جو بايدن هو الرئيس الأميركي الأكبر عمرا في البيت الأبيض. وبالتالي، يبدو تاريخه السياسي معروفا للجميع، وربما لا يحتاج إلى تكهناتٍ كثيرة بشأن توجهات سياسته الداخلية أو الخارجية. .. هذا صحيح في المجمل، لكن الرئيس الأميركي تنتخبه عموما تحالفات سياسية كبرى، تسمح، بأصواتها وأموالها، بدخوله البيت الأبيض، فالتحالف الوسطي الذي قاده بايدن مكّنه من الوصول إلى الرئاسة على حساب ترامب الذي اعتمد في تحالفه المتماسك على قاعدة جمهورية ضيقة وموالية، ربما كانت مخلصةً وثابتةً في الولاء له، لكنها لم تكن كافية لإبقائه في البيت الأبيض أربع سنوات أخرى.
كان انتخاب ترامب قبل أربع سنوات مفاجأة من زاوية سياسيَّة وثقافيَّة، فالولايات المتحدة التي أوصلت إلى البيت الأبيض أوَّل رئيس أسود من أصول أفريقيَّة إلى الرئاسة (باراك أوباما) توصل عكسه في الصفات، وفي السياسات تقريباً، إلى البيت الأبيض. كيف يمكن أن نفهم تسامح الأكثريَّة من الأميركيين مع تصريحات عنصريَّة أدلى بها المرشّح ترامب وقتها تجاه المكسيكيين والمسلمين والنساء وغيرهم، على الرغم من أنَّ واحدا منها كان كافياً في السابق لإسقاط أيّ مرشّح سابق، جمهوريّاً أم ديمقراطيّاً. لذلك يمكن القول إن انتخاب بايدن اليوم، في جزء كبير منه، كان تصويتا سلبيا ضد ترامب بعد أربع سنواتٍ من التخبّط في السياستين، الداخلية والخارجية. ويعرف بايدن أنه، للحفاظ على إرثه، يحتاج للبقاء على هذا التحالف الواسع الذي انتخبه، وها هو التحالف الواسع يضم خليطا فكريا من اليسار المعتدل إلى اليسار الراديكالي إلى الليبراليين التقليديين إلى الجمهوريين المعتدلين الذين عارضوا ترامب، وربما يعارضون ترشّحه في عام 2024، حيث من المتوقع أن يخوض ترامب الانتخابات الرئاسية مرة أخرى.
تعرضت الديمقراطيَّة الأميركية، التي تعتبر أقدم ديمقراطيَّة قائمة ومستمرَّة في عالمنا المعاصر، لامتحان حقيقي أمام وجود ترامب في البيت الأبيض أربع سنوات
ولذلك تكثر التكهنات بشأن توجهات بايدن، وحيث يحكم من اليسار أم من المركز، كما كان يحلو للرئيس لينكولن وصف أميركا بأنها لا تحكم إلا من المركز. ولكن بعض سياسات بايدن، في ما يتعلق بالهجرة، وربما السياسات الاجتماعية، عبر صرف مليارات الدولارات للعائلات ذات الفقر المحدود، يعكس توجّها اجتماعيا أقرب إلى اليسار منه إلى الليبرالية التقليدية التي اتصف بها الحزب الديمقراطي. ولذلك ربما كان زعيم الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ محقّا عند القول إن بايدن هو المرشّح الذي انتُخب، لكن بيرني ساندرز هو المرشّح الذي يحكم اليوم، بسبب بعض السياسات اليسارية المتعلقة بالإنفاق في القانون الخاص بنمو الاقتصاد بعد جائحة كورونا، وأيضا القانون الجديد الخاص بالبنى التحتية.
الأكيد الآن عودة المؤسَّسات الأميركيَّة للعمل بعد تعطيلها خلال إدارة ترامب، بسبب السياسات المتناقضة التي كانت تصدر كل يوم تقريبا، وهو ما عزّز دور السلطات الثلاث في المحافظة على توازنها، أو ما يُسمَّى “Checks and Balances”، فالديمقراطيَّة الأميركية، التي تعتبر أقدم ديمقراطيَّة قائمة ومستمرَّة في عالمنا المعاصر، تعرَّضت لامتحان حقيقي أمام وجود ترامب في البيت الأبيض أربع سنوات، ما شكّل لكثيرين تهديداً للتوازن بين هذه السلطات، ولكن الأميركيين يتنفسّون الآن الصعداء، بعدما اختفى ترامب من واجهة الشاشة الأميركية كل يوم تقريبا.
ربما استطاع بايدن اليوم، بفضل سياساته الاقتصاديَّة، تجنيب الولايات المتحدة والعالم الأسوأ عبر تبنّيه برامج الدعم الحكومي للمؤسَّسات الماليَّة والصناعيَّة الخاصّة
وبسبب جائحة كورونا، جعل بايدن التعافي الاقتصادي أولوية له، حيث ورث بايدن الاقتصاد الأميركي في عام 2020 في أسوأ أزمة اقتصادية تعصف بالولايات المتحدة منذ الكساد الكبير في 1929. وربما استطاع بايدن اليوم، بفضل سياساته الاقتصاديَّة، تجنيب الولايات المتحدة والعالم الأسوأ عبر تبنّيه برامج الدعم الحكومي للمؤسَّسات الماليَّة والصناعيَّة الخاصّة، وبرنامج الدعم المالي المقدم للأسر الأميركية، وهو عمليّاً إجراء تبنّاه الرئيس ترامب سابقاً، لكنَّ بايدن وسَّع هذا البرنامج في القانون الجديد بشكل أكبر، فشمل مساعدات أكبر وتخفيض ضريبي للأسر الفقيرة والمحتاجة، واستطاع بايدن أن ينقذ الاقتصاد الأميركي من فترة كساد بعد دفعات من تريليوني دولار في أكبر مساعدات حكومية في تاريخ الولايات المتحدة، ما جعل الدين يقفز إلى 28 تريليون دولار، ومع دخول الولايات المتحدة، بصفتها أكبر اقتصاد في العالم، ما يُسمّى عصر “Sharing economy”، وهو مرحلة متقدّمة من الاقتصاد الرقمي أو اقتصاد المعرفة، ازدادت فيها الفجوة بشكل يفوق 300% بين الفقراء والأغنياء في الولايات المتحدة، وتضاءلت الطبقة الوسطى التي ميّزت الولايات المتحدة واقتصادها عقودا، لتنخفض نسبتها من 32% من الشعب الأميركي إلى 27% فقط من الشعب. ولذلك أطلق على شكل الاقتصاد الأميركي بعد جائحة كورونا بأنه أخذ شكل حرف K دليلا على عدم المساواة، حيث زاد الأغنياء 5% بنسبة تفوق 300%، في حين انهار دخل 55% من الأسر الفقيرة التي كانت تعتمد على الاقتصاد الخدمي بشكل كبير.
في كل الأحوال، تبقى هذه قراءة أولية مبكرة لمائة يوم من حكم الرئيس ترامب، وربما نحتاج عاما أو أكثر، حتى نستطيع الحكم على مدى نجاح هذه السياسات الداخلية ونجاعتها، وتحقيق أهدافها.
رضوان زيادة
العربي الجديد