سؤال طالما طرح بصيغة استنكارية تضمر معلومة مفادها أن هناك تعاونا، لا عداءً بين إيران وإسرائيل، وأن الطريقة التي يتم وفقها التعاطي مع المعلومات تتعكز على مختلف نظريات المؤامرة، وتكاد تكون مضحكة في أغلب الأحيان، إذ يتناول المطبلون في منصات الإعلام المقربة من الإمارات، ومن يسير في ركابها من دعاة التطبيع، العلاقة بين إيران وإسرائيل على إنها أمر مفروغ منه، وكأنهم عبر طرحهم هذا يستكثرون الأمر على من يريد أن يواجه الصلف الصهيوني، أو يسعون لتبييض مواقفهم التطبيعية، أمام شارعهم، عبر اتهام الآخر الرافض بأنه يخفي علاقاته مع الصهاينة.
سأحاول أولا تسليط بعض الضوء على هذا الموضوع الشائك، موضوع الصراع أو التنافس (الإسرائيلي – الإيراني) في منطقة الشرق الأوسط، كمدخل للإجابة على السؤال المركزي (لماذا تعادي إيران إسرائيل؟).
لا يخفى على أحد أن إسرائيل منذ نشوئها في أربعينيات القرن الماضي كانت حليفا استراتيجيا لإيران الشاه، الذي كان يعلب دور»شرطي الخليج» الذي لوح بعصى التهديد في وجه كل من حاول رفض السياسات الأمريكية في المنطقة، وبلغ التعاون بين البلدين في ستينيات القرن الماضي مراحل متقدمة، في قطاعات التسليح والطاقة والزراعة والتنمية، إذ عمل المئات، وربما الآلاف من الخبراء الإسرائيليين في إيران، وكان للسفارة الإسرائيلية في طهران، دور فاعل في رسم سياسات إسرائيل في المنطقة. ومع إطاحة الثورة الإيرانية نظام الشاه مطلع 1979، وصعود نجم مرشد الثورة السيد روح الله الخميني، انتكست علاقة النظام الجديد مع حلفاء النظام الملكي، إذ مشى صناع القرار في الجمهورية الإسلامية الوليدة بممحاة على كل خطوات النظام السابق وتحالفاته، في محاولة لمحو تاريخ إيران الملكية، والبدء بعصر الجمهورية الثورية، واتخذ الإسلاميون في طهران خطوة بدت ذات رمزية كبيرة، عندما طردوا كادر السفارة الإسرائيلية، وقطعوا العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل، وسلموا مبنى السفارة الإسرائيلية لمنظمة التحرير الفلسطينية، لتفتح سفارتها في طهران لأول مرة، وليبدأ شهر عسل طويل بين الفلسطينيين والنظام الجديد.
التعامل الساذج الذي يريد أن يسم المواقف بالأبيض أو الأسود، لا يمكن في أي حال من الأحوال أن يكون دقيقا
النقطة الأخرى المهمة، التي أحب أن أشير لها، هي مسألة الجالية اليهودية الإيرانية، إذ يتم الحديث عن الجالية اليهودية الكبيرة في إيران بطريقة سلبية، وذلك بالصاق شبهات تطبيع العلاقات بين البلدين بهذه الجالية، وهو كلام مضحك ومردود، على الرغم من حدوث هجرتين كبيرتين بين أبناء الطائفة اليهودية الإيرانية إلى إسرائيل، إلا أن هناك مجموعة نقاط يجب قولها، فوجود هذه الطائفة عريق ويمتد لأكثر من 2000 سنة، وقد هاجر منها حوالي 250 ألفاً في موجتين، الأولى مع تأسيس دولة إسرائيل 1947، والثانية عقب الثورة الإيرانية 1979، لكن بقي في إيران أكبر جالية يهودية في الشرق الأوسط خارج إسرائيل، وتضم اليوم حوالي 50 ألف يهودي، وهم يعيشون في ظل تسامح رسمي وشعبي في إيران، ويحظون بحقوق المواطنة، مثل بقية الطوائف الدينية الأخرى، كالمسيحية والزرادشتية والصابئة، ولهم ممثلوهم في الكوتا الدينية في البرلمان الإيراني، وتوجد اليوم في طهران 10 معابد يهودية ناشطة، أهمها كنيس «يوسف آباد» في طهران، وكنيس «أبريشمي» بالإضافة إلى مدارس ومكتبة ومستشفى يهودي مموّلة جزئيّاً من الأموال العامة، وهي تقدم خدماتها لكل أفراد المجتمع الإيراني وليست حكرا على أبناء الطائفة اليهودية.
ماذا يعني ذلك؟ يعني أن التعامل الرسمي الإيراني تعامل عقلاني مع المشكلة الفلسطينية، إذ توجه الحكومة الإيرانية والمجتمع الإيراني عداءهما للصهيونية وللسياسات الإسرائيلية، بينما تتسامح مع أبناء الطائفة اليهودية كديانة إبراهيمية يمكن لمعتنقيها التعايش مع الآخرين، في ظل شروط المواطنة الحقة. في المقابل يخلط الكثير من مجتمعاتنا بين اليهودية والصهيونية بشكل تعسفي، يصب في مصلحة إسرائيل ودولتها «العبرية» المزعومة. يزعق الكثير من المتعسفين بالكلمة السحرية لإثبات المؤامرة (الصهيوأمريكيصفوية) وهي فضيحة (إيران – كونترا) التي حدثت نهاية عام 1985، عندما باعت الولايات المتحدة الأمريكية لإيران، عبر وساطة إسرائيلية صفقات أسلحة، وهنا لابد من القول إن هذه الجزئية مهمة بتفاصيلها، وليس بعنوانها واسمها فقط، لذلك يجب تسليط بعض الضوء على تفاصيلها، إذ كانت إيران ذات التسليح الأمريكي تخوض حربا ضروسا ضد العراق، وكان قد مرَّ عليها خمس سنوات، وهي تحت طائلة العقوبات الأمريكية التي منعت تصدير الأسلحة لإيران، وكان الجيش الإيراني بحاجة ماسة، مع تصاعد موجات الحرب قبيل انتهائها، كما أن هنالك على هامش صفقة السلاح الإيراني ،صفقتين لا تقلان أهمية عنها، الأولى هي أزمة الرهائن الأمريكيين المختطفين في لبنان، وضغوط الشارع الأمريكي على إدارة ريغان، لإيجاد حل لهذه الأزمة، أما الثانية فهي أزمة دعم مقاتلي حركة كونترا اليمينية في نيكاراغوا، التي دعمتها إدارة ريغان لإطاحة حكومة الساندينستا الماركسية اليسارية الحاكمة في نيكاراغوا. تم الاتفاق على تحرير الرهائن بضغوط إيرانية على حلفائهم الشيعة في لبنان، مقابل الحصول على صفقة أسلحة تتكون من صواريخ هوك المضادة للطائرات، وصواريخ تاو المضادة للدروع، على أن تذهب أموال الأسلحة لدعم حركة كونترا، التي منع الكونغرس إدارة ريغان من تقديم الدعم المالي لها، ومنعها من التدخل في الشأن الداخلي لدولة أخرى، والتسبب في إطاحة نظامها، وعندما كشف الإعلام الصفقة تحولت إلى فضيحة عرفت إعلاميا بـ(فضيحة إيران كونترا) وتشكلت لجان تحقيق أمريكية وعوقب المتورطون بالفضيحة من إدارة ريغان، المفارقة أن من يدينون اليوم دولة تخوض حربا، وتعاني من شحة أسلحتها، يتناسون أن دولهم تغرق في المساعدات الأمريكية، وصفقات الأسلحة الغربية والشرقية، من دون أن يرف لهم جفن.
المفارقة في بعض مفترقات الوضع الشائك للصراع في المنطقة، أن الأعداء المتحاربين كانوا يرفعون شعارات «تحرير فلسطين» على طرفي جبهة القتال، فنظام طهران كان رافعا لشعار «تحرير فلسطين» ويرى أن هذا التحرير يجب أن يمر عبر إطاحة نظام صدام، وتصدير الثورة الإسلامية للعراق، ليكون بالنتيجة مقاطعة في جمهورية الولي الفقيه التي ستواجه الصهاينة. في المقابل نظام بغداد أيضا كان يرفع شعار «تحرير فلسطين» ويرى أن ذلك لن يتم إلا عن طريق إطاحة نظام الخميني في إيران، لأنه يمثل التهديد الأخطر للبوابة الشرقية للأمة العربية. إن التعامل الساذج الذي يريد أن يسم المواقف بالأبيض أو الأسود، لا يمكن في أي حال من الأحوال أن يكون دقيقا، لأن المساحات الرمادية المخاتلة في المواقف السياسية، تحتل حيزا واسعا لا يمكن القفز عليه أو إهماله، إن استراتيجية طهران في ظل نظام الولي الفقيه، تتمثل بالسعي لبسط نفوذها على منطقة الشرق الأوسط، ويمكننا قراءة الكثير من تصريحات القيادات الإيرانية التي تعلن ذلك، وتتبنى فكرة إقامة امبراطورية ايرانية ممتدة من أفغانستان إلى البحر المتوسط، هذه الطموحات بكل تأكيد اصطدمت وستصطدم بسعي تل أبيب لفرض نفوذها وسطوتها على الشرق الأوسط، ما خلق صراعا متأججا بين الطرفين، خاضته إيران غالبا عبر أذرعها الإقليمية في المنطقة، وردت إسرائيل على ذلك بعنف، وحاولت مرارا بتر هذه الأذرع، والتصعيد الأخير ضد حماس والجهاد الإسلامي في قطاع غزة، كان جولة من جولات الصراع بين الطرفين.
إن موقفنا تجاه سياسات إيران الإقليمية، وموقفنا الرافض لسياسات فصائلها الولائية وميليشاتها في العراق وسوريا ولبنان واليمن، لا يعطينا الحق باتهام هذه الفصائل، والقول إنها ذات موقف مداهن، أو مطبع، أو مدلس على الوجود الاسرائيلي، قد تكون هنالك تكتيكات، وصمت وعدم رد على تلقي الضربات الإسرائيلية، لكن ذلك لا يعني أن هذا الأمر هو مؤشر اتفاق بين الطرفين، بل هو موقف تكتيكي من إيران وحلفائها، ينتظر جولة يمكنه الرد فيها كما حصل في رد الفصائل الاسلامية الفلسطينية المدعومة إيرانيا في المواجهة الاخيرة. والمحصلة هي أن ترهات من يروجون لوجود حلف أو مؤامرة (اسرائيلية – امريكية – ايرانية) للسيطرة على المنطقة، لن تصمد طروحاتهم أمام ما يحصل على الأرض، لكنهم وبكل فجاجة ينظرون بعين عوراء إلى كلمة هنا، أو تصريح هناك لاثبات المؤامرة التي يروجون لها ويغمضون عينهم العوراء عن حقائق تطبيع أنظمتهم، ونوم ملوكهم وأمرائهم ورؤوسائهم في أحضان الإسرائيلي، وليس لهم في الحقيقة إلا شعار واحد «رمتني بدائها وانسلت».
صادق الطائي
القدس العربي