يعدّ إيجاد أرضية مشتركة بين الحكومة الأفغانية وطالبان والمضي قدما لوضع نهاية للحرب المستمرة في أفغانستان منذ عقود، من أولويات الولايات المتحدة التي أعلنت أنها ستسحب كل قواتها من أفغانستان، غير أنه لا يبدو من السهل أن تقوم باكستان بدور مؤثر على طالبان كما كانت سابقا وقبل الغزو الأميركي لأفغانستان.
تُحسب الفرحة التي أبداها البعض من المسؤولين الأفغان فور إعلان واشنطن عزمها على الانسحاب من بلادهم بحلول سبتمبر القادم من قبيل التمهيد المعنوي لمرحلة من المرجح أن تشهد تنافسًا بين قوى إقليمية تتطلع إلى لعب أدوار فيما بعد الخروج الأميركي، لكنها لا تأخذ في الحسبان ما ينبغي القلق بشأنه بعد انسحاب قوة عظمى من الفناء الخلفي للجيش الباكستاني.
الترحيب الرسمي بالانسحاب الأميركي من قبل وزارة الخارجية الباكستانية والتغريدات التي نشرها عدد من المسؤولين في إسلام آباد، والتي تبالغ في التعبير عن انتصار تاريخي للباكستانيين، ليسا سوى أمنيات مغرقة في التفاؤل وإظهار الكيد للهند في سياق مقتضيات التنافس الإقليمي.
ولا تهتم هذه المواقف بقراءة مختلف الاحتمالات من وراء صعود طالبان كلاعب أساسي في المشهد الأفغاني حتى في ظل النفوذ المُفترض الذي تمارسه إسلام آباد على طالبان بالنظر إلى الدور الذي لعبته في جلب قادتها إلى طاولة التفاوض.
من الصعب إعادة الزمن إلى الوراء والقفز على الكثير من الوقائع والمتغيرات على الساحة، حيث جرت بنهر هذه المنطقة الحيوية مياه كثيرة طوال عقدين، ما يجعل تصور استعادة كامل نفوذ إسلام آباد على طالبان والوصول إلى علاقة نموذجية بين الطرفين كما كان عليه الوضع في تسعينات القرن الماضي في مرحلة ما قبل الغزو الأميركي لأفغانستان أمرًا مستبعدًا وخارج حدود المنطق.
تغيرت الأوضاع كثيرًا وبدلًا من ثلاث دول فقط اعترفت بطالبان قبل عشرين عامًا، من بينها باكستان، الآن تقيم الحركة الأفغانية علاقات وتجري اتصالات دبلوماسية مع معظم دول المنطقة، ومن ضمن ذلك أعداء سابقون مثل روسيا وإيران، مع الوضع في الاعتبار ما يضمره قادة طالبان لإسلام آباد من جراء الكثير من المواقف التي أحدثت شروخًا عميقة في العلاقة بين الطرفين ليس أقساها التعاون مع واشنطن في تقويض حكم الحركة الأفغانية والإسهام في تسليم وتصفية بعض قادتها وقادة القاعدة.
إذا كان البعض من المسؤولين الباكستانيين يروجون لإمكانية لعب إسلام آباد دور حارس البوابة لأفغانستان بعد رحيل القوات الأميركية والدولية، ففي المقابل تهدد عودة طالبان لممارسة السلطة في أفغانستان بحدوث اختلالات أمنية داخل باكستان نفسها، بالنظر إلى الإلهام الذي ستمثله استعادة طالبان للحكم وإقامة إمارة إسلامية لجماعات مثيلة بالداخل الباكستاني وفي مقدمتها حركة طالبان باكستان.
الفراغ الأمني الذي سينتج عن الانسحاب الأميركي والدولي من أفغانستان من شأنه تهديد دول الجوار جميعًا بما فيها باكستان، ما يعني ضرورة تعاطي إسلام آباد بحذر شديد مع هذه المرحلة الحرجة من عمر الصراع بالمنطقة، خصوصًا وأن البلاد تعيش أوضاعًا غير مستقرة جراء الوضع الاقتصادي المتدهور والاحتقان الاجتماعي وتنامي صعود الجماعات المتطرفة التي من المرجح أن تنتهز فرصة المتغيرات داخل أفغانستان للإفلات من محاولات احتوائها، وربما ما هو أكثر من ذلك.
تجد إسلام آباد في وجود حكومة صديقة لها في كابول ضرورة لمواجهة النفوذ الهندي في هذا البلد، ويُفترض أن يمكّنها الانسحاب الأميركي من قطع أشواط كبيرة في تقليص هذا النفوذ بالنظر إلى ما كانت تتمتع به الهند من علاقات قوية مع الحكومة الأفغانية الوطنية، علاوة على ما تأمله باكستان من استغلال تلك التحولات للانفراد مجددًا بصياغة سياسات المنطقة، عقب استيلاء حركة طالبان على السلطة أو على الأقل حصولها على حصة منها.
جلب قوة صديقة لإسلام آباد تنتمي لعرقية البشتون إلى السلطة في كابول من شأنه تعظيم مقدرتها على تثبيط مطالبات القومية البشتونية في باكستان بإقامة دولة باشتونستان المستقلة في سياق المحاولات الانفصالية التي تواجهها باكستان منذ أربعينات القرن الماضي وزادت خطورتها بعد تنامي نشاطات الجماعات المتطرفة وتشابك الطموحات العرقية مع سياقات أيديولوجية ومذهبية موجهة من قوى محيطة تتطلع إلى مد نفوذها بأدواتها الخاصة هي الأخرى.
وعلى مستوى حسن الظن والتعويل على العلاقات الجيدة بين إسلام آباد وحركة طالبان لن يخلو الأمر من قراءات وتصورات أخرى ليست مبنية على روابط تسعينات القرن الماضي ودعم الاستخبارات الباكستانية طالبان بالمال والسلاح وإيواء إسلام آباد لقادتها بعد سقوط نظام طالبان في ديسمبر 2001، وقبلها الإسهام في الهزيمة التي تلقّاها الاتحاد السوفييتي في أفغانستان والإطاحة بالحكومة المدعومة من موسكو.
هناك تأثيرات سلبية مناهضة لتأثيرات ما دار خلال الحرب الأهلية في تسعينات القرن الماضي عندما دعم الجيش الباكستاني مجموعة من المقاتلين الشباب ذوي النزوع المتشدد والذين عُرفوا فيما بعد بطالبان، للتغلب على الفصائل الأخرى وتأسيس حكومة بسطت سيطرتها على تسعين في المئة من أفغانستان، حيث لم ينسَ أغلب قادة وأعضاء الحركة الأفغانية تحول إسلام آباد ضدهم مع الغزو الأميركي عام 2001 واختيارها أن تكون مع الرئيس الأميركي جورج بوش حينئذ، حينما قال إما أن تكونوا معنا أو ضدنا.
الهجمات التي تعرضت لها باكستان على يد حركة طالبان باكستان طوال سنوات والتي راح ضحيتها آلاف الجنود كانت ثأرًا من موقف إسلام آباد ضد طالبان أفغانستان وعقابًا على اصطفاف الحكومة الباكستانية مع الأميركيين.
ولن تتوانى حركة طالبان باكستان بعد نجاح السلطات في الحد من نشاطاتها عن استغلال فرصة عودة الحركة الأفغانية التي تعتنق نفس أيديولوجيتها إلى الحكم لإثبات أنها الشريك الملائم لها على الجانب الباكستاني والمستحق لاستثمار انتصاراتها في مواجهة من خانها بالتعاون والتحالف مع واشنطن، خاصة وأن الحركة الباكستانية لا تخفي هذا التوجه وتكثف أنشطتها رغم القمع الشديد الذي تعرضت له في المناطق القبلية على الحدود مع أفغانستان.
الفراغ الأمني الذي سينتج عن الانسحاب الأميركي من أفغانستان من شأنه تهديد دول الجوار جميعًا بما فيها باكستان
ورجح وضع طالبان باكستان آمال كبيرة على التطورات في الساحة الأفغانية ما نشرته قبل أيام مؤسسة عمر الذراع الإعلامي لتحريك طالبان بشأن فشل مفاوضات سرية دارت بين إسلام آباد وطالبان باكستان، على الرغم من المزايا التي عرضتها الحكومة بشأن انسحاب الجيش من منطقة القبائل وإطلاق سراح جميع المعتقلين من الحركة والسماح لها بحراسة الحدود وتطبيق الشريعة في المناطق التي تسيطر عليها.
انهيار المفاوضات التي توسطت فيها شبكة حقاني دون إبداء أسباب وتخلي طالبان باكستان عن مكاسب بهذا الحجم مقابل وقف عملياتها والكف عن استهداف قوات الجيش، له علاقة بالتطورات على الساحة خاصة مع آمال المسلحين في باكستان المعقودة على الحصول على مكاسب أكبر مما هي ممنوحة لهم من الحكومة الباكستانية في بدايات تحولات مهمة بالمنطقة من المفترض أن يكون الجهاديون هم الرابحون فيها على غرار شركائهم بالساحة الأفغانية.
في حال تفجر حرب أهلية واسعة النطاق وعدم التوصل إلى تسوية سياسية بين حكومة كابول وحركة طالبان الأفغانية، وهو السيناريو المرجح عقب الانسحاب الأميركي، فإن الاصطفاف الباكستاني بجانب أطراف أفغانية والمفترض أن تكون طالبان سيواجهه اصطفاف قوى إقليمية منافسة كالهند بجانب الأطراف الأفغانية الأخرى وفي مقدمتها القوات التابعة للحكومة المحلية، ولن يُترك الصراع ليُحسم بسهولة لصالح القوى التي تدعمها إسلام آباد.
تساور الهند مخاوف اندلاع اضطرابات موسعة في كشمير عقب الانسحاب الأميركي والدولي من أفغانستان على غرار ما جرى عقب الانسحاب السوفييتي عام 1989 نظرًا لما هو متوقع من انتقال المسلحين المتشددين إلى كشمير باعتبارها الساحة المثالية لتنفيذ عملياتهم، علاوة على مخاوفها من فرضية تعزيز غريمتها باكستان نفوذها في الساحة الأفغانية عبر توطيد صلاتها بطالبان أفغانستان.
ولن تُعدم الهند آليات ووسائل تواصل بها التأثير على سير الأوضاع في هذا البلد لصالحها، وإذا كان انسحاب القوات الأميركية والدولية لا مفر منه فلا أقل من السعي لتأمين مواصلة المجتمع الدولي دعمه المالي للحكومة الأفغانية حتى لا تنهار وحتى تخلق التوازن المطلوب الذي يحول دون دخول المنطقة بأسرها في فوضى شاملة.
في حال إصرار طالبان أفغانستان وداعميها الإقليميين، وفي مقدمتهم باكستان، على المعادلة الصفرية وتحميل الهند كل الأعباء والخسائر لجني كل الأرباح والانفراد بالسلطة والنفوذ، فإن نيودلهي لن تقف مكتوفة الأيدي وستحرص ساعتها على أن يتساوى الجميع في الأعباء والخسائر وألا يخرج أحد رابحًا، ما يعني تفكيك أفغانستان بدلًا من هيمنة باكستانية عليها ما يعزز سيناريوهات انحدار أفغانستان نحو الفوضى التي سيترتب عليها تدفق ملايين اللاجئين الأفغان على قرى ومدن باكستان بما يعمّق معاناتها و يضاعف أزماتها الاقتصادية والاجتماعية.
براغماتية طالبان
تتسم رؤية بعض المسؤولين الباكستانيين بشأن التعامل مع مستجدات الوضع المعقد في أفغانستان بالبساطة، على الرغم من أن ما هو قادم أكثر تعقيدًا مما مضى؛ فهم يتصورون أن باكستان منتصرة بإعلان واشنطن انسحابها وفق الطرح القديم “انتصرنا على أميركا بأميركا” وأنها ستتابع التأثير على الساحة الأفغانية سواء انفردت طالبان بالسلطة أو اقتسمتها مع الحكومة المحلية.
ليس هناك ما يضمن بنسبة مئة في المئة كسب إسلام آباد رهانها على طالبان أفغانستان، والتي ستحرص دون شك ضمن مساعيها لاكتساب أرضية شعبية تزيد من فرص تحقيق أهدافها النهائية على إرضاء قطاع كبير من الشعب الأفغاني لا يثق بباكستان وينظر بريبة لصانعي القرار في إسلام آباد.
لم تصل العلاقة بين باكستان وطالبان أفغانستان يومًا في كل الأحوال إلى مستوى التحالف المحكم والصداقة الوطيدة المتصلة، بل هي متذبذبة وفق الظروف والمتغيرات من الوئام إلى العداء، وعلاوة على عدم القبول الشعبي في أفغانستان هناك تململ في معظم الأحيان داخل طالبان نفسها من استعلاء الباكستانيين وتدخلهم المستمر في شؤون الحركة.
طالبان أفغانستان التي لم توجه يومًا إدانة لطالبان باكستان ولم تتوقف رغم كل الضغوط ورغم ما وقعت عليه من تعهدات عن إيواء القاعدة، من المفترض أن تحرص على تشكيل مراكز قوى داعمة تشاركها نفس الأفكار والأيديولوجيات بجانب الولاء العقائدي لمواجهة خصوم مشتركين وفي مقدمتهم فرع داعش في باكستان وأفغانستان “ولاية خراسان”، ولهذا ليس بعيدًا أن تلجأ إلى توطيد صلاتها خلال المرحلة المقبلة مع طالبان باكستان التي سعت للحصول على ملاذ لها في أفغانستان بعد أن طردها الجيش الباكستاني.
العلاقة بين باكستان وطالبان أفغانستان لم تصل يومًا إلى مستوى التحالف المحكم والصداقة الوطيدة المتصلة، بل هي متذبذبة وفق الظروف والمتغيرات
تقتضي المرحلة الحالية والمقبلة انفتاح طالبان أفغانستان على خيارات متعددة بشأن علاقاتها وتحالفاتها وفق ما تقتضيه مصلحتها، ولن يتصرف قادتها بحسب ما يتصور البعض في باكستان وفق التوجيهات والأوامر الصادرة لهم من إسلام آباد.
من المرجح في هذا السياق أن تنتهج طالبان نهجًا براغماتيًا مع الدول والمحيط الإقليمي بالنظر للمتغيرات والاختلافات الكبيرة بين واقع اليوم وما كان قائمًا قبل عشرين عامًا، ما يجعلها حريصة أيضًا على عدم خسارة الهند وعدم الانحياز ضدها بالنظر لما يجمع الهند بأفغانستان من علاقات وأواصر تاريخية وعرقية وثقافية.
ما يعزز فرضية تبني طالبان لهذا النهج أنها لا تخطط لتصدير جهادها إلى الخارج ويقتصر نشاطها المسلح على تحقيق هدف تقويض خصومها المحليين والانفراد بالسلطة، ما يعني تجاهلها لأدوات باكستان من منظمات ومقاتلين أجانب يتمحورون حول الهند مثل عسكر طيبة وجيش محمد.
تتوافر المحفزات لدى طالبان أفغانستان لتصبح مستقلة عن إسلام آباد ولا تكون رهنًا لإرادتها في المستقبل ما يعزز شعبيتها ويمنحها القدرة على إدارة علاقاتها الإقليمية على أساس المصلحة وليس لحساب طرف إقليمي ضد آخر، حيث يشارك المعتدلون في الحركة رغبة غالبية الأفغان في إقامة علاقات متوازنة تحقق المصالح الأفغانية ولا مانع لديهم من اتخاذ الهند شريكًا إستراتيجيًا لموازنة نفوذ باكستان بالمنطقة.
النهج البراغماتي المُتوقع من طالبان بعد الانسحاب الأميركي سيصعّب الوضع على إسلام آباد، وربما يجد المسؤولون الباكستانيون حيال ذلك أن من مصلحتهم التعاون مع واشنطن بصورة مباشرة أو تكتيكية في مواجهة التهديدات المشتركة بالداخل الأفغاني.
العرب