سطوة المصالح التي تجسدها الشركات متعددة الجنسيات، التي تسيطر على التجارة العالمية والاستثمارات الدولية، وتتحكم بصورة شبه مطلقة في حركة السوق العالمية، تجعل من عالم اليوم، بما فيه من تعاظم في علاقات التشابك التجاري والنقدي، ومن تعميق لدرجة تقسيم العمل الدولي، ومن إضعاف للسلطة الاقتصادية للدولة القُطرية، أبعد ما يكون عن فترة الستينيات وأوائل السبعينيات حينما سادت دولة الرفاه.
وليس مستغربا تدجين الإعلام، الذي لا ينتصر للقضايا الإنسانية العادلة، فجنون السوق العالمية التي لا تراعي إنسانية الإنسان، وحماية البيئة والعدالة الاجتماعية، تتحكم أذرعها المالية في مجالات الاتصالات والفضائيات والمعلومات والأدوية والبحث العلمي والإعلانات والعلاقات العامة. وهي في مجملها معوقات تحول دون قيام وسائل الإعلام مثلا بأدوارها المفترضة.
وإن بدا النظام العالمي يشهد تعددا للأقطاب، ويتخلص شيئا فشيئا من هيمنة الأحادية والكتلة الرأسمالية المنفردة، من خلال تعاظم قدرات الصين الاقتصادية، والحضور المتنامي لمجموعة بريكس، التي تشهد دولها ذوات الاقتصادات الصاعدة نموا مطردا، فإنه من الصعب في المدى المنظور أن تستعيد معظم الدول النامية ما كانت تتمتع به من استقلالية نسبية، تمكنها من تبني السياسات المالية والنقدية، التي تضمن تحقيق قدر معقول من العدالة الاجتماعية، وتتيح لها فرص التخفيف من وطأة التقلبات الاقتصادية، عندما كانت تتحكم بنسبة مهمة من السوق المحلية. والتصور السياسي والاقتصادي البديل لم يُطرح بعد، والعالم ليس بعيدا عن فترة الحرب العالمية الأولى والثانية، اللتين أثبتتا استحالة تحقيق تعاون سلمي بين دول متنافسة. وتداعيات السياسة والاقتصاد، ومنطق الهيمنة ومسارات التناقض بين فكرة الأمن المشترك والعلاقات الدولية، التي أفقدت عُصبة المنتصرين مصداقيتها، وجعلت منها تجربة فاشلة بجميع المقاييس. انسحبت بدورها على فكرة الأمم المتحدة التي وقع استخدامها هي الأخرى للسيطرة على الدول واستباحة مقدراتها، وإجبارها على الخضوع للغرور السياسي والاقتصادي.
الصين أكثر البلدان التي تعترض على النظام العالمي الذي حددته واشنطن، وحرصت على أن يبقى إلى الأبد ولو بالقوة
الصراع على المقدرات، أصبح السبب الأساسي لاضطراب السياسة الدولية، في عالم يبقى فيه خطر نشوب حرب كبرى احتمالا قائما. ومبعثه الرئيس، التنافس المتصاعد بين القوى العظمى، وعدم رغبة الولايات المتحدة في الانحدار إلى درجة أدنى، تسمح بتفوق الصين وروسيا. وإن كانت المواجهة في الوقت الحاضر تتخذ أشكالا أخرى، وهي أساسا الحرب بالوكالة، وتفصح عن نسخ جديدة من الحرب الباردة بوجهها المالي والدبلوماسي والتجاري، بحثا عن مزيد الهيمنة، وتحصيل المكاسب الاستراتيجية. وما بات جليا ضمن المسارات القائمة، هو أن تضارب المصالح الاقتصادية بين الدول الكبرى، يجعل التعاون لأي غرض أكثر طموحا من إدارة الأزمات، أمرا يصعب تحقيقه في الوقت الحاضر. فلا سياسات تقارب في ظل الحرب التجارية والعقوبات الاقتصادية، وسباق التسلح، وخرق المعاهدات والانسحاب منها.. ولا مقاربات في المدى المنظور لإصلاح الاقتصاد العالمي، أو التفكير في إحلال توازن اجتماعي يخدم الشعوب، التي تراهن على السلام بديلا للحرب وعنف الغاب. والتصعيد التجاري بين أمريكا والصين، وكذلك الحرب الدبلوماسية بين روسيا والغرب عموما، تنبئ في مجملها بأن ما نشأ عن اختفاء الشروط التي كان يمليها عالم القطبين، من تصعيد للمنافسة مازال قائما، وهناك من لا يرضى بتعدد الأقطاب، أو ظهور بوادر في التوازن الدولي، ويرفع المكافأة التي تُدفَع لقاء التبعية وإخلاص الحلفاء. فهل أصبح المجتمع العالمي على درجة كبيرة من التعقيد، بحيث لم تعد قيادته ممكنة من مركز معين، وبواسطة سياسة ترتكز على القوة العسكرية واتخاذ القرارات الأحادية؟
الصين اليوم هي من أكثر البلدان التي تعترض على النظام العالمي، إلى جانب روسيا الاتحادية، وهو النظام الذي حددته واشنطن، وحرصت على أن يبقى إلى الأبد ولو بالقوة. ومن المؤكد أن أحد أبرز أسباب النزاع الذي يحصل بين القوى الكبرى هو خسارة الولايات المتحدة لتفوقها المطلق، على الأقل في المجال الاقتصادي. والانتقادات الكثيرة لطريقة قيادة هذه الدولة للنظام العالمي، وسوء إدارتها للنزاعات، والإفراط في التدخل الخارجي، أتت من الداخل الأمريكي قبل أن تتعدد الأصوات على نطاق واسع، لتعبر عن رفضها سيطرة مركز واحد للقوة، يعمل على تأمين مصالحه بطرق الابتزاز والغطرسة. ويصر على إبقاء مصطلح العالم الثالث بنوع من الاستعلاء والتمايز، وخلق الهوة المفضوحة، التي تعد من نتاج سياساتهم العالمية، خاصة بعد انتهاء الحرب الباردة، وموت حوار الشمال والجنوب، ودخول الدول النامية النفق المسدود والمتفاقم للمديونية الخارجية. وقد استمرت الثقافات المضادة في عصر العولمة والقطب الواحد، وتنوعت جماعات الرفض السياسي والاقتصادي. ومن الجيد أن لا تستمر الأمور على منوالها التقليدي وأسئلتها الارتيابية. ووجود نظير استراتيجي من شأنه منع التفرد بقيادة النظام العالمي، والتحكم به على النحو الذي ساد، لما يزيد عن عقدين، وهي فترة مخيبة لآمال الشعوب، فعلت ضِمنها المنظمة التكنوقراطية الدولية ما تريد، ورفضت خلالها أمريكا إبقاء العلاقات الأممية منصفة على قاعدة التشارك في حفظ السلم والأمن الدوليين. وتزايد التعارض في المصالح المشتركة الحاصلة اليوم بين القوى الكبرى، وبحث قادتها عن الأسباب التي تجعل كل منهم يلقي اللوم على الآخر في زعزعة الاستقرار، هي بمثابة الديناميكية التي تنهل من منطق الشغف بالصعود، ومقاومة التراجع أو السقوط. وهي ظروف مثالية من الممكن فعليا أن تسعى إلى تغيير توزيع القوة عالميا، إن لم تكن قد فتحت الباب لاحتمال تغيير الطريقة التي يتم بها توزيع القوة الاستراتيجية. والمؤكد طبقا لمنطق الواقعية، أقله في العشر سنوات الأخيرة، أن روسيا والصين على خلاف في صراع نحو الهيمنة الجيوسياسية ضد أمريكا. وفي ظل معطيات النزاع التنافسية المعقدة التي تطفو على السطح في كل مرة، فإن الحرب العسكرية ممكنة، وإن كان بالإمكان تجنب الصدام على النحو الذي حدث في اقليم دونباس، بعد أن سحبت موسكو قواتها من الحدود الأوكرانية، وأيضا تعامل الصين بعقلانية في بحر الصين الجنوبي، الذي يشهد نزاعات إقليمية حول السيادة على بعض الجزر، وتراجع حدة الاحتقان السياسي بين بكين وواشنطن، إثر أزمة هونغ كونغ. وفي المحصلة، تبقى المساعي التي تبذلها القوى العظمى ذات طابع يتصف بالرغبة في المحافظة على مكانة مرموقة، واعتراف الآخرين بالمعطيات الموضوعية الخاصة بتوزيع القوة.
لطفي العبيدي
القدس العربي