شهدت القدس في العشر الأواخر من رمضان (2021) مواجهات كبيرة بين الفلسطينيين من جهة وقوات الشرطة الإسرائيلية -وأحيانًا بمشاركة عناصر التنظيمات اليهودية المتطرفة- من جهة أخرى؛ وهي المواجهات التي اصطلح الفلسطينيون على تسميتها “هَبَّة القدس”.
تفجرت المواجهات إثر ثلاثة تطورات رئيسة:
صدور قرارات قضائية إسرائيلية قضت بإخلاء 12 منزلًا فلسطينيًّا في حي “الشيخ جراح”، الذي يعد أحد أحياء القدس الشرقية، من قاطنيها وتسليمها للسكان اليهود.
إغلاق شرطة الاحتلال مدرجات حي “رأس العامود”، التي تعد من المعالم الوطنية الفلسطينية المهمة في القدس، والتي تمثل محطة يلتقي عندها الفلسطينيون المتجهون إلى الأقصى.
السماح للجماعات اليهودية المتطرفة بتنظيم مسيرات استفزازية في الأحياء الفلسطينية من المدينة واقتحام شرطة الاحتلال المسجد الأقصى.
أعادت الشرطة الإسرائيلية فتح مدرجات “رأس العامود” في مسعى منها لتطويق الاحتجاجات، وفرضت قيودًا قلَّصت من فرص إسهام المسيرات التي تنظمها الجماعات اليهودية في خلق بؤر احتكاكات مع المقدسيين في تفاقم التصعيد؛ لاسيما أن الحكومة تراجعت عن السماح للمستوطنين باقتحام المسجد الأقصى (10 مايو/أيار2021) وعدَّلت من خط سير مسيرة “الإعلام السنوية” التي ينظمها أتباع التيارات الدينية اليهودية المتطرفة، والتي تتم سنويًّا بمناسبة ما يُعرف بـ”يوم القدس”.
ويعتبر عدم تراجع إسرائيل عن قرار إخلاء المنازل الفلسطينية في حي “الشيخ جراح” السبب الرئيس الذي يؤجج الأوضاع في المدينة المقدسة، وقد تدخلت الحكومة الإسرائيلية لدى المحكمة العليا وأقنعتها بتأجيل صدور قرارها بالمصادقة على قرار المحكمة المركزية في المدينة بشأن إخلاء المنازل لمدة شهر، لكن الفلسطينيين اعتبروا الإجراء ليس كافيًا، لأن المحكمة العليا يمكنها أن تصادق في أي وقت لاحق على قرار الإخلاء، في حال قدَّرت سلطات الاحتلال أن ردَّة الفعل الجماهيرية لن تكون كبيرة بالحجم الذي يهدد بإشعال الأوضاع مجددًا في المدينة.
مخطط “القدس الكبرى”
الجدير بالذكر أنه سبق لسلطات الاحتلال أن طبقت قرارًا قضائيًّا بإخلاء منزلين في حي “الشيخ جراح” في 2008؛ إلا أن الفلسطينيين يرون أن قرار الإخلاءات الجديد في الحي يأتي في سياق مخطط إسرائيلي أوسع وأعمق يهدف لتهويد المدينة وتكريس السيطرة عليها، ويطلق عليه اسم “القدس الكبرى”، كانت قد وضعته الحكومة الإسرائيلية بالتعاون مع بلدية الاحتلال في المدينة في 2018، بُعيد إعلان الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل وقراره نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى المدينة. يرمي مخطط “القدس الكبرى” إلى تحقيق ثلاثة أهداف رئيسة:
أولًا: توسيع السيطرة اليهودية على الحيز الجغرافي في تخوم القدس لتكريس فصل المدينة عن محيطها الفلسطيني في الضفة الغربية عبر بناء طوق من المستوطنات يلف المدينة من الشمال والشرق والجنوب.
ثانيًا: الحفاظ على تفوق ديمغرافي لليهود؛ بحيث لا تقل نسبة تمثيلهم عن 72% من إجمال سكان المدينة مقابل 28% للفلسطينيين.
ثالثًا: تفتيت الوجود الفلسطيني في المدينة عبر إيجاد جيوب استيطانية يهودية في قلب الأحياء الفلسطينية داخل القدس الشرقية.
ويفسر السعي لتحقيق الهدف الثالث تحديدًا قرار إخلاء بيوت الفلسطينيين في حي “الشيخ جراح”، مع العلم بأن الجمعيات الاستيطانية رفعت دعاوى مماثلة للسيطرة على منازل في الأحياء الفلسطينية الأخرى في القدس الشرقية، والتي تشمل: البلدة القديمة، وسلوان، والطور، ورأس العامود، وبيت حنينا. لأن تكوين جيوب استيطانية في قلب الأحياء الفلسطينية المقدسية يمكِّن إسرائيل من قطع التواصل الديمغرافي والجغرافي الفلسطيني وتفتيته؛ وهي تفترض أن استقرار هذه الجيوب سيردع الفلسطينيين عن مواصلة البقاء في هذه الأحياء؛ ما سيساعد سلطات الاحتلال على استكمال مخطط تهويد المدينة.
بحسب اتفاقات أوسلو، فإن قضية القدس من قضايا الحل الدائم، والتي يجب أن تُبحث بين الطرفين في خطوة متقدمة في مسار عملية السلام المفترضة، لكن إسرائيل وجدت في إرجاء البحث في هذه القضايا الجوهرية ومنها ما يتعلق بالقدس، فرصة لتسريع تغيير الوقائع بالقوة على الأرض.
ارتبط توقيت تصعيد الإجراءات الإسرائيلية في القدس، بشكل أساس بتعاظم تأثير التيار الديني اليهودي المتطرف على دائرة صنع القرار في إسرائيل؛ وهو التيار الذي يُبدي حماسًا، استنادًا إلى منطلقات عقائدية، لإنجاز تهويد المدينة، كما عكست ذلك نتائج الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة.
فقد أسفرت هذه الانتخابات عن حصول تحالف حزب الصهيونية الدينية والحركة الكاهانية على تمثيل مهم في الكنيست؛ وهو التحالف الذي يدعم حركات الهيكل اليهودية التي تطالب ببناء الهيكل على أنقاض المسجد الأقصى. وعلى الرغم من أن هذا التحالف قد خاض الانتخابات في قائمة مستقلة إلا أنه ارتبط بتحالف مع حزب الليكود الذي يقوده رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، الذي جاهر بأن هذا التحالف سيكون ضمن أي ائتلاف سيشكِّله في المستقبل.
ومما يدل على دور هذا التحول السياسي في تأجيج الأوضاع في المدينة حقيقة أن إيتمار بن غفير، زعيم الحركة الكاهانية، أسهم بشكل خاص في استفزاز مشاعر الفلسطينيين عندما أصرَّ على تدشين مكتب ميداني له في قلب “الشيخ الجراح”، فضلًا عن أن أعنف المواجهات اندلعت في المدينة إثر المسيرات التي نظمتها في تخوم الحي منظمة “لاهافا” المتطرفة، التي يقودها بنتسي غوفشتين، وهو من قادة “الحركة الكاهانية”.
آليات التحرك الفلسطيني
ردَّ الفلسطينيون بالمواجهة الشعبية لقوات الاحتلال ما أجبر الأخيرة على فتح مدرجات “باب العامود” وتأجيل صدور القرار بإخلاء المنازل في “الشيخ جراح”، وإلغاء مخطط اقتحام الأقصى. كما ساند فلسطينيو الداخل المقدسيين من خلال المشاركة في المظاهرات التي نظَّموها والاعتصام في الأقصى إلى جانب تنظيم مظاهرات داخل إسرائيل. أما السلطة الفلسطينية فقد تعهدت بطرح ملف الإجراءات الإسرائيلية في القدس أمام محكمة الجنايات الدولية. أما حركة حماس وبقية الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة فقد قررت إرساء معادلة ردع جديدة، تقوم على الرد العسكري من القطاع على أي استهداف إسرائيلي للقدس؛ وهو ما اتضح في البيان الذي تلاه محمد الضيف، قائد الذراع العسكرية للحركة، ورئيس مكتبها السياسي، إسماعيل هنية. وقد أُطلقت من غزة (10 مايو/أيار 2021) عشرات الصواريخ على العمق الإسرائيلي، سقط بعضها في القدس المحتلة، وهو تطور لم يحدث إلا خلال الحرب التي شنَّتها إسرائيل على قطاع غزة في 2014، في حين شنَّت إسرائيل حملة عسكرية جوية على غزة فأوقعت، حتى تاريخ نشر التقدير، 28 شهيدًا، من بينهم 10 أطفال، وأكثر من مئة جريح.
خريطة مديات صواريخ القسام جناح حماس العسكري
رفض دولي للتهجير
يعد الأردن، الذي يحوز الحق في الإشراف على المقدسات الإسلامية في القدس بموجب اتفاق “وادي عربة”، الطرف الإقليمي صاحب القدرة الأكبر على التأثير على الأوضاع في المدينة. وإلى جانب تنديده بالخطوات الإسرائيلية واستدعائه السفير الإسرائيلي في عَمَّان، فقد زود الأردن السلطة الفلسطينية بوثائق تثبت ملكية العوائل الفلسطينية المهددة بالطرد من “الشيخ جراح” للمنازل التي تعيش فيها؛ إلى جانب إعلانه عن تحرك مشترك مع السلطة لوضع ملف حي “الشيخ جراح” أمام الجنايات الدولية. كما أصدرت معظم الدول العربية، وضمنها دول توصلت إلى اتفاقات تطبيع مع إسرائيل، بيانات تنديد بما يجري في القدس. وعلى الصعيد الدولي، فقد صدرت مواقف دولية قوية ضد قرار إخلاء البيوت في “الشيخ جراح”، كان أهمها، البيان الصادر عن “اللجنة الرباعية”، التي تضم الولايات المتحدة، وروسيا، والاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة، والذي طالب بالامتناع عن تنفيذ مخطط الطرد.
وقد قادت أحداث القدس إلى أول مواجهة دبلوماسية علنية بين إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، وإسرائيل التي طالبت واشنطن بعدم التدخل وعدم التعليق على سلوكها في القدس، وقد وصف رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي، مائير بن شابات، هذا الطلب بأنه “مكافأة للمشاغبين”.
توازن جديد
عدة عوامل رئيسية ترجِّح كفة وقف التصعيد العسكري بين حماس وإسرائيل وتراجع إسرائيل المؤقت عن مواصلة تهويد مدينة القدس. من جهة إسرائيل، أدت التطورات المتلاحقة إلى نشوء وضع دبلوماسي وعسكري يلحق بها أضرارًا كبيرة تفوق الجدوى من السيطرة على بعض المواقع في الشيخ جراح؛ فإلى جانب إسهام الأحداث في القدس في اندلاع مواجهة عسكرية كبيرة بين فصائل المقاومة بغزة وإسرائيل، فإنها أطلقت احتجاجات شعبية في الضفة الغربية ضد قوات الاحتلال رغم تدخل السلطة الفلسطينية أحيانًا لضبطها ومواجهتها في أحيان أخرى. كما أن شرارة الأحداث وصلت إلى المدن والبلدات الفلسطينية داخل إسرائيل، لاسيما المدن المختلطة، التي يعيش فيها جنبًا إلى جنب العربُ واليهودُ، سيما: اللد وحيفا ويافا.
ودبلوماسيًّا، فإن إسرائيل تخوض حملة دبلوماسية وسياسية مكثفة بهدف التأثير على توجهات الولايات المتحدة والقوى العظمى الأخرى بشأن العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، ومحاولة إقناعها بأن تأخذ بعين الاعتبار خطوطها الحمراء عند استئناف العمل بهذا الاتفاق، فليس من مصلحتها تسليط الأضواء على ما يجري في القدس وغزة والضفة الغربية بشكل يمس بمكانتها الدولية، سيما في ظل ما تنقله وسائل الإعلام الدولية من استهداف مباشر للمدنيين، وضمنهم أطفال في قطاع غزة.
داخليًّا، تشهد إسرائيل أزمة سياسية داخلية غير مسبوقة، بسبب العجز عن تشكيل حكومة على أساس نتائج الانتخابات الأخيرة، وهي الرابعة خلال سنتين، وليس لدى رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، شرعية داخلية قوية لخوض غمار حرب واسعة ضد قطاع غزة أو القيام بإجراءات أمنية في الضفة أو ضد فلسطينيي الداخل قد تفاقم الأوضاع سوءًا. لذا، فإن إسرائيل تواصل عمليات القصف في غزة وفي الوقت ذاته تسمح للأطراف الدولية والإقليمية بالتوسط بينها وبين حركة حماس. أما بخصوص الشيخ جراح، فكما جمَّدت إسرائيل تنفيذ قرار المحكمة بإخلاء قرية “الخان الأحمر” الفلسطينية في تخوم القدس لدواع أمنية، فإن بإمكانها تأجيل تنفيذ قرار إخلاء المنازل في “الشيخ جراح” إلى أمد بعيد في حال صدر.
فيما يتعلق بحركة حماس والفصائل الفلسطينية، فعلى الرغم من أن ردها العسكري على ما يجري في القدس قد قوبل بارتياح واحتفاء كبير في الرأي العام الفلسطيني، فإنها ستحرص ما استطاعت على عدم السماح لإسرائيل باستغلال التصعيد الحالي للمس بمقدراتها وكوادرها العسكرية، لاسيما أن سقف ردِّ حماس العسكري وغايته عودة الوضع في القدس إلى ما كان عليه في السابق. كما أن تحول المواجهة الحالية إلى مواجهة واسعة على غرار حرب 2014، التي تعمدت إسرائيل خلالها المس على نطاق واسع بالبنى التحتية والتجمعات السكانية الفلسطينية، سيولِّد الحاجة بعد انتهائها، إلى مشاريع إعادة إعمار فضلًا عن تفاقم الأوضاع الاقتصادية والإنسانية سوءًا في القطاع وتقلص هامش الحركة السياسي للحركة وحكومتها.
من هنا، فإنه من غير المستبعد أن تنجح جهود الوساطة التي تقوم بها مصر وقطر والأمم المتحدة حاليًّا في تطويق المواجهة ووضع حدٍّ لها. ولكن ما يجب أخذه بالاعتبار أن أطراف التصعيد تسعى للخروج منه بشروطها. بالنسبة للطرف الإسرائيلي، فهو معني برفع التكلفة البشرية لدى الطرف الفلسطيني، بتكثيف ضرباتها على القطاع، لتعزيز سياسة الردع التي يعتمدها في عقيدته الأمنية، وكذلك عدم تكريس أو الاعتراف بأية معادلة جديدة في الصراع خاصة تلك التي تربط غزة بالقدس. في حين أن هذه الأخيرة هي غاية حماس والفصائل في غزة، وستعتبر تراجع إسرائيل عن إجراءاتها بخصوص القدس نصرًا لها، وسواء نجحت المقاومة في أن تجعل ضمن شروط الهدنة المتوقعة تعهد إسرائيل بالتخلي عن تهويد القدس أم لا، فإن التحول الجديد هو أن إسرائيل ستأخذ في المستقبل بعين الاعتبار أن أية إجراءات قادمة لتهويد القدس قد تؤدي إلى احتجاج الفلسطينيين في غزة والضفة وداخل إسرائيل واحتمال أن تجدد المقاومة الفلسطينية شنَّ هجمات صاروخية للدفاع عن القدس، وقد ينشأ بذلك ميزان ردع جديد يقيد تصرفات إسرائيل في القدس.
مركز الجزيرة