ما رهانات طهران في المواجهة الفلسطينية الإسرائيلية الأخيرة؟

ما رهانات طهران في المواجهة الفلسطينية الإسرائيلية الأخيرة؟

يبدو أن مقولة الحرب هي سياسة بوسائل أخرى، أثبتت صحتها أيضا في الحرب الأخيرة في فلسطين المحتلة، والذي يكشف عن هذه الحقيقة هو السلوك السياسي لفواعيل كُثر في المحيط الإقليمي والساحة الدولية، وأهمهم وأخطرهم هو الفاعل الإيراني بالتحديد.
أحد الأهداف الجيوسياسية لإيران هو ترسيخ دورها كقوة إقليمية معترف بها، ولها شرعيتها. والوسائل التي تعتمدها لتنفيذ ذلك، إضافة إلى المشروع النووي هي الدور في العراق وسوريا ولبنان واليمن وفلسطين، لذلك تبقى خريطة طريق صانع القرار في طهران، محددة دائما بالصراع مع ما تسميه الشيطان الأكبر المتمثل بالولايات المتحدة، واستمرار المشروع الإقليمي عبر مقارعة ما تسميه الشيطان الأصغر بالمنطقة أي إسرائيل، لكن هل هنالك سياسة حقيقية مبدئية في موضوع العداء مع إسرائيل من قبل إيران؟
لابد من القول إن الاستثمار السياسي في البؤر الساخنة في العالم، حقيقة راسخة في العلاقات الدولية، ولكي يتم تحديد طبيعة هذا السلوك ومراميه وغاياته، لابد من العودة إلى التاريخ، الذي هو الصانع الأساسي للمسلمات الجيوسياسية للدول. فنظرة سريعة على تاريخ إيران في المنطقة، تكشف وبوضوح أن استراتيجيتها قبل الإسلام وبعده سيان، وفي زمن الشاه هي نفسها في العهد الذي بعده، وعند الإصلاحيين والمتشددين اتفاق عليها بدون تغيير. وفي كل هذه الدهور والعصور كان توجه صانع القرار في طهران هو الغرب، حيث الهلال الخصيب. فعدوها الجيوستراتيجي الأول هم العرب، بينما تصنيف إسرائيل لا يقع في خانة العدو الجيوستراتيجي مطلقا، والخلافات الإيرانية العربية أكثر بأضعاف من التناقضات الإسرائيلية الإيرانية. صحيح أن العلاقات بينها وبين الكيان الصهيوني تُسمع فيها نبرة عدائية، لكن ليس فيها سياسة حقيقية. السياسة الإيرانية الحقيقية موجودة في العراق وسوريا ولبنان واليمن، حيث التدمير الممنهج للدولة والمؤسسات، والتلاعب المحموم بالنسيج الاجتماعي، وخلق قوى مسلحة هجينة طاردة للاستقرار، ومُحاربة للهوية الوطنية. في حين أن هذه الدول تاريخيا هي التي كان يأتي منها المدد للقضية الفلسطينية سياسيا وماليا ورجالا أيضا. إذن كيف يمكن أن يستقيم منطق فيه الأضداد على مسار واحد؟ وكيف يكون طريق تحرير القدس من خلال تدمير بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء؟

السياسة التي تعتمدها طهران مع تل أبيب، لا تتجاوز حالة التنافس على الصدارة في النظام الإقليمي، مع إبقاء الحالة تحت السيطرة

يقينا ليس هناك من تهديد وجودي بين طهران وإسرائيل، بل هما يتنافسان من أجل هدف واحد وهو الدور المستقبلي في أي نظام إقليمي يتشكل في المنطقة. والتنافس موجود بين الكثير من الدول، يشتد حينا ويخفت حينا، لكن ليس بالضرورة أن يكون عداء. وما يدفع طهران لتصعيد اللهجة ضد تل أبيب، هو الشعور بأن توازن القوى بينهما في الحالة الراهنة لا يسمح لها بأن تأخذ سياساتها كامل المديات في المنطقة. أما بالنسبة لإسرائيل فهي ترى أن حصول طهران على السلاح النووي يخل بهذه المعادلة أيضا، وهنا تدخل عقيدة مناحيم بيغن، التي تسعى للاستباق ومنع أي دولة من حيازة السلاح النووي، لذلك فالشد والجذب بين الطرفين هو نتيجة طبيعية لأنهما يقرآن مسارات التغيرات في المنطقة والعالم، ويتموضعان حيث يجب. كما أنهما يستخدمان نهج نظرية الردع، التي ترى أن التحذيرات المحدودة المرتبطة بعواقب محددة وذات مصداقية، هي أفضل طريقة لتثبيط شدة المنافسة. وهذا السلوك مهم بشكل خاص مع تصاعد التوترات وتنامي احتمالية التحول، من حالة المنافسة الى حالة الصراع. وبذلك يصبح التموضع الإيراني في الملف الفلسطيني مفهوما، بعد أن تموضعت إسرائيل على الضفة المقابلة من الخليج العربي، في اتفاقيات التطبيع مع الإمارات والبحرين، وبات لها فضاء استخباراتي جديد يطل على إيران مباشرة. وإذا ما أخذنا بالاعتبار الهجمات السيبرانية، وقتل عدد من العلماء وتخريب المنشآت النووية الإيرانية، التي قامت بها إسرائيل، وسعي القوى الكبرى للوجود العسكري في مياه الخليج العربي ومضيق هرمز، لحماية حرية الملاحة، فإن رهانات طهران على الحرب الأخيرة في فلسطين تصبح واضحة جدا.
لقد أراد صانع القرار في طهران أن تكون الحرب الأخيرة في فلسطين المحتلة أولا، خريطة ردع جديد مكتسب ضد إسرائيل، يديره ويستغله هو، كما حدث في حرب يوليو 2006 في لبنان. وهو اليوم بات يعتقد أن القدرات العسكرية الجديدة التي أظهرتها الفصائل الفلسطينية في غزة، سوف تجعل إسرائيل تفكر أكثر من مرة قبل تنفيذ هجمات سيبرانية، أو اغتيالات جديدة على الأراضي الإيرانية، لأن الهجمات الصاروخية الأخيرة على الكيان الصهيوني، أعادت تشكيل حالة الردع. ثانيا، الرغبة في عزل الدول العربية، خاصة الخليجية منها، التي وقعت اتفاقيات تطبيع مع إسرائيل، والتحشيد ضدها وتسقيطها من خلال الحرب الأخيرة، بغية تفكيك خطط احتواء انتشار القوة الإقليمية الإيرانية، التي رسمتها إسرائيل مع هذه الدول. ثالثا، تعزيز قدرات الفصائل الفلسطينية في غزة سياسيا وعسكريا، وجعلها قوة كبيرة قادرة على أن تزيح القوى الفلسطينية الأخرى في الضفة الغربية، بغية الدفع بمزيد من الضغط على إسرائيل. رابعا، الحرب الاخيرة كان يراد منها إيرانيا أن تكون فرصة لتنظيف ما علق بصانع القرار الإيراني من سمعة وسلوك سياسي طائفي بغيض، عرفته الساحات العراقية واللبنانية والسورية واليمنية، وبات الشعار اليوم أن إيران تدعم وتساعد الفصائل الفلسطينية، التي ليست على مذهبها، وبالتالي فهي مؤهلة لحمل راية الدفاع عن الحقوق الإسلامية. خامسا، حماية ذراعها في لبنان «حزب الله» من خلال فتح جبهة في غزة، تكون جاهزة لتوجيه الصواريخ ضد إسرائيل، في حالة حدوث هجوم ضد الحزب. لكن السؤال الأبرز هو، إذا كانت طهران صادقة النوايا في العداء مع إسرائيل، وصادقة النوايا في تحرير القدس، فعلام جبهة حزب الله اتخذت موقف المتفرج؟ ولماذا الجبهة السورية بقيت صامتة؟ وكيف لم تخرج الصواريخ من الأراضي الإيرانية أيضا؟
هنا تبرز حقيقة السياسة التي تعتمدها طهران مع تل أبيب، والتي لا تتجاوز حالة التنافس على الصدارة في النظام الإقليمي، مع إبقاء الحالة تحت السيطرة ضمن هذا الإطار لا أكثر. وهذا الموقف هو الذي دفعها للتحفظ كي لا تتدحرج الحرب إلى حرب أقليمية تدفع فيها ثمنا باهظا. فكيف تضمن النجاة لذراعها في لبنان إن سمحت له بفتح جبهة الجنوب؟ وما مصير ملفها النووي ورفع العقوبات والحصار الاقتصادي، إن هاجمت إسرائيل من أراضيها أو من سوريا أو بواسطة ميليشياتها في العراق؟ دعوا غزة أن تكون منصة لإظهار الرعب الصاروخي الإيراني فقط لا أكثر. هذا بالتحديد ما رسمه صانع القرار الإيراني من دور له في المواجهة الأخيرة، وقد عززها وزير الخارجية جواد ظريف حين قال (فلسطين ليست قضية عربية أو إسلامية فحسب، بل معضلة دولية، والمجتمع الدولي عليه واجب إجبار إسرائيل على إنهاء الدمار والحصار المفروض على غزة). بمعنى أن الحل تعددي وليس قضية إيرانية. فأجابه خامنئي بإلقاء القضية على كاهل الفلسطينيين وحدهم قائلا (على الفلسطينيين أن يجعلوا أنفسهم أقوياء، وأن يقاوموا ويتصدوا لإجبار الطرف الآخر على الانسحاب). فسمع وزير الخارجية الأمريكي بلينكن تحاورهما، وفهم اللعبة الإيرانية جيدا فرد عليهما في 13 من الشهر المنصرم، قائلا (إن إيران التي تمتلك سلاحا نوويا من المرجح أن تتصرف بإفلات أكبر من العقاب عندما يتعلق الأمر بدعم الفصائل المسلحة في المنطقة). بمعنى دعونا نخفف العقوبات عنها بعد الاستعراض الصاروخي الذي رأيناه من غزة.

مثنى عبدالله

القدس العربي