أين سوريا من التغيرات الإقليمية في عهد بايدن؟

أين سوريا من التغيرات الإقليمية في عهد بايدن؟

عملية الترميم التي تقوم بها إدارة بايدن إزاء التخريب الكبير الذي لحق بالسياسة الخارجية الأمريكية في عهد سلفه ترامب، أدت إلى تغييرات ملحوظة في منطقتنا.
من كان يتوقع، قبل ستة أشهر فقط، أن ينطلق قطار المصالحات بين السعودية وقطر، أو مصر وقطر، أو مصر وتركيا، بعد سنوات من القطيعة والحصار والحروب الإعلامية المتبادلة؟ أو أن تلعب مصر دور الوسيط الدبلوماسي بين إسرائيل وحركة حماس لوقف الحرب الإسرائيلية على غزة؟ أو أن توافق تركيا ودولة الإمارات ومصر على وقف الاحتراب الداخلي في ليبيا؟
كل هذه التطورات حدثت، كأنما بعصا سحرية، من غير أن تبذل إدارة بايدن جهداً يذكر. بل على العكس، وضعت ثقلها لإبرام صفقة العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، وهو ما لا يرضي حلفاء الولايات المتحدة، إسرائيل والسعودية وحتى تركيا ودولة الإمارات ومصر. ووجهت انتقادات حادة بشأن وضع حقوق الإنسان في تلك الدول الحليفة، وأطلقت رسائل موجعة لتركيا باعترافها بالإبادة الأرمنية، ونشرت تقريرها الاستخباري بشأن اغتيال الصحافي السعودي المعارض جمال خاشقجي. بل من المحتمل أن هذه الرسائل والانتقادات هي مما دفع بقادة الدول الحليفة إلى محاولة تكييف بعض سياساتها بما يتماشى والتغيير السياسي الذي حدث في واشنطن، الأمر الذي يؤكد محافظة الولايات المتحدة على وزنها الكبير في السياسة الدولية، على رغم كل التحديات التي تشكلها القوى الصاعدة كالصين وروسيا وإيران وغيرها. بالمقابل نلاحظ أن أوروبا مستمرة في فقدان وزنها في السياسة الدولية، الأمر الذي أكثر ما لاحظناه في فرنسا حيث حاول ماكرون، منذ بداية عهده، أن يتظاهر وكأنه رئيس دولة عظمى لها وزن في المعادلات الدولية. حتى ألمانيا غير قادرة على ترجمة وزنها الاقتصادي إلى وزن سياسي راجح ودور مبادر وفعال.
الولايات المتحدة بإدارة بايدن، وعلى رغم ما ذكرناه من قدرتها على تحقيق أهدافها بلا أي جهد، كما توضح بعض الأمثلة فوق، لا تتصرف وكأنها القوة العظمى الوحيدة، بل تنحى أكثر إلى توطيد العلاقات مع الدول الحليفة، في أوروبا وبشكل خاص في آسيا، لمواجهة التمدد الصيني من غير المغامرة باتجاه الانزلاق إلى مواجهة عسكرية لا يريدها أحد. ومن المحتمل أن السعي الأمريكي إلى العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران يدخل، في أحد وجوهه، أيضاً في إطار تطويق التمدد الصيني الذي وصل إلى طهران عبر اتفاق التعاون الاستراتيجي بينهما.
ماذا عن سوريا؟
كتب وقيل الكثير عن استمرار الغموض في سياسة بايدن تجاه المشكلة السورية على رغم انقضاء خمسة أشهر على بداية ولاية بايدن. من المحتمل أن الأمر يتعلق بالسياسة الأمريكية تجاه روسيا (وإيران وتركيا) أكثر مما يمكن أن يكون سياسة متسقة بشأن سوريا بذاتها. هذا ما يفسر الاستمرارية في السياسة تجاه المشكلة السورية في عهدي ترامب وبايدن، بمفرداتها المعروفة: الحرب على داعش، دعم قوات سوريا الديمقراطية من خلال الاحتفاظ بقوة عسكرية رمزية في شرق الفرات، عدم الاعتراف بشرعية نظام بشار ومواصلة تطبيق العقوبات عليه، التوكيد على وجوب تنفيذ قرارات مجلس الأمن الخاصة بسوريا. بخلاف عهد ترامب يبدو بايدن وفريقه أكثر تشدداً ضد روسيا بوتين، الأمر الذي بلغ حدود طرد دبلوماسيين. يتعارض هذا مع التوقعات العامة بخصوص سياسة أكثر انضباطاً بالقياس إلى عهد ترامب.

روسيا بوتين تسعى بقوة إلى استدراج الأمريكيين لتفاهمات بشأن سوريا، في حين تكتفي واشنطن بما لديها، وليست على عجلة من أمرها كروسيا التي تريد إنهاء الصراع واستعادة الاستقرار

يمكننا إذن قراءة «السياسة السورية» لإدارة بايدن بدلالة مسالك واشنطن المحتملة تجاه القوى المتدخلة في الصراع السوري: روسيا وإيران وتركيا، وبدرجة أقل إسرائيل. التشدد الأمريكي ضد روسيا لا يمكن ترجمته في سوريا إلا بالاستمرار في سياسة منع التصادم العسكري بين قوات الطرفين. كان لافتاً، في هذا الإطار، التحرش الروسي بدورية أمريكية على الطريق m4 قبل أيام، وهو ما يمكن تفسيره بأنه نوع من «استدراج عروض» روسي. فإذا كانت سوريا غير موجودة على قائمة الأولويات الأمريكية، فهي تحتل مركزاً متقدماً على القائمة الروسية. روسيا بوتين تسعى بقوة إلى استدراج الأمريكيين لتفاهمات بشأن سوريا، في حين تكتفي واشنطن بما لديها، وليست على عجلة من أمرها كروسيا التي تريد إنهاء الصراع واستعادة الاستقرار، وصولاً إلى إخراج القوات الأجنبية من الأراضي السورية، وبخاصة الأمريكية.
أما إيران، فأولوية واشنطن هي العودة إلى الاتفاق النووي معها، وما يعنيه ذلك من عدم اكتراثها بإخراج الميليشيات التابعة لها من سوريا، برغم الضغوط الإسرائيلية والعربية المطالبة بذلك. من المحتمل أن يشكل استمرار الضربات الجوية الإسرائيلية لأهداف إيرانية في سوريا بديلاً عن أي جهد أمريكي يخص تقليص النفوذ الإيراني فيها. تلك الضربات التي لا فضل لواشنطن فيها، على أي حال، بل يعود الفضل فيها إلى روسيا.
بالنسبة لتركيا، من المتوقع أن يستمر الضغط الأمريكي الناعم على الرئيس أردوغان، كحاله منذ بداية ولاية بايدن. بايدن الذي اتصل بكل رؤساء الدول شاكراً تهنئتهم له، أخر اتصاله بنظيره التركي إلى 23 نيسان حين أبلغه بأنه سيعترف، في اليوم التالي، بالإبادة الأرمنية. وكان لافتاً أن رد أنقرة على هذا الاعتراف كان باهتاً جداً بالقياس إلى سوابق مماثلة بالنسبة لدول أوروبية. وبالنسبة لسوريا، لا تعتبر واشنطن نفسها معنية بالوجود العسكري التركي في إدلب وعفرين وريف حلب الشمالي، لكنها معنية حين يتعلق الأمر بشرقي الفرات حيث الوجود العسكري الأمريكي. وهنا ليس من المتوقع أن تطلب واشنطن من تركيا انسحاباً عسكرياً، لكنها لن تسمح أيضاً بتمددها. ثمة اجتماع مقرر بين بايدن وأردوغان، في الرابع عشر من شهر حزيران القادم، على هامش اجتماع قمة حلف شمال الأطلسي في بروكسل، من المحتمل أن يشكل فرصة لوضع إطار للعلاقات بين البلدين يشمل مختلف جوانبها، بما في ذلك وسائل معالجة القضايا الخلافية. أما بشار الكيماوي فهو قلق بشأن اقتراع عمه رفعت في باريس: ترى هل أعطى صوته لأحد منافسيه، عبد الله سلوم أو محمود المرعي، أم انتهى إلى مبايعته بعد طول اعتراض؟

بكر صدقي

القدس العربي