على الرغم من كل الحديث عن تغيير حالة الأمن القومي الأمريكي، إلّا أن الواقع هو أن تكثيف جهود مكافحة الإرهاب والتنافس مع روسيا والصين يمكن أن يعزز كل منهما الآخر بقليل من التخطيط الاستراتيجي.
تَميز نهج الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب ما بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر بموقف عالمي قائم على الدفاع الأمامي العدواني. وكما قال وزير الدفاع الأمريكي السابق روبرت غيتس، “من الأفضل محاربتهم على خط العشر ياردات لديهم بدلاً من مقاتلتهم على خط العشر ياردات لدينا”. وقد حقق هذا المشروع لمكافحة الإرهاب نجاحاً ملحوظاً من منظور تكتيكي، حيث أسفر عن إحباط هجمات وتعطيل شبكات إرهابية. وتتطلب الحماية من الهجمات المستقبلية تيقظاً وحذراً مستمرين، ولكن بعد مضي ما يقرب من عشرين عاماً على أحداث 11 أيلول/سبتمبر، هناك إجماع متزايد على أن موقف الدفاع الأمامي الذي تنتهجه الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب غير مستدام مالياً وغير متوازن استراتيجياً مع احتياجات الموارد الخاصة بتهديدات الأمن القومي الأخرى. وقد اتفقت الإدارتان الأمريكيتان السابقتان على وجوب قيام الولايات المتحدة بتقليص وجودها العسكري في جميع أنحاء العالم، وعكْسْ النموذج القائم منذ وقت طويل لنهج مكافحة الإرهاب العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة ويمكّنه الشركاء، وتركيز جهودها على الجماعات الأكثر قدرة على استهداف الوطن [الأمريكي]. وكما توضح “استراتيجية الدفاع الوطني” لعام 2018، فإن “التنافس الاستراتيجي بين الدول هو اليوم الشاغل الرئيسي للأمن القومي الأمريكي، وليس الإرهاب”. ولكن مع بدء إدارة بايدن في تنفيذ قرارها بسحب جميع القوات الأمريكية من أفغانستان، أثبتت ترجمة هذه الأفكار على أرض الواقع أنها هدف بعيد المنال.
“أخبِرْني أين يجب أن ننفق مواردنا”
تستحوذ الهجمات الإرهابية على انتباه الجمهور، فتؤدي إلى انحراف العملية السياسية بطبيعتها المتمثلة في تطوير الاستجابة الوطنية للإرهاب وتزويدها بالموارد، لا سيما بمرور الوقت. إلّا أن الولايات المتحدة تواجه مجموعة واسعة من تهديدات الأمن القومي – البرامج النووية، والأمن السيبراني، والتحديات البيئية، والتجسس الأجنبي، والجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية، وأمن الانتخابات، والدول الفاشلة، على سبيل المثال لا الحصر – والحقيقة هي أن عقوداً من الاستثمار للتصدي لتهديد حاد يمكن أن يأتي، بمرور الوقت، على حساب الاستثمار في مواجهة تهديدات أخرى بنفس القدر من الإلحاح. وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2019، قال القائم بأعمال “مدير المركز الوطني لمكافحة الإرهاب” [في الولايات المتحدة]، راسل إي ترافرز، “لن نقضي على الإرهاب قط، ولكن تم إنجاز قدر هائل من الأعمال الهامة، مما يسهل إجراء محادثة حول المخاطر المقارنة”.
في عام 2013، أصدرت إدارة أوباما تعليمات للبنتاغون بالتركيز على آسيا، إلا أن هجوم بنغازي عطّل هذه الخطط. فبدلاً من نقل الجنود من أفريقيا إلى آسيا، أرسل باراك أوباما في النهاية المزيد من الموارد إلى أفريقيا أكثر مما كانت عليه قبل التحوّل إلى التركيز الجديد. ولم تكن النتيجة تحولاً نحو آسيا بل نحو أفريقيا، والذي وصفه بعض المسؤولين بأنه “استدارة 360 درجة نحو آسيا”. وفي عام 2016، دعا الرئيس أوباما إلى تبني “نظرة طويلة الأمد للتهديد الإرهابي”، والتي لا بد من أن تكون “استراتيجية ذكية قابلة للاستمرار”. وأضاف أن أساس إعداد استراتيجية مستدامة لمكافحة الإرهاب “يعتمد على إبقاء التهديد في إطاره الصحيح” وتجنب التجاوزات. وأكدت الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الإرهاب التي وضعها الرئيس دونالد ترامب أنه “كلما كان ذلك ممكناً، يجب على الولايات المتحدة تطوير مناهج أكثر كفاءة لتحقيق أهدافنا الأمنية، والاعتماد على حلفائنا للقضاء على الإرهابيين والإبقاء على الضغط المستمر ضدهم.” ويعني ذلك التعاون لكي تأخذ الحكومات الأجنبية زمام المبادرة حيثما كان ذلك ممكناً، والعمل مع الآخرين لكي يتمكنوا من الاضطلاع بالمسؤولية في الحرب ضد الإرهابيين.
وإدراكاً منها أن الأحداث التي تزامنت مع عهد أوباما طغت على جهود إدارته الرامية إلى اعتماد مثل هذا الإطار، أصدرت إدارة ترامب سلسلة من الوثائق الاستراتيجية للأمن القومي في محاولة لتوفير إطار لمثل هذه المقاربة. ولكن عندما يتعلق الأمر بمكافحة الإرهاب، قدمت الاستراتيجيات توجهاً استراتيجياً متضارباً. وفي حديثه في شباط/فبراير2017، طرح رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية الجنرال جوزيف إي دانفورد إطار عمل “4 + 1” يعمل على توجيه وزارة الدفاع لتحديد أولويات التهديدات الدولية والقدرات اللازمة لمواجهتها. وتتعلق الأولويات الأربع الأولى بالمنافسة الاستراتيجية مع الصين وروسيا، يليها التهديدان الإقليميان اللذان تطرحهما إيران وكوريا الشمالية. أما مكافحة الإرهاب والتطرف العنيف فتمثلا بـ “زائد واحد” في إطار “4 + 1”.
وفي السنوات التي تلت ذلك، ساد الارتباك في النقاش الدائر حول كيفية تفعيل هذا التحول المعلن من حيث تخصيص الموارد أو تحديد أولويات المهام. ولم يؤدِّ إنتاج ثلاث استراتيجيات للأمن القومي غير متوائمة إلى حد كبير أثناء إدارة ترامب سوى إلى تفاقم المشكلة. وعلى حد تعبير مسؤول أمريكي سابق رفيع المستوى في مكافحة الإرهاب، “أتحدى أي شخص بأن يقرأ “استراتيجية الأمن القومي”، و”استراتيجية الدفاع الوطني”، و”الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الإرهاب” ويخبرني أين يجب أن ننفق مواردنا”. وفي غضون أسابيع من تولي بايدن منصب الرئاسة، أصدرت إدارته ورقة توجيهية مؤقتة لاستراتيجية الأمن القومي، تشير فيها إلى الحاجة إلى “مواجهة التحديات ليس فقط من القوى العظمى والخصوم الإقليميين، ولكن أيضاً من الجهات العنيفة والإجرامية غير التابعة للدول والمتطرفين”، من ضمن تهديدات أخرى بدءً من التغير المناخي وإلى الأمراض المعدية وغيرها. ولكن على غرار استراتيجيات إدارة ترامب، تفتقر هذه الورقة الإرشادية المؤقتة إلى توجيهات بشأن كيفية تخصيص موارد محدودة لمواجهة هذه التهديدات.
مكافحة الإرهاب كعملة في تنافس القوى العظمى
في نظر البعض، يمكن للولايات المتحدة إما الاستعداد للمنافسة بين القوى العظمى أو خوض “حروب هامشية” في أماكن مثل سوريا أو اليمن التي هي من مخلفات حرب على الإرهاب عفا عليها الزمن، وليس كليهما. وفي الواقع، على الرغم من كل الحديث عن التحوّل بعيداً عن مكافحة الإرهاب ونحو المنافسة بين القوى العظمى، فإن الحقيقة هي أنه من خلال تأمين حد أدنى من التخطيط الاستراتيجي، تعزز هذه الجهود بعضها البعض، ولا تلغي الواحدة الأخرى. وتُعدّ عمليات الانتشار العسكرية القليلة الضرورية للمحافظة على موقف فعال لمكافحة الإرهاب الطرف النقيض لـ “الحروب اللامتناهية” من حيث الحجم والتكلفة والمخاطر، ويجب السعي إليها لدعم التحالفات الدولية والحلفاء المحليين. وإلى جانب قيمة هذه التحالفات في مكافحة الإرهاب، فإنها ستثبت أهميتها في صد المنافسين ذوي القوة العظمى والمشابهة.
ويتطلب التنافس العالمي مع دول أمثال روسيا والصين أن تأخذ الولايات المتحدة بعين الاعتبار ليس فقط مجموعة المصالح الخاصة بها ولكن أيضاً احتياجات وتصورات التهديدات الخاصة بشركائها المحليين. فالتركيز على تنافس القوى العظمى فحسب في علاقة الولايات المتحدة مع الدول الأخرى قد يؤدي إلى تجاهل مخاوف تلك الدول المتعلقة بمكافحة الإرهاب (وغيرها من المخاوف)، والتي غالباً ما تكون من بين أولوياتها القصوى. وكما يشير بريان مايكل جينكينز، إنّ “المساعدة في مكافحة الإرهاب هي عملة”. ويمكن من خلال هذه العملة شراء نوايا حسنة وشراكات متمحورة حول مجموعة واسعة من المصالح الأخرى، بما فيها تنافس القوى العظمى. والعكس صحيح أيضاً: إذا رفضت الولايات المتحدة مساعدة الدول الأخرى على تلبية احتياجاتها المتعلقة بمكافحة الإرهاب، فذلك يخلق فراغاً ستملؤه دول مثل روسيا والصين، أو إيران وتركيا. ولن تتدخل هذه الدول بطرق مفيدة، بل ستستخدم قوة محدودة لتحقيق تأثير هائل. ويوضح وزير الخارجية الأمريكي انتوني بلينكن أن مفتاح التعامل مع الصين “يأتي أولاً وقبل كل شيء من العمل بالتنسيق الوثيق مع الحلفاء والشركاء الذين قد يكونون متضررين بالمثل من بعض ممارسات الصين. وعندما تعمل الولايات المتحدة على افتعال معارك مع حلفائها عوضاً عن العمل معهم، فإن ذلك يضعف قوتها في التعامل مع الصين”. ويمكن أيضاً الاستفادة من علاقات مكافحة الإرهاب مع الدول التي تعتبر تلك المسألة الهاجس الأمني الرئيسي لها لأغراض أخرى، بما في ذلك تنافس القوى العظمى.
لنأخذ على سبيل المثال أنشطة مكافحة الإرهاب الأمريكية في أفريقيا، التي تمثل حوالي 0.3 في المائة من أفراد وموارد الميزانية الخاصة بوزارة الدفاع وتتضمن بشكل أساسي أدواراً تدريبية وإرشادية. ففي كانون الأول/ديسمبر 2019، وفي إطار المراجعة التي أجراها وزير الدفاع الأمريكي مارك إسبر لعمليات الانتشار العالمية، قدم “مقترحات لخفض كبير في عدد القوات الأمريكية، أو حتى سحبها بالكامل من غرب أفريقيا”، مع التركيز على “الدفع باتجاه تقليل البعثات التي تم إرسالها ما بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر لمحاربة الجماعات الإرهابية، وبدلاً من ذلك إعادة تركيز أولويات البنتاغون على مواجهة ما يسمى بالقوى العظمى مثل روسيا والصين”. وقبل بضعة أشهر فقط من ذلك التأريخ، في آذار/مارس 2019، أدلى الجنرال توماس والدهاوزر، قائد “القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا” (“أفريكوم”)، بشهادته أمام الكونغرس الأمريكي، مفيداً أن “التهديدات التي نعمل ضدها لا تشكل بالضرورة تهديداً للوطن [الأمريكي] وقد لا تشكل تهديداً للمنطقة ككل”. وعلى الرغم من النقص المزمن في عدد أفرادها، شهدت “أفريكوم” تخفيضات وصلت إلى 10 في المائة من قواتها في القارة الأفريقية، من أجل التصدي لتحديات أمنية في أماكن أخرى. وهنا ننتقل بسرعة إلى كانون الأول/ديسمبر 2020، عندما وجهت وزارة العدل الأمريكية لائحة اتهام ضد مواطن كيني بتهمة التآمر لاختطاف طائرة من أجل تنفيذ مخطط إرهابي على غرار هجمات 11 أيلول/سبتمبر بالنيابة عن جماعة “الشباب” الإرهابية التي تتخذ من الصومال مقراً لها. وتتطور هذه التهديدات بسرعة عندما يعمل الإرهابيون في ملاذات آمنة نسبياً، مما يقوض فعالية الاختبار الحاسم للتهديدات اللاحقة بالوطن [الأمريكي].
وسواء كان تنظيم «القاعدة» أو «الدولة الإسلامية» أو الجماعات الإرهابية الأخرى في أفريقيا تشكل تهديداً مباشراً للوطن الأمريكي اليوم أم لا، فقد أصبحت أفريقيا بؤرة إرهابية سريعة النمو، حيث تتضاعف حوادث التطرف العنيف في منطقة الساحل كل عام منذ 2015. ومن الحماقة الانتظار إلى أن ينتشر هذا التهديد ويشكل فجأةً تهديداً للوطن [الأمريكي] قبل اتخاذ قرار بالانخراط بشكل ناشط للمساعدة في مكافحة الإرهاب في أفريقيا. ويمكن أن تكون هذه الجهود بقيادة الشركاء ويتم تمكينها من قبل الولايات المتحدة مع التركيز على الاستفادة من القدرات الاستخباراتية الفريدة للولايات المتحدة، ولا تتطلب بالضرورة نشر أعداد كبيرة من الجنود. ومن المؤكد أن عليها التركيز ليس فقط (أو حتى بشكل أساسي) على الدعم العسكري بل على بناء القدرات المدنية لمكافحة الإرهاب. إن البدء في إعادة الانتشار من أفريقيا، وهو أمر صغير وميسور التكلفة وفعّال، بشأن الحاجة إلى التحول نحو تنافس القوى العظمى، يبدو غير منطقي نظراً لأن القارة الأفريقية تشكل مرتعاً للأنشطة الروسية والصينية.
ليست جميع عمليات الانتشار “حروباً لا نهاية لها”
بالعودة إلى عام 2020، أشار قائد “القيادة المركزية الأمريكية”، الجنرال ماكنزي، إلى أن “روسيا والصين استغلتا الأزمات الحالية والإقليمية، والاحتياجات المالية واحتياجات البنى التحتية، والتصور حول تراجع المشاركة الأمريكية، والفرص التي أتاحتها جائحة فيروس كورونا (“كوفيد-19″)، لتعزيز أهدافهما في جميع أنحاء الشرق الأوسط”. وتقدم سوريا، على وجه التحديد، مثالاً واضحاً آخر على انتشار عسكري صغير وغير مكلف وقليل الخطورة أنتج مكاسب كبيرة في مجال مكافحة الإرهاب ومنع انتشار صراع إقليمي خطير. وفي المقابل، “كان الدافع الأساسي للكرملين في سوريا هو الحد من النفوذ الأمريكي في الشؤون العالمية وإبراز المكانة الخاصة للكرملين كقوة عظمى، وليس محاربة الإرهاب”.
وتُعتبر البعثة التي تقودها الولايات المتحدة في شرق سوريا، والتي تنطوي على مشاركة كبيرة من الشركاء الدوليين والمحليين، الركن الأساسي في الجهود المستمرة التي يبذلها التحالف الدولي لمحاربة العناصر المتبقية من تنظيم «الدولة الإسلامية» ومنع عودته في أعقاب هزيمته في المنطقة في آذار/مارس 2019. وبحلول أواخر عام 2019، قام حوالي 2000 عنصر من “القوات الخاصة” الأمريكية في سوريا بإرساء قوة محلية قوامها حوالي 60 ألف مقاتل سوري لمحاربة تنظيم «الدولة الإسلامية». كما تدعم القوة الأمريكية في سوريا الجهود الحالية لاستهداف عناصر تنظيم «القاعدة» في سوريا، بمن فيهم أولئك الذين ينوون تنفيذ هجمات تستهدف المصالح الأمريكية، مثل تنظيم «حراس الدين». وفي أيلول/سبتمبر 2020، أسفر هجوم أمريكي بطائرة بدون طيار بالقرب من إدلب عن مقتل قيادي بارز في تنظيم «القاعدة»، الذي وفقاً لبعض التقارير كانت شبكته تخطط لشن هجمات ضد أهداف غربية، من بينها الولايات المتحدة. وتشكل القوات الأمريكية في قاعدة “التنف” العسكرية أيضاً حصناً ضد القوات الروسية والإيرانية وتلك التي تعمل بالوكالة عن إيران. إن سحب القوات الأمريكية المنتشرة على نطاق صغير في سوريا – والذي أعلن الرئيس ترامب عدة مرات أنه يعتزم القيام به – قد يخلق فراغاً في السلطة ستملأه روسيا. على سبيل المثال، بعد وقت قصير من تخلي القوات الأمريكية عن قاعدة عسكرية بالقرب من حلب، استولت القوات الروسية على المنشأة التي بنتها الولايات المتحدة. ووفقاً لكل المقاييس، تتواجد السياسة المتعلقة بسوريا عند تقاطع التحديات التي تواجهها الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب وتحديات المنافسة بين الدول. ويقول المنسق السابق للتحالف الدولي ضد تنظيم «الدولة الإسلامية»، بريت ماكغورك، “باختصار، إن الحملة الأمريكية ضد تنظيم «داعش» ليست – ولم تكن أبداً – «حرباً لا نهاية لها» أسوةً بتلك التي شجبها ترامب في خطابه عن «حالة الاتحاد» في شباط/فبراير 2019”.
وفي حديثه في آب/أغسطس 2020، توقع قائد “القيادة المركزية الأمريكية” الجنرال كينيث ماكنزي جونيور أن تحافظ القوات الأمريكية وقوات “حلف شمال الأطلسي” (“الناتو”) على “وجود طويل الأمد” في العراق، ليس فقط لمحاربة تنظيم «الدولة الإسلامية» ولكن أيضاً لردع أنشطة إيران ووكلائها في العراق. وتُعتبر عمليات الانتشار هذه ضرورية لاحتواء التهديدات والتحقق من أنشطة الجهات الحكومية، مع بناء قدرة الشركاء المحليين للإضطلاع بهذه المهام بمفردهم. وبحلول شباط/فبراير 2021، أوضح الجنرال ماكنزي هذه النقطة: “هدفنا في المرحلة القادمة هو الاستمرار في تطوير قدرة شركائنا المحليين على مواصلة القتال ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» في مناطقهم وتمكين هذه القدرة دون مساعدة خارجية”.
يتمثل أحد المظاهر الشائعة بشكل متزايد لتنافس القوى الاستراتيجي بين الدول في استخدام الوكلاء المتشددين والإرهابيين. لنأخذ مثلاً الدور الواسع للميليشيات الشيعية في سوريا التي تعمل بالوكالة عن إيران وروسيا، أو الميليشيات الشيعية التي تعمل بالوكالة عن إيران في العراق، أو المرتزقة الروس الذين يقاتلون في ليبيا بدعم لوجستي من الحكومة الروسية، أو تقديم روسيا مكافآت للمقاتلين الأفغان مقابل قتلهم جنود أمريكيين في أفغانستان. وقد استخدم المتمردون الانفصاليون في أوكرانيا أسلحة متطورة تلقوها من روسيا، في حين مكّنت إيران “الحوثيين” في اليمن من نشر صواريخ أرض-أرض وصواريخ مضادة للسفن موجهة بدقة، وتنفيذ هجمات “سربية” مسلحة بطائرات بدون طيار. وتضمن هجوم إيران على منشآت النفط السعودية في بقيق طائرات بدون طيار أطلقتها جماعات مسلحة شيعية في العراق، بينما سلطت هجمات الطائرات بدون طيار التي استهدفت السعودية عام 2021 الضوء على الأنشطة العملياتية المتكاملة بشكل متزايد لوكلاء إيران في العراق واليمن. وفي الواقع، تشير جماعات مثل «حزب الله» إلى اهتمام أمريكا في التحول إلى تنافس القوى العظمى مع روسيا والصين كدليل على أن الولايات المتحدة قد تفكر في التعامل مع الجماعات المسلحة بشكل مختلف. ولكن أي جهد للتعامل مع إيران يجب أن يتصدى لحرب طهران غير المتكافئة في المنطقة الرمادية بين الحرب والسلام. وسيشمل صد المغامرات الروسية والصينية في جميع أنحاء العالم مجالات العمليات التي يمكن فيها لأدوات مكافحة الإرهاب وشراكاتها أن تلعب أدواراً حاسمة في تنافس أوسع بين الدول.
وبينما تقوم إدارة بايدن بمراجعة السياسات الحالية لمكافحة الإرهاب، يجب أن تبذل كل ما في وسعها لعدم النظر إلى كل من مكافحة الإرهاب وتنافس القوى العظمى من منظور ثنائي قائم على النصر أو الهزيمة، بل كجهود مستمرة – بخلاف الحرب والسلام – تُستخدم فيها أدوات فتاكة وغير فتاكة لمنافسة الخصوم وعرقلة الأعمال الإرهابية. وفي إطار أي عملية إعادة تنظيم، سيستمر الجيش الأمريكي في الاضطلاع بأدوار حاسمة في مكافحة الإرهاب، من خلال توليه زمام القيادة في الحالات التي يهدد فيها الإرهاب الوطن [الأمريكي] أو مصالح الولايات المتحدة في الخارج، ودعم الجهود التي يقودها الشركاء في أماكن أخرى حول العالم. ومع ذلك، يجب اتخاذ هذه القرارات بشكل استراتيجي واستناداً إلى قائمة الظروف التي يمكن في ظلها نشر الأصول العسكرية الأمريكية في الخارج، ضمن مناوبات صغيرة ولكن غير محددة زمنياً أو ضمن قوات رد سريع تضطلع بأدوار قيادية أو داعمة. ويمكن أن تشمل الأمثلة التهديدات اللاحقة بالوطن [الأمريكي]، أو فرص مكافحة الإرهاب منخفضة التكلفة وذات الأرباح الكبيرة، أو خطر رفض المشاركة في جهود مكافحة الإرهاب الذي يمكن أن يؤدي إلى تكاليف مرتبطة بتنافس القوى العظمى.
وقد تكون البعثات الصغيرة لمكافحة الإرهاب في أماكن مثل أفغانستان والعراق وسوريا وأفريقيا ضرورية لمنع الجماعات الإرهابية من السيطرة على الأراضي أو التخطيط لهجمات خارجية انطلاقاً من ملاذات آمنة للإرهابيين. ولا ينبغي أن تنطوي عمليات الانتشار هذه بعثات بقيادة الولايات المتحدة؛ إذ يمكن أن تدعم مبادرات يقودها الشركاء مثل عملية “برخان” بقيادة فرنسا في منطقة الساحل. وفي العراق، حيث ينتشر 2500 جندي أمريكي، أعلن حلف “الناتو” عن خطط لزيادة انتشاره العسكري من 500 إلى 4000 جندي وتوسيع مهمته التدريبية إلى خارج بغداد. وحتى في أفغانستان، من المرجح أن تسعى حكومة كابول إلى الحصول على تمويل أمريكي من أجل الإبقاء على المتعاقدين الغربيين للمساعدة في تلبية مجموعة متنوعة من الاحتياجات الملحة، بما فيها الأمن. وعادةً ما تلعب هذه النقاط الساخنة أيضاً أدواراً مهمة في تنافس القوى العظمى. وبينما يعمل فريق بايدن على تطوير تقرير “التوجيه الاستراتيجي للأمن القومي” الذي أصدره حديثاً، فمن الأفضل أن يدرك أن التداخل بين مخطط “فين” لمكافحة الإرهاب وتنافس القوى العظمى يقدم فرصاً أكثر من التحديات.
ماثيو ليفيت
معهد واشنطن