستئناف مفاوضات تحديث اتفاقية الاتحاد الجمركي الموقعة بين الجانبين عام 1995. إلا أن هناك قضايا تسببت في قلق جديد، منها قرار إردوغان يوم 20 مارس الماضي الانسحاب من «اتفاقية مجلس أوروبا لحماية المرأة ومناهضة العنف المنزلي»، المعروفة بـ«اتفاقية إسطنبول» وقلة رضا أوروبا عن وضع حقوق الإنسان في تركيا.

– العودة إلى الشرق

من ناحية ثانية، شكّل انتخاب جو بايدن رئيساً للولايات المتحدة عامل ضغط جديداً على تركيا لتغيير سياساتها الخارجية. إذ تبنى الرئيس الديمقراطي الجديد مواقف متشددة تجاه إردوغان وسياساته، وقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان. وهذا ما دفع أنقرة جدياً إلى التفكير بإنهاء مشكلاتها وخلافاتها في محيطها الإقليمي. وحقاً، أطلقت رسائل حول فتح صفحة جديدة من العلاقات مع مصر، وبدأت محاولات لاختراق الجمود في العلاقات مع كل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة. وجاء ذلك استثماراً للمصالحة بين الدول الثلاث؛ السعودية والإمارات والبحرين، مع قطر في «قمة العُلا» التي استضافتها السعودية خلال يناير (كانون الثاني) الماضي، واختارت تركيا البدء من مصر، التي تسبب تدهور العلاقات معها على مدى 8 سنوات منذ الإطاحة بحكم «الإخوان المسلمين» عام 2013. ولا سيما بعد استضافة تركيا إياهم وتوفيرها المأوى والمنصات الإعلامية التي استخدموها في الهجوم على مصر ورئيسها وحكومتها… وهو ما ألحق أضراراً حادة بالمصالح التركية في منطقة شرق المتوسط، حيث تواجه تركيا حصاراً غربياً وإقليمياً واستبعاداً من معادلة الطاقة، برفض ضمّها إلى «منتدى شرق المتوسط للغاز».

– فتح قنوات

ورغم التصريحات التركية المتناثرة على مدى 3 سنوات عن أهمية العلاقات مع مصر، لم ترقَ هذه التصريحات إلى مستوى التحرك الفعلي إلا في مارس (آذار) الماضي. وبعد تبلور توجه جاد لإصلاح العلاقات مع مصر، بدأت تركيا خطوات واتصالات لفتح القنوات الدبلوماسية لتطبيع العلاقات مع الرياض وأبوظبي، إلى جانب التحرك باتجاه استعادة الزخم في العلاقات مع إسرائيل.

طوال يومي الأربعاء والخميس الماضيين، زار وفد دبلوماسي تركي برئاسة سعادات أونال، نائب وزير الخارجية التركي، العاصمة المصرية القاهرة، في أول زيارة من نوعها منذ 8 سنوات، وذلك لإجراء مباحثات مع نائب وزير الخارجية المصري حمدي سند لوزا. وذكرت المصادر في أنقرة أن هدفها تطبيع العلاقات مع مصر. وفي المقابل، حدّدت القاهرة إطارها في أنها «محادثات استكشافية» حول الخطوات الضرورية التي قد تؤدي إلى تطبيع العلاقات بين البلدين على الصعيد الثنائي وفي السياق الإقليمي.

جاءت الخطوة بعد سلسلة من تصريحات التودّد التركية لمصر، أعقبها إعلان إردوغان يوم 12 مارس أن تعاون تركيا مع مصر في مجالات الاقتصاد والدبلوماسية والاستخبارات مستمر، ولا توجد أي مشكلة في ذلك، مشيراً إلى أن الاتصالات ستتقدم إلى مستويات أعلى بحسب سيرها.

وأعقب ذلك إصدار السلطات التركية تعليمات إلى قنوات «الإخوان المسلمين» العاملة في تركيا بالتوقف عن الهجوم على مصر والرئيس عبد الفتاح السيسي والحكومة، والامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية لمصر، مع التنبيه على قيادات التنظيم بألا يدلوا بتصريحات متطرفة تمسّ مصر. ومع تأكيد أنقرة أن لا وجود لشروط مسبقة لتطبيع العلاقات، ربطت مصر تحسين العلاقات بالتزام أنقرة بمبادئ القانون الدولي والإحجام عن التدخل في الشؤون الداخلية لمصر والدول العربية.

وللتذكير، تدهورت العلاقات بين القاهرة وأنقرة منذ عزل الرئيس الراحل محمد مرسي، حليف إردوغان، والمنتمي إلى تنظيم «الإخوان المسلمين». وتصاعد التوتر بين الطرفين لاحقاً على خلفية قضايا عدة، خاصة الأزمة الليبية التي كادت تصبح ساحة مواجهة عسكرية بين الجيشين المصري والتركي، بعد إرسال تركيا آلاف المرتزقة من سوريا للقتال ضد قوات «الجيش الوطني الليبي» المدعومة من مصر.

الواقع أن إعادة العلاقات مع مصر بعد سنوات من العداء من جانب تركيا، جزء من تحول أوسع من جانب أنقرة. وقد تترتب على تطبيع العلاقات بين القوتين الإقليميتين تداعيات في أنحاء الشرق الأوسط؛ حيث يسعى الجانبان للتأثير على مجريات الأحداث في بؤر التوتر المختلفة، ويقفان على طرفي النقيض في نزاع على الطاقة بمنطقة شرق البحر المتوسط.

وثمة مراقبون يؤكدون أن إعادة بناء الثقة بين القاهرة وأنقرة ستكون عملية صعبة إلى حد بعيد، فبجانب التوترات التي نجمت عن الإطاحة بمرسي والنزاعات في البحر المتوسط، قال وزير الخارجية المصري سامح شكري إن جامعة الدول العربية تعرب عن رفضها القاطع للتدخلات العسكرية التركية في سوريا والعراق وليبيا. وأكد أن الحوار محدود، وأنه «لا تواصل خارج الإطار الدبلوماسي الطبيعي، وإذا ما وجدنا أفعالاً حقيقية من تركيا، وأهدافاً تتسق مع الأهداف والسياسات المصرية، ستكون الأرضية مؤهلة للعلاقة الطبيعية مع تركيا». وفي هذه الأثناء، تعمل أنقرة على تسريع خطوات التطبيع مع مصر، إذ أعادت الشهر الماضي تشكيل لجنة الصداقة البرلمانية، وأعربت عن أملها في أن تسفر مباحثات نائبي وزيري الخارجية عن الاتفاق على تعيين سفيرين للبلدين ولقاء قريب بين وزيري الخارجية لتصعيد مستوى الاتصالات.

– التحرك نحو الخليج

على صعيد آخر، في حين بدأت أنقرة خطوات فعلية لتطبيع العلاقات مع مصر، فإنها أطلقت أيضاً تصريحات ودية تجاه كل من السعودية والإمارات التي توترت العلاقات معهما أيضاً منذ 2013. وكما هو معلوم، شهدت الفترة الأخيرة اتصالات على مستويات رفيعة لفتح القنوات الدبلوماسية والعمل على بدء صفحة جديدة.

وأكد المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالين، خلال الأسبوع الماضي، رغبة بلاده في تحسين العلاقات مع الرياض. وقبلها أكد وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو أنه «لا يوجد أي سبب يمنع تحسين العلاقات مع السعودية، وفي حال أقدمت السعودية على خطوات إيجابية فسنقابلها بالمثل، والأمر ذاته ينطبق على دولة الإمارات».

وبالفعل، أجرى جاويش أوغلو أخيراً اتصالاً هاتفياً مع نظيره الإماراتي عبد الله بن زايد للتهنئة بحلول شهر رمضان، وجاء الاتصال بعد فترة فتور طويلة في العلاقات بين البلدين واتهامات من جانب أنقرة للإمارات بدعم محاولة الانقلاب الفاشلة التي شهدتها تركيا في 15 يوليو (تموز) 2016.

… ورسائل لإسرائيل

وبالتوازي، تسعى تركيا أيضاً لإعادة العلاقات مع إسرائيل إلى مسارها الطبيعي، ففي ديسمبر (كانون الأول) الماضي، قال إردوغان: «نود أن نصل بعلاقاتنا مع إسرائيل إلى نقطة أفضل». وعيّنت إسرائيل خلال فبراير (شباط) إيريت ليليان في منصب القائم بالأعمال في سفارة أنقرة، وهو خبير في الملف التركي، ما اعتبر رسالة مهمة من تل أبيب لإردوغان، واستجابة للرسائل والمبادرات التركية لاستعادة العلاقات الطبيعية.

في هذا الشأن، لا يزال ملفا وجود قادة من حركة «حماس» في تركيا، ودعم تركيا للحركة، يشكلان عائقاً أمام تطبيع العلاقات، ما يدفع إسرائيل إلى التزام الصمت تجاه المبادرات التركية. إذ قالت إسرائيل إنه لن يكون هناك تطبيع في العلاقات قبل إغلاق الجناح العسكري لحركة «حماس» في إسطنبول.

هذا، ولقد مرّت العلاقات التركية الإسرائيلية بعدد من محطات التوتر. فبعد اندلاع أزمة السفينة «مافي مرمرة»، بنهاية مايو (أيار) 2010، عندما قتلت قوات الأمن الإسرائيلية 9 ناشطين أتراكاً مدنيين كانت وجهتهم غزة، وسحب تركيا سفيرها من إسرائيل إثر وصفها هذا العمل بأنه «إرهاب دولة»، خفضت تركيا علاقاتها مع إسرائيل. ولكن في يونيو 2016، توصّل الجانبان إلى اتفاق جديد، وبحلول نهاية العام، تسلّم السفراء المعيّنون حديثاً مناصبهم في كل من أنقرة وتل أبيب.

إلا أن التوتر تجدد في ديسمبر (كانون الأول) 2017، عندما أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل. ومن ثم سقط 52 قتيلاً في احتجاجات نظّمها فلسطينيون رداً على القرار. في تلك المرحلة، سحبت تركيا مرة أخرى سفيرها في تل أبيب، واستدعت إسرائيل سفيرها في أنقرة، وانتهت فترة عمله في وقت لاحق. ومنذ ذلك الحين، حافظ البلدان على علاقاتهما على مستوى القائم بالأعمال في السفارتين.

الجدير بالذكر أن تركيا كانت ذات يوم الدولة الإسلامية الوحيدة التي تتمتع بعلاقات جيدة مع إسرائيل، المحاطة بدول هي معهم في حالة عداء، مع جعل من المفيد لإسرائيل وجود قوة إقليمية إلى جانبها. غير أن جاذبية العلاقة مع تركيا تناقصت بعدما تمكنت إسرائيل من تطبيع علاقاتها أخيراً مع دول أخرى في المنطقة العربية.

– دوافع التحوّل

بالعودة إلى السؤال عن دوافع تركيا للتحرك «المفاجئ» باتجاه تغيير سياستها الخارجية والتهدئة مع دول المنطقة، يؤكد محللون أن ثمة أسباباً كثيرة لهذا التحول، في مقدمها الضغوط على أنقرة مع وصول بايدن إلى السلطة في الولايات المتحدة واعتماده حتى الآن نهجاً متشدداً تجاه إردوغان وسياساته، وكذلك الأزمة الاقتصادية الحادة التي تمر بها تركيا مع هروب الاستثمارات الأجنبية، التي لم تنجح الحلول في مواجهتها منذ العام 2018 حتى الآن. ثم هناك بالطبع سعي إردوغان إلى إنقاذ شعبيته التي اهتزت بشدة في السنوات الثلاث الأخيرة، قبل موعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبل في صيف 2023. إذ تؤكد مؤشرات الساحة السياسية التركية أنها لن تكون سهلة على الإطلاق بالنسبة لإردوغان وحزب العدالة والتنمية الحاكم.

وعليه، يعتقد بعض المحللين أن التحول الراهن في السياسة الخارجية التركية وفي لغة الخطاب والعدول عن اللهجة الحادة من جانب إردوغان قد يكون مناورة وتبديلاً في الأسلوب، من دون المساس بالأهداف الاستراتيجية القديمة لسياسته التي يصفونها بـ«العثمانية الجديدة».

وبحسب الدبلوماسي التركي السابق سنان أولغن، فإن «الطريقة الوحيدة للحكم على نجاح السياسة الخارجية هي ما إذا كانت تساعد تركيا على حماية مصالحها الوطنية بشكل أفضل وعلى ضمان نمو اقتصادي أكثر استدامة… وفقاً لهذين المعيارين، لم يكن هناك نجاح كبير». أما المحلل السياسي أتيلا يشيل أدا، فينبّه إلى أن «إردوغان يحتاج بشدة إلى القيام بشيء ما لاستعادة شعبيته هذا العام»، لافتاً إلى أن «الاضطراب الاجتماعي، أو الانتخابات المبكرة، أو الانقسام في حزب العدالة والتنمية الحاكم برئاسة إردوغان… جميعها احتمالات قابلة للتحقق».

سعيد عبدالرازق

الشرق الأوسط