التقارب التركي-المصري: أبعاده وإمكانياته ومستقبله

التقارب التركي-المصري: أبعاده وإمكانياته ومستقبله

تمر دول منطقة الشرق الأوسط حاليًّا بمجموعة من التغيرات الدولية والإقليمية، وهي مرحلة يمكن أن توصف بأنها مرحلة لإعادة تقييم السياسات، وتتسم باللقاءات والحوارات الدبلوماسية بين مختلف الأطراف. وقد شهدت المنطقة المصالحة الخليجية في مدينة العلا السعودية، في يناير/كانون الثاني 2021، وميلاد حكومة وفاق جديدة في ليبيا، وتفاهمًا فلسطينيًّا داخليًّا على إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وبدء محادثات الاتفاق النووي مع إيران في فيينا، كما أشارت مصادر عدة مؤخرًا إلى وجود حوار إيراني-سعودي بوساطة عراقية. وأرسلت تركيا رسائل مشجعة على التقارب لعدة أطراف إقليمية؛ حيث تبادلت تركيا التهاني مع الإمارات فضلًا عن تعيينها سفيرًا جديدًا في أبوظبي بالإضافة إلى انفتاح أنقرة على الاتحاد الأوروبي وحواراتها الاستكشافية المستمرة مع اليونان. وعلى صعيد العلاقات بين تركيا ومصر، تبادلت القاهرة وأنقرة مبادرات تشير إلى تزيد مؤشرات التقارب بين البلدين.

إعادة التقييم
كجزء من عملية إعادة تقييم استراتيجي جديد، يوجد لدى تركيا إرادة لفتح صفحة جديدة في سجل السياسة الخارجية التركية ابتداء من العلاقات الدولية مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وصولًا إلى الأطراف الإقليمية، مثل: السعودية ومصر والإمارات، وقد بدأت تركيا بالفعل في إجراء اتصالات دبلوماسية مع هذه الأطراف تتفاوت في درجة تقدمها مع كل دولة.

أمام الضغوط السياسية والاقتصادية التي تعرضت لها تركيا داخليًّا وخارجيًّا، وتكوُّن جبهات مناهضة لها مثل جبهة شرق المتوسط، والتي سبَّبت حالة من العزلة، اضطرت تركيا للمناورة بين التحدي والمواجهة تارة والحوار والدبلوماسية تارة أخرى لتجاوز هذه العزلة. ولكن شخصيات قريبة من الدولة التركية تعتبر أن “انعدام الخيارات” أو “التخلي عن السياسات الخاطئة” ليس المحفز الرئيسي لإعادة عملية إعادة تقييم علاقات تركيا الدولية بشكل عام، وأرجعت المحفز الرئيسي وراء ذلك هو تعزيز المكاسب التي حققتها تركيا في ليبيا وأذربيجان وسوريا وشرق المتوسط خلال السنوات الماضية(1).

وقد يكون هذا التحليل صحيحًا، ولكن ما لا يمكن إنكاره هو العمل على استثمار فرص التغيير في الظروف الدولية. يمكن القول بأن هذا التحرك يرتبط بحالة من إدراك التغيير المحتمل في السياسة الأميركية مع قدوم إدارة بايدن والتوجس الإقليمي من تبعات هذا التغيير وقيام الأطراف الإقليمية بالتهيؤ للتعامل معه. وفي هذا السياق، فإن تركيا ترى أن العمل على تحسين العلاقات لم يكن يتعلق برغبة تركيا وحدها، فالأطراف المحاورة على الطرف الآخر أصبحت أيضًا جاهزة لفتح صفحة جديدة، كما أنه ربما كان يتوجب على تركيا أن تدفع فاتورة تطبيع أكبر في مرحلة ترامب(2).

وضمن هذا الإطار، بدأت تركيا بالمبادرة لترتيب علاقاتها أو الاستجابة والتفاعل مع مبادرات الأطراف الأخرى التي أرسلت رسائل راغبة بتحسين العلاقات في ظل سماح البيئة الإقليمية.

مؤشرات التطبيع في العلاقات التركية-المصرية
ظهر الحديث عن حدوث تواصل تركي-مصري على المستوى الأمني، في أغسطس/آب 2020، بعد اضطرار البلدين للحوار حول مستقبل الأوضاع في ليبيا وفي سياق التوافق المصري/اليوناني حول مناطق الصلاحية الاقتصادية في البحر المتوسط عندما استغرب الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، من توقيع مصر واليونان اتفاقًا حول مناطق الصلاحية البحرية في البحر المتوسط، وقال أردوغان: “أجد صعوبة في فهم الموقف المصري تجاه هذا الموضوع، لأن مصر عن طريق الاستخبارات تقول لجهاز استخباراتنا شيئًا آخر، يوجد سوء فهم ويوجد فائدة من تصحيحه”. وقد حمل حديث أردوغان بُعدًا إيجابيًّا عندما أكد أن التواصل على مستوى الأجهزة الاستخبارية ماض وسيستمر(3).

وإذا أردنا أن نحلِّل خطاب أردوغان في هذه النقطة فلابد من استحضار ما تحدث به أردوغان حول الفرق بين نظرة الشعب المصري إلى كل من تركيا واليونان على مدار التاريخ ودعوته للقيادة المصرية لإدراك نظرة الشعب المصري وتجنب التحرك بعيدًا عنها فيما يتعلق بالعلاقة مع تركيا. ومع أن ذلك أعطى انطباعًا بأن الحوار لا يزال فقط حول مناطق الصلاحية البحرية وتداعيات توافق مصر واليونان إلا أن تلك الفترة احتضنت لقاءات ورسائل مهمة حول ليبيا خاصة بعد أن اعتبرت مصر في يونيو/حزيران 2020 سرت خطًّا أحمر بعد هزيمة حفتر في طرابلس من قوات حكومة الوفاق المدعومة من تركيا. وقد جنَّبت هذه اللقاءات التي حاولت استطلاع الخيارات المستقبلية والمخاوف الأمنية، سوء الفهم وتدهور الموقف، كما أنها كانت حتمية في ظل عدم استعداد أي طرف للمواجهة العسكرية مع الآخر.

وبالفعل، استمرت اللقاءات على المستوى الاستخباراتي، وذاعت -في سبتمبر/أيلول وأكتوبر/تشرين الأول 2020- أنباء عن نجاح اللقاءات بين وفدين استخباريين من البلدين في التوصل لهدنة إعلامية كإجراء لكسب الثقة ومقدمة تمهيدية للقاءات دبلوماسية على مستوى أعلى.

ومع ذلك، بدا أن نظرة تركيا أكثر اتساعًا من تجنب تقوية العلاقات المصرية-اليونانية بصورة تتعارض ومصالحها. وأبدت أنقرة بشكل واضح رغبة في التحرك الإيجابي تجاه مصر على المستوى الإقليمي. وقد جاء على لسان الناطق باسم الرئاسة، إبراهيم قالن، التركيز على الأبعاد الإقليمية عندما أكد: “إذا أظهرت مصر إرادة التحرك بأجندة إيجابية في القضايا الإقليمية، فإن تركيا مستعدة للتجاوب مع ذلك”(4). وبالطبع، كان الموضوع الليبي حيث تحضر فيه تركيا بقوة في قلب هذا المشهد، ووفقًا لقالن، فإن “مصر يمكن أن تلعب دورًا بنَّاء في ليبيا وهذا أمر يسعد تركيا”(5).

وبعد قرابة أربعة إلى خمسة أشهر من هذه التصريحات تم قراءة وجود التنسيق في خلفية المشهد الليبي بعد الاتفاق على مجلس رئاسي جديد في ليبيا، في فبراير/شباط 2021، وولادة حكومة وفاق جديدة برئاسة عبد الحميد دبيبة حيث يُعتقد أن رفض مصر أو تركيا كان سيحبط هذه العملية(6). وفي اللقاءات التي جرت بين الطرفين، المصري والتركي، طمأن الجانب التركي نظيره المصري بخصوص بعض الملفات التي تقلقه وخاصة فيما يتعلق بوجود مقاتلين سوريين موالين لغرب ليبيا وأنه مستعد للتعاون في خروجهم من ليبيا(7).

ثم تكثفت المؤشرات على مواصلة عملية التطبيع التركي-المصري التي تطورت من المستوى الاستخباراتي إلى المستوى الدبلوماسي، وقد برز ذلك في إعلان وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، في 12 مارس/آذار 2021، أن الاتصالات الدبلوماسية بين تركيا ومصر قد بدأت وبدون شروط مسبقة من الطرفين.

وقد تُوِّجت هذه الجهود بتوجه وفد دبلوماسي تركي برئاسة سيدات أونال، مساعد وزير الخارجية التركي (وهو دبلوماسي له خبرة كبيرة في قضايا المنطقة)، بزيارة إلى القاهرة، في 5 مايو/أيار 2021، امتدت ليومين للبدء في المباحثات الاستكشافية التي أعلن عنها وزير الخارجية التركي، في 15 أبريل/نيسان 2021، تلبية لدعوة مصرية لزيارة القاهرة للتفاهم على الخطوات اللازمة لتطبيع العلاقات.

لقد كان لافتًا تسمية الطرفين، وفقًا للبيانات الرسمية، هذه المحادثات بالمحادثات الاستكشافية، وهي تعني أنها ستركز على الخطوات الضرورية، مع وجود مخاوف من عدم نجاحها، كما أن ذلك قد يعني بالنظر إلى المحادثات الاستكشافية التركية مع اليونان (وصلت إلى 61 لقاء استكشافيًّا حتى الآن) أنها ستتواصل حتى في حال عدم التوصل لتفاهمات على كافة ملفات النقاش.

صدر بيان مشترك مقتضب بعد لقاء القاهرة أشار إلى أن المحادثات كانت “صريحة ومعمَّقة؛ حيث تطرقت إلى القضايا الثنائية فضلًا عن عدد من القضايا الإقليمية، لاسيما الوضع في ليبيا وسوريا والعراق وضرورة تحقيق السلام والأمن في منطقة شرق المتوسط”. ويبدو أن هناك خلافات وعقبات مهمة لا تزال عصية على الحل بين الطرفين، وقد أشارت بعض المصادر إلى أن منها موضوع وجود تركيا العسكري وبعض القوات التابعة لها في ليبيا، بالإضافة إلى تسليم قادة الإخوان الموجودين بتركيا إلى مصر(8).

ويمكننا من خلال الجدول التالي الإشارة إلى أبرز مؤشرات عملية التطبيع بين البلدين خلال الأسابيع القليلة الماضية وقبل توجه الوفد الدبلوماسي التركي للقاهرة:

الحدث

التاريخ

نشر خرائط مناقصة مصرية للتنقيب عن البترول في البحر المتوسط تحترم الادعاء التركي بالجرف القاري وترحيب تركي.

18 فبراير/شباط 2021

تصريحات وزير الخارجية التركي عن إمكانية توقيع اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع مصر.

3 مارس/آذار 2021

العرض التركي للمساعدة في أزمة السفينة الجانحة في قناة السويس.

26 مارس/آذار 2021

بيان الخارجية التركية للتعزية بضحايا حادث قطار سوهاج.

26 مارس/آذار 2021

تصريحات رئيس جمعية الأعمال التركية-المصرية عن الاستعداد لتطوير التجارة بناء على التطورات الدبلوماسية.

7 أبريل/نيسان 2021

شكر رئيس الوزراء المصري للرئيس التركي على جهوده في رئاسة مجموعة الثماني الإسلامية.

8 أبريل/نيسان 2021

إجازة مقدمي أبرز برامج قنوات المعارضة المصرية في إسطنبول قبل شهر رمضان.

9 أبريل/نيسان 2021

تعزية رئيس البرلمان التركي بضحايا حادث قطار سوهاج.

10 أبريل/نيسان 2021

اتصال وزير الخارجية التركي بنظيره المصري للتهنئة بشهر رمضان.

10 أبريل/نيسان 2021

تصريحات تركية حول الترتيب لزيارة وفد دبلوماسي تركي إلى مصر بدعوة مصرية.

15 أبريل/نيسان 2021

حزب العدالة والتنمية يقدم مقترحًا للبرلمان التركي لإنشاء لجنة صداقة تركية-مصرية(9).

20 أبريل/نيسان 2021

يمكن القول: إن عملية متدرجة بدأت من منتصف العام 2020 واستمرت على مدى عام كامل مع خطوات طمأنة وترميم للثقة التي تدهورت على مدار 7 سنوات. ويُلاحَظ من الجدول السابق الذي أعده الباحث أن وتيرة مؤشرات التقارب قد تزايدت خلال شهري مارس/آذار وأبريل/نيسان 2021؛ مما يشير إلى تبلور أسس عودة العلاقات بين البلدين.

دوافع التطبيع
فوز بايدن: هناك عدة دوافع لعملية تطبيع العلاقات التركية-المصرية وعلى عدة مستويات، فعلى المستوى الدولي، أدى فوز المرشح الديمقراطي، جو بايدن، بسباق الرئاسة الأميركي إلى تخوف دول المنطقة من عودة سياسة الانسحاب والتردد الذي مارسته الإدارة الأميركية في عهد أوباما؛ مما جعل الأطراف الإقليمية تتجه لمقاربات حلول المشاكل الإقليمية سعيًا لتجنب تكاليف الأزمات. وفي هذا السياق، يُذكر أن كلًّا من تركيا ومصر كان لديهما رغبة في فوز ترامب وكان لقيادتهما علاقة جيدة نسبيًّا معه، على عكس بايدن الذي لا يزال لدى الطرفين توجس من رؤيته للمنطقة.
كان قدوم بايدن ونظرته للمنطقة وللملف النووي الإيراني أحد الدوافع المهمة للمصالحة الخليجية، التي جرت في 5 يناير/كانون الثاني 2021، في مدينة العلا السعودية بين قطر والكتلة الرباعية التي قطعت العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية معها وكان من بينها مصر نفسها، ويُعتقد أن هذه المصالحة قد هيأت حالًا أفضل لكل من تركيا ومصر للتفاهم على اللقاءات والحوار على الأقل.

تركيا وتفكيك الجبهة المناهضة: من زاوية أخرى، تشكَّلت جبهة واسعة مناهِضة لتركيا شرق المتوسط ضمَّت اليونان (المدعومة من الاتحاد الأوروبي) وقبرص الجنوبية وفرنسا ومصر وإسرائيل وقوات حفتر، ودعمتها دول أخرى، وقد شكَّلت هذه الدول، في مطلع عام 2019، منتدى غاز شرق المتوسط الذي استُبعدت منه تركيا بالرغم من أنها صاحبة أطول ساحل في منطقة شرق المتوسط، وكان مقر المنتدى في القاهرة. ورأت أنقرة أن الروابط بين مكونات هذه الجبهة تتماسك أكثر فأكثر بمرور الوقت وخاصة مع تبني أنقرة لسياسة المواجهة، وأن هذا المسار قد يكرِّس عزلة أنقرة السياسية والاقتصادية ويهدد مكاسبها وبالتالي فقد كان من الضروري من وجهة نظر أنقرة أن تعمل على حلحلة الروابط بين مكونات هذه الجبهة من خلال التركيز على المصالح المشتركة بين تركيا وبين بعض مكوناتها مثل مصر(10).
مصالح مصر: على المستوى الإقليمي، لم يكن لمصر كدولة مكاسب جيوسياسية ملموسة من عملية تموضعها في تكتلات مناهضة لتركيا بل على العكس كان يمكن لمصر أن تحصل على مكاسب أكبر من خلال التفاهم مع تركيا، على سبيل المثال، على حدود مناطق الصلاحية البحرية (تقول تركيا: إن اتفاق مصر معها على ترسيم الحدود البحرية يُكسب مصر 11 ألف كيلومتر مربع في شرق البحر المتوسط)، كما يوفر التعاون مع تركيا استقرارًا أكبر في ليبيا، جارة مصر الغربية، خاصة في ظل اختلاف وجهات النظر بين مصر وعدد من الأطراف الإقليمية الأخرى، وهو ما حرصت تركيا على إيصاله لمصر من خلال طمأنتها فيما يتعلق بأي تخوفات على أمنها القومي في ليبيا وتحديدًا مع وجود مصلحة للقاهرة بتجنب التشتت في ظل أزمة مصر مع إثيوبيا حول سد النهضة.
تثبيت المكاسب التركية: اعتُبرت تركيا طرفًا رابحًا في معركة طرابلس وهزيمة حفتر، وأصبحت لاعبًا قويًّا في ترتيب الأوضاع في ليبيا مع وجود حكومة صديقة في طرابلس تحافظ على التزامها بمذكرة التفاهم حول مناطق الصلاحية البحرية، ومع طمأنة مصر على أمنها -خاصة شرق ليبيا- تريد تركيا أن تثبِّت مكاسبها في ليبيا من خلال لعبة الربح للجميع وتجنب المحصلة الصفرية، وهنا يكمن مركز فكرة الانفتاح على الحوار وحتى القفز إلى مكتسبات جديدة من خلال الحوار والتعاون.
الانعكاسات والتحديات
تَعتبر تركيا مصرَ جزءًا أساسيًّا مشتركًا في جبهتين عملتا بشكل مناهض لها: إحداهما: الجبهة المناوئة للربيع العربي بعد 2013، والثانية: جبهة شرق المتوسط التي بدأت تتشكل في 2018. ومن المؤكد أن عدة قضايا على طول هذه المساحة الإقليمية ستتأثر بطبيعة تطور العلاقات التركية-المصرية. وعلى الصعيد الثنائي، لا تبدو هناك أزمة كبيرة بين البلدين. وفيما يتعلق بقضية المعارضة المصرية في إسطنبول، فقد طالبت أنقرة هذه القنوات بالالتزام بقواعد المهنية تجاه مصر، وضبط الخطاب الإعلامي، ولكنها لم تقم بإغلاقها، كما قال وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو: إن بلاده ما زالت تعارض تصنيف النظام المصري للإخوان المسلمين “جماعة إرهابية”، رغم المساعي في الآونة الأخيرة لإصلاح العلاقات المتوترة بين البلدين، مضيفًا أن أنقرة تعتبر “الإخوان المسلمين” حركة سياسية. وفي هذا السياق، لن يشكِّل هذا الموضوع مشكلة بالنسبة لمصر إذا اعتبرت أن المعارضة لم تعد تشكِّل خطرًا وجوديًّا على النظام في مصر، وإذا رأت القاهرة أن الاجراءات التركية لضبط المعارضة كافية، ولكن سيتضح هذا الأمر خلال الحوارات القادمة. ومن جانب آخر، يبقى تأكيد تركيا على إبقاء العلاقات في مستوى أقل من مستوى الرؤساء عائقًا مهمًّا أمام تقدم العلاقة(11).

أما على صعيد الاتفاق على مناطق الصلاحية البحرية، فإن هناك حديثًا عن احتمال توقيع مصر وتركيا لاتفاق على مناطق الصلاحية البحرية، ولكن من المرجح أن يتم هذا بعد عملية تبادل السفراء والتي من المرتقب أن يتم التفاهم عليها خلال اجتماع مايو/أيار القادم مع الوفد الدبلوماسي التركي في القاهرة. ومن المرجح أن تستمر اليونان في ممارسة دور ضاغط على مصر لمنع التوصل إلى اتفاق بحري مع تركيا.

وحول الجبهة المتشكلة شرق المتوسط، فإن تركيا ستكون أمام تحدي في حلحلة الروابط الأمنية والعسكرية التي تطورت منذ 2019، وقد رأينا خلال الأيام الماضية توقيع إسرائيل واليونان أكبر صفقة عسكرية في تاريخهما حيث ستقوم شركة “إلبيت سيستمز” الإسرائيلية بتشغيل مركز تدريب للقوات الجوية اليونانية وفقًا لعقد قيمته حوالي 1.65 مليار دولار، ويشمل ذلك تزويد اليونان بطائرات تدريب وصيانة أسطولها الجوي. كما شاركت السعودية خلال العام الحالي في مناورات عسكرية مع اليونان، وقامت الإمارات بإرسال طائرات إلى اليونان للمشاركة في مناورات عسكرية في أغسطس/آب 2020(12).

فيما يتعلق بالقضايا الإقليمية، يُعتقد أن الحوار الليبي شهد إمكانية حصول تفاهم على الحد الأدنى، ولكن لا تزال الأوضاع المؤقتة في ليبيا وصولًا للانتخابات المزمعة في ديسمبر/كانون الأول 2021 تحمل في طياتها احتمالات سلبية في ظل استمرار حالة عدم الثقة خاصة مع حفتر ومع بقاء احتمال أن يتحول عدم رضا بعض الأطراف الخارجية من النتائج المرتقبة إلى دعم سلبي مجددًا. ويُعتقد أن الطرفين، المصري والليبي، معنيان حاليًّا بدعم الاستقرار في ليبيا. ووفقًا لبعض المصادر، فقد كانت العلاقة مع مصر موضع مباحثات بين رئيس الوزراء الليبي، عبد الحميد دبيبة، والوفد التركي الذي زار طرابلس، في 3 أبريل/نيسان 2021، حيث يرغب دبيبة في الحفاظ على علاقات جيدة مع الطرفين(13).

وتجدر الإشارة إلى أن مصر ليست مرتاحة على كل الأحوال لوجود عسكري تركي في جوارها الليبي؛ وبالتالي قد يكون مطلب مصر بخروج تركيا من ليبيا شرطًا لاستكمال الحوار حول بقية الملفات.

أما على صعيد الجبهة الإقليمية المعارضة للربيع العربي، فإن المصالحة الخليجية واستعداد تركيا ورسائل الانفتاح مع الإمارات والسعودية يجعل احتمال نجاح الحوار والتفاهمات مع مصر أكبر نسبيًّا، ولكن لا ينفي ذلك وجود تحديات وعوائق، ولكن يرجح أن تركيا ستعمل على تليين الموقف مع كافة اللاعبين في هذه الجبهة قدر الإمكان حتى تسهِّل من عملية التطبيع مع مصر.

وفيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، يُعتقد أن التفاهم بين تركيا ومصر من شأنه أن يصب في مصلحة القضية الفلسطينية. وفي هذا السياق، علَّق رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، على التقارب التركي-المصري، مؤكدًا أنه يصبُّ “في مصلحة” فلسطين، فيما “ينعكس سلبًا أي صراع” بين الدول العربية والإسلامية على القضية الفلسطينية. وقد دعمت تركيا مباحثات حركتي حماس وفتح في القاهرة والتي أسفرت عن التوافق على انتخابات وطنية بعد تفاهمات أولية في تركيا أُطلق عليها: تفاهمات إسطنبول(14).

وحتى على مستوى أزمة سد النهضة بين مصر وإثيوبيا، لا يُستبعد أن تعرض تركيا على الطرفين لعب دور الوسيط لتقريب وجهات النظر خاصة أن تركيا تمتلك خبرة في ملف الشأن المائي كونها دولة منبع وقد عملت على حل خلافاتها مع العراق في هذا الجانب حتى الآن. ويُذكر أن رئيس الوفد الدبلوماسي التركي إلى مصر، سيدات أونال، قد شارك في جولات حوار تركي-إثيوبي خلال العام 2020.

يُعتقد أن عملية الحوارات الدبلوماسية المباشرة على مستوى مساعدي الوزراء خطوة جيدة في سياق التحضير لترتيب الملفات الثنائية، وكذلك ما يتعلق بالأمور الفنية بعد تحقق الضوء الأخضر السياسي؛ حيث يُتوقع أن يناقش الطرفان تفاصيل تبادل السفراء، والتفاصيل الفنية للاتفاقيات الثنائية وآليات العمل الجديدة لإدارة العلاقة بين البلدين.

وفي هذا السياق، من المنطقي أن يُطرح الملف الاقتصادي والتجاري. وبالرغم من أن هذا الملف لم يواجه الكثير من الصعوبات بسبب الخلاف السياسي حيث تُعتبر القاهرة أكبر شريك تجاري إفريقي لتركيا وقد بلغ حجم التجارة بينهما 4.86 مليارات دولار في 2020 إلا أن الطرفين سيحرصان على العمل على مضاعفة وتطوير التعاون الاقتصادي والتجاري في ضوء التحسن السياسي(15).

خاتمة
كان واضحًا أن التواصل التركي-المصري بدأ من المستوى الاستخباراتي ثم انتقل بعد مدة تحضيرية بلغت العام تقريبًا إلى المستوى الدبلوماسي مما يشير إلى وجود أرضية مشتركة لمستوى جديد من الحوار. ويمكن القول: إن مؤشرات التفاهم المتزايدة بين تركيا ومصر في الآونة الأخيرة من أجل ترميم الثقة المتدهورة على مدى السنوات الماضية تشير إلى نجاح في هذه المرحلة يشي بإمكانية إحداث مزيد من التقدم، من قبيل التفاهم على تبادل السفراء وترسيم الحدود البحرية وتعزيز العلاقات التجارية والاقتصادية ما لم تبرز عوائق جدية خلال المباحثات. ومع أن هذا التواصل قد يُفضي إلى تفاهمات أكثر في ملفات عدة، إلا أنه لا يعني حدوث تعاون واسع بين البلدين، لأن هناك تحديات وعوائق ذات امتداد إقليمي تراكمت خلال السنوات الماضية. ستحاول تركيا بإصرار مع مصر اختبار سياسة فصل الملفات التي طبقتها ونجحت فيها مع كل من روسيا وإيران. وعلى الأرجح، سيقبل البلدان بهذا المستوى وسيعملان على منع التدهور على الأقل في ظل وجود مصالح مشتركة للطرفين من تطور العلاقة. ومن ناحية تركيا، فإن تفاهمها مع مصر يعتبر حجر زاوية في الاستراتيجية التركية لتفكيك ترابط الجبهات المناهضة لها لأن مصر وُجدت في جبهة شرق المتوسط التي تكونت بعد 2018؛ حيث استضافت القاهرة منتدى غاز شرق المتوسط الذي استبعد تركيا، وفي الجبهة المناهضة لدور تركيا في الربيع العربي بعد 2013. وبالتالي من شأن التفاهم مع مصر أن يمنح تركيا راحة أكبر في العمل على مستوى الملفات الإقليمية، وكذلك ستعمل الأطراف المتضررة من هذا الأمر على إعاقة هذا المسار.

محمود الرنتيسي

مركز الجزيرة