لم يشذّ بشار الأسد، في خطاب متلفز ألقاه بعد يومين من إعلان نتيجة انتخابات يأمل أن تبقيه في السلطة حتى عام 2028، عن سياسته المعلنة منذ بدء الثورة السورية في ربيع 2011، والقائمة على رفض أي مقاربات سياسية، يمكن أن تؤدي إلى حلول سياسية للقضية السورية. وحمل الخطاب العديد من الرسائل للداخل السوري، حيث بدا واضحاً أنه يدفع في اتجاه تعميق الهوّة بين السوريين أنفسهم، وللخارج، أبرزها أنه غير معني بأي حل سياسي خارج تصورات نظامه لهذا الحل.
أكد خطاب الأسد أنه اكتفى بما لديه من أراضٍ، ما يكرّس التقسيم الموجود على أرض الواقع
وصم بشار الأسد، في خطاب الجمعة الماضي، المعارضة السورية، بل كل السوريين الذين لا يوالونه بشكل أو بآخر بـ”الخيانة”، في رسالة واضحة بأنه غير معني بأي جهد سياسي من أي جهة كانت يمكن أن تؤثر على سلطاته المطلقة في حكم سورية. ولم يأت الأسد على ذكر العملية السياسية، ولم يشر إلى موضوع المعتقلين، أو المغيبين في سجونه، ولم يعِد على الإطلاق بأي إصلاح سياسي. وأكد خطابه أن العملية السياسية باتت وراء ظهره، وأن انخراطه في جولات حوار، طيلة السنوات الماضية، لم يكن سوى شراء وقت وصولاً إلى انتخابات 2021.
ووسّع الأسد، من خلال خطابه، الهوّة بين السوريين، موالين ومعارضين، حيث أطلق على معارضيه صفات جديدة تعزّز التمزق الكبير في النسيج المجتمعي السوري، حيث قسّمهم إلى موالين يمثلون ما سماه منذ سنوات بـ”المجتمع المتجانس”، ومعارضين هم بنظره خونة، حتى وإن حملوا جواز سفر سورياً. ومن الواضح أن الأسد كان يريده خطاب “نصر” بعد أكثر من 10 سنوات، حيث “المهمة أنجزت”، في إشارة الى الانتخابات، ومن ثم بقاؤه في السلطة لسبع سنوات مقبلة، يأمل خلالها باستعادة اعتراف إقليمي ودولي بحكمه كأمر واقع لا يمكن تجاوزه.
ويركن بشار الأسد على دعم سياسي وعسكري واقتصادي لم ينقطع من حليفتيه روسيا وإيران، اللتين أسرعتا في تهنئته بـ”الفوز”، إلى جانب كل من الصين وبيلاروسيا وفنزويلا، بينما أحجمت الدول العربية، بمن فيها التي لا تزال تحتفظ بتمثيل دبلوماسي في دمشق، عن توجيه تهانٍ معلنة. وأكد الخطاب، الذي قوبل من الشارع السوري المعارض بسخرية، أن الأسد تلقّى إشارات أن القضية السورية ليست ضمن أولويات إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، على الأقل في المدى المنظور، حيث تضع ثقلها كله في اتجاه إبرام اتفاق نووي جديد مع إيران. كما لم يأت بشار الأسد على ذكر المناطق السورية الخارجة عن سيطرته في شمال غربي البلاد، حيث الجزء الأكبر من مساحة محافظة إدلب، التي تقع تحت سيطرة “هيئة تحرير الشام” (هيئة النصرة سابقاً)، وفي الشمال حيث فصائل المعارضة السورية، وفي الشمال الشرقي أو “شرقي الفرات” الخاضعة إلى “قوات “سورية الديمقراطية” (قسد)، التي يمثل الأكراد عمودها الفقري.
ومن الواضح أن الأسد يدرك أنه ليس بمقدوره استعادة السيطرة على هذه المناطق عسكرياً، رغم أهميتها في إنقاذ اقتصاده المتهالك، وخاصة شرقي الفرات الغنية بالثروات والتي تعد منطقة نفوذ أميركية، لا يملك الأسد القدرة على تغيير الوقائع الميدانية الموجودة فيها حتى لا يثير رد فعل أميركي غاضب. وأكد خطاب الأسد أنه اكتفى بما لديه من أراضٍ، ما يكرّس التقسيم الموجود على أرض الواقع، حيث باتت سورية مقسمة إلى أربعة كيانات، تُدار من قبل 4 حكومات بآليات سياسية واجتماعية واقتصادية مختلفة إلى حد التناقض.
وفي هذا الصدد، رأى الباحث في مركز “الحوار السوري” محمد سالم، في حديث مع “العربي الجديد”، أن الرسالة الأبرز في خطاب بشار الأسد هي “من هو معي فهو سوري ووطني، ومن هو ضدي فهو مرتكب للخيانة العظمى”. واعتبر أن الخطاب يعبر ويكشف عن الوجه الحقيقي للأسد ونظامه، إذ حصر بشار الأسد الوطنية بتأييده. وأشار إلى أن “كيل الشتائم لكل من عارضه، لا ينسجم مع الصورة التي حاول النظام بشكل خجول تصديرها عن تحوله نحو شيء من التعددية من خلال وجود مرشحين منافسين للأسد”، مضيفاً: هو صورة أخرى من صور خطابات الطغاة، وملخصها إما أحكمكم أو أقتلكم. وتابع: “جرد كل من لا يؤيده من الوطنية السورية، واعتبره مجرد حامل للجواز السوري. خطاب مذهل، يُدرس في وحشيته وصلفه وجبروته، وهو مناقض حتى لنهج والده الذي كانت خطاباته أكثر دبلوماسية”.
أحمد العسراوي: ليس لدينا خيار سوى وحدة موقف وجهود المعارضة لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية
من جانبه، أشار الكاتب بسام يوسف، في حديث مع “العربي الجديد”، إلى أن الأسد “قسّم الشعب السوري إلى شعبين، مؤيد ومعارض”، معتبراً أن الأسد يدفع باتجاه القطيعة بينهما. وقال “بشار الأسد يؤسس لفاشية جديدة داخل المجتمع السوري”. وأعرب عن اعتقاده بأن خطاب الأسد “يؤكد استياءه من الخارج”، مضيفاً: رسالته كانت واضحة أنه ماضٍ في معركته، ومن بقي داخل مناطقه وقود لهذه المعركة، وأنه لا حل سياسياً لديه. بخطابه نسف كل المسار السياسي الأممي. أعتقد أن الخطاب يدل على أن بشار الأسد يشعر بالهزيمة.
في ظل هذه الأجواء، تبدو الخيارات أمام المعارضة السورية شبه معدومة، في ظل تراخٍ أميركي مستمر منذ عام 2011 عن ممارسة ضغط جدي يمكن أن يجبر النظام السوري على إعادة النظر بالعملية السياسية، وتنفيذ مضمون القرار الدولي 2254 الذي حدد خريطة طريق لحل سياسي للمسألة السورية. ولا تملك المعارضة السورية، داخل البلاد وخارجها، من أمرها إلا إصدار بيانات وتصريحات تقلل من أهمية نتائج الانتخابات التي ترى أنها “مزيّفة”.
ففي الداخل السوري، لم يتردد حسن عبد العظيم، رئيس “هيئة التنسيق الوطنية للتغيير الديمقراطي” التي تمثل “المعارضة الداخلية”، في وصف انتخابات نظام الأسد الرئاسية بـ”المزيّفة”. وقال عبد العظيم، في تصريح لوكالة “رويترز” الخميس الماضي، إن هذه الانتخابات “ليس من شأنها سوى زيادة محنة بلد، يعاني الجوع والفقر ونظام الاستبداد”، مشيراً إلى “أن إصرار بشار الأسد على التمسك بالسلطة لا يجلب الاستقرار”. وتدفع المعارضة السورية ثمن انقسامات وتباينات في الرؤى، وصلت إلى حد الإلغاء المتبادل بين مكوناتها منذ العام 2011، حيث انشطرت إلى معارضة داخلية وأخرى خارجية، التي انقسمت هي الأخرى إلى منصات متعددة. ولم تنجح في تشكيل مرجعية سياسية موحدة لقوى الثورة والمعارضة تمثلها في الاستحقاقات الدولية، وهو ما أفقدها ثقة الشارع السوري أولاً، وتالياً المجتمع الدولي، وخصوصاً أن هذه المنصات لم تستطع بلورة خطاب وطني واحد جامع للسوريين.
أعرب بسام يوسف عن اعتقاده بأن خطاب الأسد يؤكد استياءه من الخارج
وليس أمام المعارضة السورية إلا التمسك بالعملية السياسية التي ترعاها الأمم المتحدة، التي تبدو غير قادرة على دفع النظام إلى طاولة التفاوض في مدينة جنيف على أساس القرارات الدولية ذات الصلة. وكانت الأمم المتحدة تخطط لكتابة دستور، تجرى على أساسه انتخابات، إلا ان النظام عرقل هذا المسعى. ومن ثم يحتاج الملف السوري إلى مقاربة أممية جديدة لا تلوح في أفق قريب. وفي هذا السياق، قال القيادي في هيئة التنسيق الوطنية أحمد العسراوي، لـ”العربي الجديد”: ليس لدينا خيار سوى وحدة موقف وجهود المعارضة لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية. إلى ذلك، رأى الكاتب بسام يوسف أن الخيارات أمام المعارضة “ضيقة”، لكنه أشار إلى أن “لدى المعارضة نقطة قوة يجب أن تستغلها، وهي أن النظام لم يعد لديه شيء يقدمه لمؤيديه. يجب أن تعيد المعارضة النظر بآليات مقاربتها للقضية. النظام مفلس ومنهار، وما جرى من انتخابات ومهرجانات مصاحبة محاولات لإنكار اليأس لا أكثر”.
أمين العاصي
العربي الجديد