يعتقد الخبير الاقتصادي فاضل قبوب أن تونس عالقة في حلقة مفرغة لا يمكن تحملها، خاصة أن حجم الدَّين العام يتجاوز 100% من الناتج المحلي الإجمالي، في حين يعتقد خبراء آخرون أن تحقيق نسبة نمو اقتصادي إيجابي هذا العام أمر صعب للغاية حتى مع الاقتراض من صندوق النقد الدولي.
وفي مقالها الذي نشرته صحيفة “لوموند” (Le Monde) الفرنسية، قالت الكاتبة ليليا بليز إن تونس المثقلة بالديون في خضم مفاوضات مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض بقيمة 4 مليارات دولار. وهذه المرة الرابعة خلال عقد من الزمن التي تطلب فيها البلاد مساعدة مالية من هذه المؤسسة الدولية، بينما تلقي آثار جائحة “كوفيد-19” بظلالها بشكل كبير على الاقتصاد المتدهور.
وحسب فاضل قبوب -الأستاذ المشارك في الاقتصاد بجامعة دينيسون في أوهايو بالولايات المتحدة الأميركية ورئيس المعهد العالمي للازدهار المستدام- فإن مشكلة الديون التونسية هيكلية واللجوء إلى صندوق النقد الدولي لن يوفر سوى حلول قصيرة المدى.
هل هناك خطر للتخلف عن السداد؟
وحسب قبوب -المتخصص في السياسات النقدية والميزانية في العالم العربي- فإن هذا الاحتمال وارد لأن تونس مضطرة إلى دفع ديونها الخارجية بالعملات الأجنبية، التي وصلت إلى 30 مليار دولار. ولسداد ما عليها من قروض، تلجأ إلى احتياطياتها من العملات الأجنبية التي تغذيها الصادرات أو السياحة أو الاستثمار الأجنبي أو تحويلات المغتربين.
لكن نظرا لافتقار تونس لرصيد كاف من الاحتياطي الأجنبي، فهي تجد نفسها مضطرة للاقتراض مرة أخرى لسداد القروض السابقة. لهذا السبب، تونس عالقة في حلقة مفرغة من الديون. بالإضافة إلى ذلك، لم يعد بإمكانها حتى الاعتماد على بعض القطاعات المزدهرة مثل السياحة التي تراجع نموها خلال الجائحة.
ويتجاوز الدَّين العام اليوم 100% من الناتج المحلي الإجمالي، وهذه المرة الرابعة خلال 10 سنوات التي تطلب فيها تونس مساعدة صندوق النقد الدولي.
ماذا عن الميزان التجاري؟
يوضح قبوب أن على تونس استيراد الكثير من المنتجات الغذائية في ظل غياب الاكتفاء الذاتي، وينطبق الأمر ذاته على الطاقة. وينضاف إلى ذلك استيراد الكثير من المنتجات ذات القيمة المضافة العالية لتشغيل الصناعة، فضلا عن المعدات عالية التقنية مثل الهواتف الذكية وأجهزة الحاسوب.
في المقابل، تقوم البلاد بتصدير المنتجات ذات القيمة المضافة المنخفضة على غرار زيت الزيتون أو المنسوجات أو الكابلات الكهربائية أو الفوسفات. كل هذا يخلق خللا هيكليا في الميزان التجاري ويسلط ضغطا أكبر على قيمة العملة. وكلما انخفضت قيمة الدينار مقابل اليورو والدولار، زادت تكلفة الواردات وزاد حجم التضخم. وهذا بدوره يؤدي إلى ارتفاع الأسعار التي تلقي بظلالها على القدرة الشرائية للتونسيين.
لسوء الحظ -حسب تقرير صحيفة لوموند- في المفاوضات الحالية بين صندوق النقد الدولي والحكومة التونسية، لا يوجد اقتراح حقيقي لحل هذه القضايا الهيكلية، ولكن البحث جار عن حلول قصيرة المدى.
ما فائدة القروض التي أخذتها تونس حتى الآن؟
حسب ما أوضحه الخبير الاقتصادي قبوب، فإن الكثيرين يعتقدون أنه على تونس الاقتراض من صندوق النقد الدولي لتمويل ميزانية الحكومة، والتمكن من دفع رواتب موظفي القطاع العام، لكن هذه الرواتب لا تدفع بالدولار بل بالدينار التونسي.
في الواقع، لا تستخدم القروض التي تم التعاقد عليها مع صندوق النقد الدولي لهذا الغرض، بل تُعتمد من قبل وزارة المالية والبنك المركزي لحماية قيمة الدينار من الضغط الذي تفرضه الواردات الهائلة من الغذاء والطاقة، ناهيك عن تبعات العجز التجاري الهيكلية.
ومن بين العناصر الحساسة في التفاوض مع المانحين أجور العاملين في القطاع العام التي تمثل في الوقت الحالي ما يقارب 17% من الناتج المحلي الإجمالي.
ويقر قبوب بأن الاقتصاد التونسي طغى عليه مناخ من الكآبة خلال السنوات العشر الماضية، حيث فرض تراجع الاستثمار الأجنبي المباشر وانخفاض عائدات السائحين بالعملات الأجنبية وإيرادات التصدير بشكل عام عبئا ثقيلا على البلاد.
وأكد أن القطاع الخاص لم يستطع بعد الثورة استيعاب الوافدين الجدد إلى سوق العمل، ولا سيما الشباب المحبط الذي انتفض في عام 2011، وهذا ما يفسر الضغط المتزايد الذي سُلّط بعد ذلك على الحكومة لخلق فرص عمل جديدة. ولسوء الحظ، تم استخدام هذا الحل كعلاج مؤقت على المدى القريب دون وضع رؤية إستراتيجية لهذه المعضلة.
ويدعو صندوق النقد الدولي إلى تقليص أجور القطاع العام، لكن مثل هذا الإجراء يخاطر بأن يثير السخط على المستوى الاجتماعي، ولا سيما إذا تزامن مع إلغاء الدعم عن الغذاء والطاقة وبعض الخدمات الاجتماعية الأخرى، التي تعد من الشروط المذكورة في خطة الحكومة المقدمة إلى صندوق النقد الدولي للحصول على قرض.
يقول قبوب إنه حتى لو عاد نشاط قطاع السياحة وحجم الاستثمار إلى سالف عهده وإلى مستويات ما قبل الجائحة، فلن يكون ذلك كافيا. وللهروب من فخ الديون وتعزيز قدرة البلاد على الصمود أمام الصدمات الخارجية، ينبغي على تونس عدم إعادة تشغيل المحرك الاقتصادي نفسه بل تغييره بالكامل. ويجب أن تستثمر في الأمن الغذائي من خلال الزراعة المستدامة والطاقات المتجددة والتخصص في الصناعات التي تنتج سلعا ذات قيمة مضافة عالية.
معضلة الفساد
وذكر قبوب أنه رغم المكاسب التي حققتها الثورة، فقد كان من بين الأخطاء التي ارتكبتها الحكومة والأحزاب السياسية والمجتمع المدني عدم التفكير في تغيير نموذج اقتصادي كان رمزا للفساد وعدم المساواة والبطالة الجماعية.
فعلى سبيل المثال، تعد سياسات الاحتكار التي تمارسها جهات فاعلة معينة على الواردات في قطاعات على غرار الغذاء أو البناء أو السلع الاستهلاكية من الأسباب الرئيسية لارتفاع نسبة التضخم. وهذه الجهات نفسها مسؤولة عن تحديد الأسعار التي لا تتماشى بالضرورة مع الأسعار العالمية عندما تنخفض.
ويؤكد قبوب أن تونس تعاني من معضلة الفساد المستشري وسوء استخدام السلطة، والتي لم تتحرك الحكومة التونسية من أجل الحد منها. فخلال السنوات العشر الماضية، لم يكتسب الاقتصاد طابعا ديمقراطيا يسمح بتعزيز المنافسة المحلية، ولا سيما في مجالات إستراتيجية معينة.
وخلص قبوب إلى أن الارتماء في أحضان صندوق النقد الدولي يعد من التبعات الحتمية لعدم مراجعة النموذج الاقتصادي التونسي. وسيحتم ذلك البقاء في الحلقة المفرغة ذاتها. وحتى في ظل الأزمة الحادة التي تعاني منها تونس، لا توجد أي مبادرات حقيقية وفعالة للخروج منها.
كم تحتاج تونس من التمويل؟
منذ 18 مايو/أيار الجاري، بدأت تونس مفاوضات مع صندوق النقد الدولي بهدف حصولها على قرض جديد، مقابل تقديمها لبرنامج اقتصادي يتضمن إصلاحات أساسية من بينها إلغاء الدعم وتقليص كتلة الأجور.
وتقدر حاجة تونس من التمويلات بـ 18.5 مليار دينار (6.72 مليارات دولار) متوقعة في ميزانية 2021، ويمكن أن تصل إلى 22.5 مليار دينار (8.18 مليارات دولار)، نتيجة عدة عوامل من بينها ارتفاع سعر البترول.
والجمعة الماضي اعتبر محافظ البنك المركزي التونسي مروان العباسي أنه لا بديل عن التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، محذرا من أن لجوء الدولة إلى البنك المركزي لتمويل الميزانية سيخرج التضخم عن السيطرة.
ويعتقد خبراء في حديثهم لوكالة الأناصول أنه مع مواصلة السياسات والمقاربات نفسها في البلاد، فإن الوضع الاقتصادي لن يتغير، ويقولون إنه من المستحيل تحقيق الاقتصاد التونسي نسبة نمو إيجابية بحدود 3.9% هذا العام حتى لو تم الاقتراض من صندوق النقد.
وتوقعت الحكومة التونسية خلال وقت سابق من العام الجاري، تسجيل نمو نسبته 3.9% في 2021، بينما يتوقع صندوق النقد الدولي نموا بـ3.2% لتونس، مقابل انكماش بـ8.8% في 2020.
المصدر : رويترز + لوموند + وكالة الأناضول