كان لافتا في حرب غزة على صعيد وسائل التواصل الاجتماعي، أجواء «التنابز» بين خصوم محور إيران في سوريا والعراق، ومؤيديها في التدخل لصالح حماس، وليس خافيا أن البعض من السنة في العراق وسوريا، شعروا بما يشبه الغبن، لتضاؤل الاهتمام الدولي مؤخرا بالجرائم التي ترتكب في سوريا والعراق، على يد حكومات حليفة لإيران، مقابل التعاطف الهائل إسلاميا ودوليا مع أشقائهم في غزة، رغم أن ما يتعرض له سنة العراق وسوريا من حكوماتهم، قد يفوق وحشية إسرائيل، وهو الأمر الذي قد لا يعرفه أحيانا الفلسطيني، الذي يواجه إسرائيل في صراع وجودي منذ نحو قرن.
ويبدو أن هناك نسبة كبيرة من الجمهور العربي ممن ينظرون للقضايا بعين محلية ضيقة، فقد ينظر بعض الفلسطينيين للمشرق من زاوية نزاعهم مع إسرائيل فقط، بالمقابل فإن العراقي والسوري (السنة) يهمهما نزاعهم الأهلي فقط، وكل يرى بعينه.. فتجد غضبا من قضية شكر حماس لإيران، ولو عدنا إلى عهد صدام حسين، لوجدنا مثلا أن كثيراً من الكويتيين ومن شيعة وكرد العراق، كانوا يقولون للفلسطينيين: لماذا تحبون صدام قاتل أبنائنا؟ واليوم يقولون لحماس لماذا تشكرون إيران، لكن هل شكروها لأنها قتلت أبناءهم؟ أم لأنها دعمتهم بوجه إسرائيل؟
لابد من استيعاب أن معادلة النزاع ليست واحدة في العراق وسوريا وفلسطين، فهي طائفية حيث توجد طوائف العراق وسوريا ولبنان، وإسلامية/صهيونية حيث يوجد صهاينة ومسلمون بدون طوائف، وأن إنكار عداء نظام إيران لإسرائيل هو شعور رغبوي ناقم عليهم لا يريد منحهم «شرف المقاومة» أكثر منه توصيفا موضوعيا، فدعم إيران لحلفائها الشيعة ضد السنة، لا يتناقض أنها تدعم أيضا حلفاءها الشيعة (حزب الله) والسنة (حماس) ضد إسرائيل، ولا يمكن إنكار أن جبهتي الحرب العربيتين الوحيدتين مع إسرائيل اليوم: حزب الله الشيعي وحماس السنية هما حلفاء إيران. لا يمكن إنكار أنها من أدبيات الحركات الشيعية وزعماءها كالخميني وباقر الصدر، وهذا لا يتنافى مع أن محور إيران طائفي، كلا المسارين مختلفان، ببساطة. كما أن هناك إسلاميا سنيا ضد الإسلامي الشيعي والإسرائيلي معا، فإن هناك إسلاميا شيعيا ضد الإسلامي السني والإسرائيلي معا. إسرائيل تعتبر إيران عدوها الأول حاليا في المنطقة، وفي عام 2015، وقف نتنياهو في الأمم المتحدة حاملا كتاب خميني «فلسطين في فكر الخميني» واعتبره أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة خريطة تدمير إسرائيل.
المشكلة ان النزاع الأهلي في العراق وسوريا لا يمكن ان يتحول لقضية لأمة فيها 900 مليون مسلم، أو 300 مليون عربي، لا يعيشونه أصلا، ويعتبرونه مجرد فتنة داخلية يجب القضاء عليها للتفرغ للصراع العالمي.
حماس ظلت بندقيتها موجهة لعدوها فقط، ولم تخدم أجندة أو مشروع غيرها، ولم تشارك إيران في مشاريعها الطائفية في العراق وسوريا
الحرب الأهلية تعبير يغضب الكثيرين في سوريا والعراق، فكل طرف يريد احتكار تمثيل الوطن، والآخر «عميل» بدون ان يعي أن إنكار نزاع أهلي وتقديمه كصراع أمة بين العرب والعجم والسنة والشيعة، هذا التوصيف لم ولن يلقى رواجا في معظم البلدان الإسلامية وحتى السنية، التي لا تعيش نزاعا طائفيا، وتعتبر أن الصراع هو مع الغرب وإسرائيل. بلا شك أن طهران قد تنظر للقضية الفلسطينية كـ»كفارة ذنوب» لدورها في العراق وسوريا. وحتى تاريخيا، فإن أبرز قادة الدول الإسلامية السنية، داست خيولهم اجساد خصومهم الداخليين من الطوائف الأخرى، بل أحيانا من خصومهم من الطائفة نفسها، ثم أصبحوا أبطالا، عندما واجهوا عدوا خارجيا، وهذا ما يبدو أن إيران تريد فعله. وبالعكس الأمويون قتلوا صحابة، واستحلوا مدينة رسول الله في واقعة الحرة الشهيرة، وقصفوا الكعبة ثم بنوا قبة الصخرة الجميلة. صلاح الدين قتل الفاطميين والعلويين، أما صدام حسين فقد غزا الكويت، وقمع المعارضة الشيعية والأكراد، ولم يقلل هذا كله من رمزية هؤلاء القادة عند السنة، لأنهم يعتبروهم حققوا انتصارات ومجدا لقومهم.
وتعليقا على قضية «الشكر» فمن المهم الانتباه إلى أن الشعوب تتناسى عادة نزاعاتها الداخلية لمواجهة صراع أكبر، العراقي السني نسي أنه كان يسمي أمريكا «قاتلة أبنائه» ومحتلة بلاده، وتحول من المقاومة ضدها للصحوات معها، وأصبح اليوم يتمنى بقاءها في العراق مقابل النفوذ الشيعي المدعوم من إيران، وتجاوز معظم ضباط النظام السابق عداء بارزاني، الذي سموه سابقا «عميل الموساد» وسكنوا الآن بحماية أربيل. وفي سوريا تحالفت معظم فصائل السنة في الثورة السورية، وتلقت دعما من أمريكا داعمة إسرائيل ومحتلة العراق، ومع فرنسا محتلة سوريا السابقة، ولن يكون ذلك مخلا طالما ظلت البوصلة المحركة توجهك وفق أجندتك، وليس أجندة الداعم، وتقاتل عدوك وليس عدو الداعم، وهذا ما تمكنت حماس على ما يبدو من أن تحافظ عليه، ظلت بندقيتها موجهة لعدوها فقط، ولم تخدم أجندة أو مشروع غيرها، ولم تشارك حماس مع إيران في أي من مشاريعها الطائفية بالعراق وسوريا، وموقفها معروف بالانسحاب من سوريا احتجاجا على قمع النظام السوري. الحاصل، أن حرب غزة أظهرت شيئا من تشتت المزاج العربي السني المشرقي وتفاوت الأوليات، فبعد تهميشهم في بغداد ودمشق يبدو أنهم يتعرضون أيضا للتهميش في قضية القدس، لصالح حلفاء طهران، وطبعا كان لانخراط دول عربية وازنة في مسار التطبيع أثرا كبيرا في تلك الخسارة، بينما بدت جماهير التنظيمات الشيعية من الضاحية الجنوبية ببيروت لمظاهرات الصدريين في بغداد متناغمة على إيقاع محدد، كما يريد المايسترو تماما.
وائل عصام
القدس العربي