تركيا في عاصفة “سادات غيت”

تركيا في عاصفة “سادات غيت”

عانت تركيا عقوداً من مشكلة المافيات والعصابات المنظمة التي كانت تتموضع في قلب المشهد السياسي والاجتماعي، وتحاول التأثير من خلال فرض نفسها على التوازنات، وأخذ نصيبها من الكعكة. قطع تحرّك حزب العدالة والتنمية في مواجهة هذه المجموعات الطريق على غالبية مواردها، ودمّر شريانها الحيوي، ومنظومة علاقاتها ببعض الشخصيات السياسية والاقتصادية التي كانت توفر لها الحماية، وتتقاسم معها العائدات في نشاطاتٍ مشبوهة وأعمال ممنوعة وصفقات وخدمات متبادلة داخل تركيا وخارجها.
وسط كل هذه التشابكات، تفجّرت، في الأسابيع المنصرمة، أزمة سادات بكر، أحد أهم وجوه المافيا التركية الذي دخل في مواجهةٍ مع أسماء سياسية وإعلامية وأمنية بارزة، بدأت مع عملية تفتيش منزله بطريقةٍ غير لائقة، كما يقول، كانت تستدعي الاعتذار منه ومن أسرته، لكنها تحوّلت إلى أزمةٍ أكبر بتفرعاتٍ أمنيةٍ وتجاريةٍ وسياسيةٍ، يقودها من مخبأه في الإمارات، وسلاحه الفعال فيها هو الأشرطة المسجلة التي ينشرها، وفيها ادعاءات ومزاعم كثيرة تطاول مباشرة نشاطات شخصيات سياسية وحزبية محسوبة على حزب العدالة أو مقرّبة منه.

أفرح سادات بكر جماعات الكيان الموازي والمعارضة التركية، وأسعد حتماً خصوم أردوغان وحزبه في الداخل والخارج، لكنه يعرف أنه أضرم النار بسفن العودة من الإمارات

بدأ المواجهة مع وزير الداخلية التركي، سليمان صويلو، ومجموعة “بليكان” الإعلامية المقرّبة من الحزب الحاكم وصهر الرئيس أردوغان، برات البيرق، والسياسي المرتبط بالدولة العميقة محمد أغار، ونجله النائب في حزب العدالة والتنمية، يتهمهم بمحاولة فرض أنفسهم على الرئيس أردوغان، ودفعه نحو ارتكاب الأخطاء. بعد أسبوع، وسع دائرة البيكار، لتشمل قيادات عسكرية وحزبية وسياسية متقاعدة، يتهمها، هي الأخرى، بالوقوف وراء اغتيالات سياسية داخل تركيا وخارجها. صعّد الأسبوع الماضي من نبرته، ودخل في مسائل أمنية حسّاسة وخطيرة، إذ تحدّث عن مسألة توريطه في نقل السلاح والدعم اللوجستي إلى مجموعات جبهة النصرة في سورية من مؤسسة تركية خاصة، لتقديم الاستشارات والخدمات التجارية، بعدما كان يفعل هو ذلك خدمةً للقوى التركمانية هناك، مضيفاً الإشارة إلى وجود نشاطات تجارية غير مشروعة في مناطق الحدود التركية السورية، تدرّ ملايين الدولارات، لا بدّ من سؤال شخصيات سياسية نافذة عنها.
ما الذي يدفع بكر إلى المغامرة والمقامرة على هذا النحو؟ هل هو تراجع دوره ونفوذه في ساحةٍ قيل إنه كان لاعباً أساسياً فيها؟ هل هو كما تقول قيادات “العدالة والتنمية” يساهم في مؤامرة استهداف تركيا التي تديرها بعض العواصم والأجهزة الاستخباراتية بهدف تسريع المرحلة الانتقالية في البلاد وإزاحة أردوغان وحزبه عن الحكم؟ من الذي سيوقف بكر، وكيف سيفعل ذلك، خصوصاً وأن استطلاعات الرأي المنشورة تتوقف مطوّلاً عند الأضرار التي يلحقها بشعبية الحزب وقناعة الغالبية، وأن ما يقوله لا يمكن الاستخفاف به وتجاهله؟ يهمّ رجال المافيات التقاط الصور التذكارية مع الشخصيات البارزة في الحكم والمعارضة، أو إعلان ارتباطهم السياسي بحركةٍ معينة، بغرض تبييض صفحاتهم، وتلميع صورهم، وإخراج هذه الصور من الأرشيف عند اللزوم. أفرح سادات بكر، وهو يتحدّث عن هذا الكم الهائل من الأمور، جماعات الكيان الموازي والمعارضة التركية، وأسعد حتماً خصوم أردوغان وحزبه في الداخل والخارج، لكنه يعرف أنه أضرم النار بسفن العودة من الإمارات التي فتحت له الأبواب على وسعها. لن تكتفي القيادات السياسية والأمنية، وكذلك القضاء التركي، بما فعلته. وستكون هناك خطة تحرّك متعدّدة الجوانب، للتعامل مع الرجل ومن يديره، لكن سرعة انتشار تسجيلاته، وما يتحدث عنه من قضايا، لا يمكن تجاهلها أيضاً، خصوصاً وأنه استفاد سنواتٍ من إعلان دعمه حزب العدالة والتنمية وتحالف الجمهور، وشارك في تنظيم حملات ومهرجانات شعبية عديدة في هذا الاتجاه، حيث كان يرفع فيها شعار “بوزكورت” للذئب الرمادي الذي تتبنّاه الحركات القومية بيد وشعار رابعة (اعتصام ميدان رابعة العدوية في القاهرة صيف 2013) باليد الأخرى.

تحاول قيادات “العدالة والتنمية” أن تنقل المواجهة إلى منتصف الملعب على الأقل، إذا ما فشلت في نقلها إلى ساحة الطرف الخصم

تستثمر المعارضة بأطيافها وتوجهاتها كافة، سياسياً وشعبياً، في الملفات “أولادنا يقتلون في سورية وليبيا وأولاد آخرين يصبحون أكثر ثراء”، فالذي يقلق حزب العدالة والتنمية وقياداته حتماً في هذه التطورات ليس فقط ما يقوله بكر منذ بدأ نشر فيديوهاته في مطلع الشهر الماضي (مايو/ أيار)، بل نجاحه في جذب أكثر من مائة مليون مشاهد تابعوا ما قاله عبر وسائل التواصل الاجتماعي. ويتحرّك بكر بشكل مدروس ومبرمج، يضع أمامه، وهو يتحدّث، أوراقاً وملفات كثيرة، في إشارة إلى أن جعبته لن تفرغ. أعلن، في شريط قبل أيام، أنه سيخاطب الرئيس أردوغان مباشرة، ويحدّثه عن خطورة ما يقوم به مقرّبون من مستشارين وقيادات سياسية. هو يفعل ذلك بعدما وصل إلى قناعة بأن أردوغان لن يفعل له شيئاً، خصوصاً بعدما وقف إلى جانب وزير داخليته في هذه المواجهة “مع التنظيمات الإرهابية والإجرامية”، والتي يقودها بعضهم من الخارج ضد تركيا وسمعتها ومصالحها. وقد رضي بكر أن يكون في هذه المواجهة أداة ستتقاذفها الأيدي وترميها، بعد انتهاء مفعولها، كما يردّد عديدون من أنصار تحالف الجمهور.
تحاول قيادات “العدالة والتنمية” أن تنقل المواجهة إلى منتصف الملعب على الأقل، إذا ما فشلت في نقلها إلى ساحة الطرف الخصم. أحياناً تتجاهله، وأحياناً تكذّب وتنفي ما يقول، وأحياناً تعده بعقابٍ لا مهرب منه. لكن هناك من يرى أيضاً أن بكر لن يتراجع، ولن يبدّل في أسلوبه. ليس وحده بكر في السفينة التي تتلاعب بها الأمواج. هو سيدفع الثمن، لكن الذين يتحدّث عنهم ويتهمهم لن ينجوا حتماً من ارتدادات ما يُقال: “اعتقالي وسجني لن يغيرا في الحقائق”.

تحمّل بعض الأقلام المقرّبة من الحزب الحاكم مجموعات الدولة العميقة في أميركا وإسرائيل والإمارات مسؤولية المؤامرة ضد أردوغان وتركيا

ما الذي فعله سادات بكر؟ وجّه أصابع الاتهام باتجاه عشرات من الأسماء والشخصيات السياسية والإعلامية والحزبية المحسوبة على حزب العدالة والتنمية، أو المقرّبة منه. لم يتردّد في توريط نفسه في ملفات وقضايا أمنية داخلية وخارجية حساسة، بينها مشاركته في نقل الدعم اللوجستي إلى مجموعات مقاتلة في سورية، ستتركه أمام المساءلة القانونية. دخل في مواجهةٍ شرسة مع مثلث المافيا والإعلام والسياسة، بتهم من العيار الثقيل، على خط أنقرة ــ لفكوشة ــ إدلب. يوسع يوماً بعد آخر دائرة الاستفزاز والهجمات والتحدّي، من دون أن يقول أين سيتوقف.
مع كل شريط، ثمّة مزيد من التصعيد، ومع كل تصعيد ثمة مزيد من الاستفسارات والتساؤلات بشأن ما يجري وأين وكيف ستنتهي المسألة؟ لماذا قرّر “سادات بن زايد”، وهذا اسم أطلقه بعضهم عليه في الداخل التركي، سحب حجر الباطون من وسط الجدار، وهو يعرف خطورة ما يفعله غير عابئ بالنتائج؟ بكر ليس وحده حتماً في كل هذا الحراك. هناك من يدعمه ويموّله ويشجعه على المضي حتى النهاية في ما يفعله، فهو يستهدف مباشرة تحالف الحكم، ويتسبب بأزمةٍ في صفوف القوميين والجماعات التركية المحافظة التي يقول إنه محسوبٌ عليها.
تحمّل بعض الأقلام المقرّبة من الحزب الحاكم مجموعات الدولة العميقة في أميركا وإسرائيل والإمارات مسؤولية المؤامرة ضد أردوغان وتركيا. ولكن حقيقة أخرى تقول إن الملايين هم الذين يتابعون أشرطة بكر، وينتظرون صباح كل أحد ما الذي سيقوله؟ تتمسّك قيادات حزب العدالة والتنمية بالقول إن الانتخابات البرلمانية والرئاسية في موعدها بعد عامين، ولن يكون هناك تغيير في تاريخها، لكن المعارضة تردّد أن تطورات المشهد السياسي والاقتصادي والمعيشي في البلاد هي التي ستحسم الأمور. ما يفعله سادات بكر قد يخدم أهداف المعارضة بهذا الاتجاه. كيف سيتصرّف حزب العدالة؟ هل سيتمسّك فعلاً بمن يشهّر سادات بكر بهم من رموز حزبية أو سياسية أم أنه سيعطيه ما يريده، ويدخل في عملية تصفياتٍ وتغييراتٍ جذرية في بنية الحزب وقياداته؟ أم هو سيفاجئ بكر بعملية أمنية استخباراتية، تعيده إلى الحضن التركي؟

سمير صوالحة

العربي الجديد