لم يكن السعي إلى حل الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني الذي كان مصدر إزعاج للرؤساء الأميركيين على مدار العشرات من السنين يشكل أولوية للرئيس جو بايدن، رغم أنه وعد بمراجعة بعض سياسات سلفه دونالد ترامب التي اعتُبرت على نطاق واسع منحازة بشدة إلى إسرائيل وكانت سببا في استعداء الفلسطينيين.
ومنذ اعتلائه سدة الرئاسة في يناير الماضي، أكد بايدن أنه يريد التركيز على جائحة فايروس كورونا والركود الاقتصادي في الداخل وتحديات مثل الصين وروسيا وإيران في الخارج، فيما اتضح من خلال ردّه الخافت في أعقاب تفجّر الجولة الرابعة من الحرب في غزة أنه يريد غض النظر عن صراعات المنطقة مكتفيا بالموقف الأميركي المعتاد والمنحاز إلى حليفة الولايات المتحدة التاريخية، إسرائيل.
وفيما باغتت الحرب في غزة الإدارة الجديدة وشكلت اختبارا لسياسياتها في المنطقة، واجه بايدن ضغوط الديمقراطيين التقدميين من أجل التشدّد مع إسرائيل إضافة إلى ضغوط حلفاء الولايات المتحدة المطالبين بدور أنشط في إنهاء العنف وإيجاد سبل لإنقاذ عملية السلام.
ويؤكد متابعون ومحللون أن هذه الضغوط تجبر بايدن على الانخراط في مستنقع الشرق الأوسط ومن شأنها أن تثنيه عن سياسة الابتعاد الذي أراد انتهاجها. وخشية خسارة قاعدته الانتخابية سيكون مضطرا إلى التجاوب مع مطالب الشق اليساري في حزبه الذي يريد دورا أميركيا أكبر وأنشط في المنطقة.
وشرح أليستر نيوتن المحلل السياسي والدبلوماسي البريطاني السابق في تقرير على موقع “عرب دايجست” كيف قوّضت حرب غزة سياسة الابتعاد هذه آمال بايدن في تجديد “محور باراك أوباما للارتكاز الآسيوي”، وهي مبادرة هدفها التصدي لصعود نجم الصين.
أليستر نيوتن: ضغوط الديمقراطيين تجبر بايدن على الانخراط في مستنقع المنطقة
وفيما يرى بايدن أن صعود الصين يهدد نفوذ الولايات المتحدة العالمي ولا يقل خطورة عن الحروب الدائرة في المنطقة، إلا أن اندلاع الحرب بين إسرائيل وحماس، تجبر بايدن على تركيز انتباه إدارته على هذا الملف، وباتت بذلك واشنطن في قلب النزاع مجددا ومطالبة بدور حاسم لأجل تحقيق التهدئة ووقف إطلاق النار، ثم المساهمة في جهود أعمار القطاع المكلوم.
وترى أوساط سياسية أميركية أن التراجع عن إدارة النزاع سيعيق بدوره فرص السلام بين الجانين، حيث سيستغل كلاهما الصمت الأميركي وغياب المجتمع الدولي لتبرير عودة العنف والاشتباك مجددا.
وكتب المبعوث الأميركي الخاص السابق للمفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية مارتن إنديك في الشؤون الخارجية في مايو الماضي “إن احترام الرئيس للجدول الزمني لنتنياهو يشير إلى تغيير في النهج، يتم ترك الأطراف للتعامل مع الصراع وتتحول سياسة الولايات المتحدة من إنهاء الصراع إلى مجرد تهدئة مظاهره الأكثر عنفا”.
وتابع متسائلا “هل يجب أن يحاول بايدن فعل المزيد، لاسيما وأن كل أزمة تخلق فرصة؟ هل يمكن للظروف هذه المرة أن تنتج لحظة، إذا زادت واشنطن من دورها، يمكن للولايات المتحدة فيها أن تحقق تقدما نحو هدفها المعلن المتمثل في حل الدولتين للصراع الإسرائيلي الفلسطيني؟ الجواب، للأسف، هو لا. الوضع الراهن يناسب كلا الجانبين بشكل جيّد للغاية وليس لأي منهما مصلحة في تغييره”.
وبالتأكيد لا يوجد سبب للاعتقاد بأن هذا سيتغير إذا رأينا نفتالي بينيت، وليس بنيامين نتنياهو، في مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي، الذي يشاطره ذات العقيدة السياسية.
وأبرم بينيت اتفاقا مع زعيم المعارضة الوسطي يائير لبيد لتشكيل ائتلاف حكومي يتناوبان بموجبه على منصب رئيس الوزراء، ليزيح بذلك نتنياهو من الحكم، وتدشّن إسرائيل مرحلة سياسية جديدة لكن دون تغيير في ما يخص علاقتها بواشنطن، ومن المتوقع أن تنتهج الحكومة سياسية التصعيد والعنف مجددا ضد الفلسطينيين.
وتماشيا مع ما ورد أعلاه، اختتم إنديك مقال رأي في صحيفة فاينانشيال تايمز على النحو التالي “يبدو أن محور بايدن قد نجا من أول اختبار له في الشرق الأوسط. لكن تقلبات المنطقة تضمن حدوث المزيد في المستقبل. نأمل بحلول ذلك الوقت أن يكون شركاؤه المحليون قد توصلوا إلى فهم أدوارهم في نظام إقليمي تدعمه الولايات المتحدة، وليس بقيادة أميركية، وهذا سيسهل على بايدن تجنّب الانزلاق مرة أخرى في مستنقع الشرق الأوسط”.
وكنتيجة لضغوط داخلية، يبدو من الصعب على إدارة بايدن تجنب إجبارها على العودة إلى مستنقع المنطقة في أعقاب صعود جيل جديد من الديمقراطيين معادٍ لإسرائيل، حيث باتت القضية الفلسطينية في قلب الحزب ومحل جدل وانقسام مستمر.
وانطلاقا من الفارق الكبير في الخسائر البشرية يطالب بعض الديمقراطيين التقدميين بايدن بأخذ موقف أكثر حزما من إسرائيل. وكانت هذه الفئة من الديمقراطيين قد ساعدت بايدن في الفوز بترشيح الحزب الديمقراطي وفي الوصول إلى الرئاسة.
وكتب أنتوني زورشر لبي.بي.سي نيوز في مايو مؤخرا، نقلا عن خبير استطلاع الرأي جون زغبي الذي يصف اتجاه الديمقراطيين بعيدا عن الدعم الصريح لإسرائيل بأنه “جذري”.
ويرجع زورشر الفضل في فتح باب الاقتراع أمام المرشحين الذين هم الآن في الكونغرس ويتحدثون لصالح القضية الفلسطينية لرجل الدولة الأكبر بيرني ساندرز في حملة الانتخابات الرئاسية لعام 2016، والتي ترددت أصداؤها في مقالة كتبها ساندرز في 14 مايو لصحيفة نيويورك تايمز.
وقال زورشر مستشهدا بهذه المقالة “الأميركيون الذين وجّهوا أصواتهم السياسية خلال حملة حياة السود مهمة التي اندلعت الصيف الماضي في المدن الأميركية يحولون الآن تركيزهم وخطابهم، إلى ما يرون أنه قمع مشابه غير خاضع للرقابة في الشرق الأوسط”.
وعلاوة على ذلك، كما تؤكد استطلاعات الرأي الأخرى، فإن هذا لم يؤد إلى تحول الناخبين اليهود في أميركا من دعمهم التقليدي للحزب الديمقراطي إلى حزب جمهوري يكون دعمه المطلق لإسرائيل مدفوعا باعتماده الانتخابي الكبير على المسيحيين الإنجيليين البيض في أميركا.
وتؤكد تصريحات بايدن العلنية في الأيام الأولى من التصعيد الأخير أن إدارته تخلّفت وراء الركب، وهو ما أحدث انقساما داخل حزبه، الأمر الذي يحمل في طياته مخاطرة كبيرة على مستقبله السياسي.
الدعم المالي للفلسطينيين ليس من المرجح أن يرضي التقدميين الذين يضغطون من أجل إنهاء المساعدة العسكرية الأميركية لإسرائيل
الدعم المالي للفلسطينيين ليس من المرجح أن يرضي التقدميين الذين يضغطون من أجل إنهاء المساعدة العسكرية الأميركية لإسرائيل
وكتب زورشر مرة أخرى “يحتاج الرئيس إلى دعم التقدميين اليساريين في ائتلافه إذا كان يريد تمرير أجندته التشريعية، بما في ذلك البنية التحتية الطموحة وحزمة شبكات الأمان الاجتماعي. وحتى الآن، كان هذا الدعم موجودا. لكن إذا اعتقد اليسار الديمقراطي أن بايدن يدير ظهره لما يعتبره انتهاكات إسرائيلية جسيمة لحقوق الإنسان، فيمكنهم التخلي عنه”.
ووفقا للبيانات والإجراءات الأحدث، ليس أقلها زيارة وزير الخارجية أنتوني بلينكن إلى المنطقة، فإن الإدارة الآن تريد أن تلحق بالركب في ما يخص تطورات الملف الفلسطيني. ولكن ما مدى استعداد بايدن لفعل ذلك؟
وخلص مقال نُشر مؤخرا في موقع “المونيتور” إلى أن التعهدات بتقديم مساعدات إنسانية واقتصادية بقيمة مليار دولار أميركي للفلسطينيين، بما في ذلك 288 مليون دولار من الجانب الأميركي، مطروحة بالفعل على الطاولة، وأنه بدعم من الولايات المتحدة يمكن تقديم المزيد من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
ومع ذلك، فإن هذا الدعم وحده ليس من المرجح أن يرضي التقدميين في حزبه، الذين كانوا حتى قبل التصعيد الأخير، يضغطون من أجل إنهاء المساعدة العسكرية الأميركية لإسرائيل، وهو اقتراح وصفه بايدن سابقا بأنه “غريب”.
لكن الأمر الأكثر أهمية هنا هو حزمة بقيمة 38 مليار دولار أميركي 2017 – 2028 تم التوقيع عليها في عام 2016 من قبل باراك أوباما تصل إلى حوالي 17 في المئة من ميزانية الدفاع الإسرائيلية. وعلى الرغم من ضغوط الحزب، ستكون صدمة كبيرة إذا ألغى بايدن ذلك.
وعلى الرغم من ضغوط الديمقراطيين، فقد رجّح نيوتن أن تبني الإدارة الحالية على قرار أوباما بعدم منع التصويت في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في ديسمبر 2016 والذي كان ينتقد سياسات الاستيطان الإسرائيلية، والتي لا ينبغي الاستهانة برمزيتها.
وبطريقة أو بأخرى، فمن السهل جدا على الناطقة باسم البيت الأبيض يان بساكي، أن تدعي أن “الرئيس لا يرى هذا من منظور السياسة الداخلية”. ومع ذلك وكما يستنتج زورشر “لا يمكن للسياسيين إلا البقاء بعيدا عن قاعدتهم السياسية لفترة طويلة”.
صحيفة العرب