منذ وصول حزب العدالة والتنمية والرئيس رجب طيب أردوغان إلى الحكم في تركيا قبل نحو 18 عاماً بدأت العلاقات التركية الإسرائيلية تتراجع تدريجياً حتى وصلت إلى أدنى مستوياتها تاريخياً على الإطلاق في السنوات الأخيرة. وعلى الرغم من الانتقادات الموجهة لتركيا بأنها لم تقدم على الكثير من الخطوات العملية ضد إسرائيل، إلا أنها تصدرت بالفعل أشد المواقف الدولية المنددة بإسرائيل في كافة المحافل الدولية وصولاً لوصفها بدولة “الاحتلال والإرهاب والتمييز العنصري والفاشية والعنصرية”، وغيرها من الأوصاف.
لكن في الأشهر الأخيرة، بدأت الدبلوماسية التركية حملة واسعة من أجل إعادة تحسين العلاقات مع الكثير من الدول حول العالم في مسعى لفتح صفحة جديدة بعد سنوات من استخدام القوة الخشنة والتدخلات العسكرية الخارجية التي أكسبت تركيا انجازات في ساحة مختلفة لكن رافقها توترات وأزمات دبلوماسية أضعفت من تحالفات تركيا في صراع شرق المتوسط. وإلى جانب مساعي إعادة تحسين العلاقات مع مصر والسعودية والإمارات والاتحاد الأوروبي وغيرها من الأطراف، كانت تسير الدبلوماسية التركية باتجاه ترتيب العلاقات مع الإدارة الأمريكية الجديدة إلى جانب إعادة إصلاح العلاقات مع إسرائيل.
في الأشهر الأخيرة، بدأت الدبلوماسية التركية حملة واسعة من أجل إعادة تحسين العلاقات مع الكثير من الدول حول العالم في مسعى لفتح صفحة جديدة بعد سنوات من استخدام القوة الخشنة والتدخلات العسكرية الخارجية
وسعت أنقرة بدرجة أساسية إلى محاولة تحييد الخلافات في الكثير من الملفات مع تل أبيب والتركيز على ملفات الاتفاق والتعاون لا سيما فيما يتعلق بملف الغاز والنفط في شرق المتوسط وإمكانية العمل على مشاريع مشتركة لتصدير الغاز إلى أوروبا ومحاولة خلق توازن في العلاقات يُمكّن من ربط المصالح الثنائية بتقديم بعض الخدمات والتسهيلات للشعب الفلسطيني.
وبينما كانت تسير الأمور في هذا الاتجاه، كثفت إسرائيل اعتداءاتها على مدينة القدس المحتلة وحي الشيخ جراح قبل أن تتحول إلى مواجهة شاملة في قطاع غزة ارتكبت خلالها القوات الإسرائيلية انتهاكات واسعة ضد الفلسطينيين، وهو ما فجر ردود فعل تركية قوية كانت الأشد ضد إسرائيل على المستوى الدولي وحتى العربي. وقال الرئيس أردوغان في أحد تصريحاته مؤخراً “لم أكن ولن أكون يوماً صديقاً لنتنياهو”.
وبعدما خمدت أصوات المدافع، عادت تركيا للتأكيد على أن مشكلتها ليست مع إسرائيل كدولة وإنما مع تصرفاتها وممارساتها القمعية ضد الشعب الفلسطيني، وأشار أكثر من تصريح رسمي إلى أن تركيا ما زالت مستعدة لتحسين العلاقات مع إسرائيل في حال تخلت عن ممارساتها القمعية ضد الشعب الفلسطيني، كما ربط كثيرون بين تحسن العلاقات وتغير الحكومة الإسرائيلية برئاسة بنيامين نتنياهو حيث تحولت الأزمة إلى ما يشبه العداء الشخصي المباشر بين نتنياهو وأردوغان، وهو ما دفع الكثير من المحللين للاعتقاد بأن الإطاحة بنتنياهو ووصول حكومة إسرائيلية جديدة يمكن أن تمهد بالفعل لتحسين العلاقات بين البلدين.
أشار أكثر من تصريح رسمي إلى أن تركيا ما زالت مستعدة لتحسين العلاقات مع إسرائيل في حال تخلت عن ممارساتها القمعية ضد الشعب الفلسطيني
وقبل أيام، قال وزير الخارجية التركي مولود جاوش أوغلو إنه أيا كانت الحكومة التي ستتشكل في إسرائيل، عليها التخلي عن السياسات الخاطئة إن كانت ترغب في علاقات جيدة مع تركيا، موضحاً: “ليس المهم من سيشكل الحكومة في إسرائيل إنما المهم نوع السياسة التي ستتبعها، وأيا كان شكل الحكومة عليها التخلي عن السياسات الخاطئة في المقام الأول إن كانت ترغب في علاقات جيدة معنا”.
وقدم الوزير التركي خمسة شروط لتحسين العلاقات بين البلدين، ومنها: “وقف الاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيين، والتراجع عن الخطوات التي تستنزف حل الدولتين، والعودة إلى مباحثات السلام مجددا ووقف بناء المستوطنات غير الشرعية وسلب الأراضي الفلسطينية والكف عن الإجراءات التي تهدف إلى تغيير الوضع القائم في القدس”، معتبراً أن “تراجع إسرائيل عن سياساتها الخاطئة سيساهم في تحسين علاقاتها مع دول كثيرة، وليس تركيا فحسب”.
وبالتزامن مع ذلك، نقلت صحيفة “يسرائيل هيوم” الإسرائيلية عما قالت إنه مسؤول تركي رفض الكشف عن اسمه، قوله إن بلاده ترغب في إقامة علاقات جيدة مع إسرائيل، لكن مشكلتها مع القيادة الإسرائيلية الحالية، وقال المسؤول: “نحن نرغب بعلاقات جيدة مع إسرائيل، كما أشار الرئيس (رجب طيب) أردوغان بوقت سابق، ومشكلتنا هي مع القيادة في إسرائيل. نحن نرغب باستئناف تطبيع العلاقات بعد إقامة الحكومة الجديدة”.
كما نقلت صحيفة “حرييت” التركية عن مصدر تركي ذكره لنفس الشروط التي عددها وزير الخارجية لإعادة تحسين العلاقات وهي: “العودة الى عملية السلام مع الفلسطينيين، ووقف الاعتداءات على الشعب الفلسطيني، والتوقف عن اتخاذ خطوات تمس بحل الدولتين”، والتوقف عن المساس بالوضع القائم في المسجد الأقصى، والتوقف عن الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية”.
ولولا التصعيد الأخير الذي استدعى رداً تركيا على إسرائيل، فإن أنقرة كانت بالفعل ترغب في تحسين العلاقات في إطار محاولاتها لتقليل الخلافات مع العديد من الأطراف في المنطقة، ضمن مساعي إضعاف التحالف المناوئ لها في شرق المتوسط وعدم إعطاء الفرصة لليونان لتجييش إسرائيل ومصر ودول أخرى ضدها في هذا الملف الاستراتيجي والحساس.
وفي الأشهر الماضية، جرت جهود دبلوماسية في الخفاء، وسط أنباء عن وساطة أذربيجانية بين أنقرة وتل أبيب، كما تسربت أنباء عن اتصالات على المستوى الاستخباري، وعاد الحديث عن إمكانية إجراء اتصالات سياسية أرفع خلال الفترة المقبلة مع الأنباء عن دعوة تركيا لوزير الطاقة الاستراتيجي للمشاركة في مؤتمر كان من المقرر أن يعقد قريباً في أنطاليا بتركيا، قبل إلغاء الدعوة على خلفية تفجر الأوضاع في الأراضي الفلسطينية.
ويبقى احتمال تحسن العلاقات بالفعل في المرحلة المقبلة مرهونا بدرجة أساسية بالإطاحة فعلياً بنتنياهو وتشكيل حكومة إسرائيلية جديدة تكون لديها توجهات حقيقية بتخفيض التصعيد في الأراضي الفلسطينية ومنفتحة على الاتصال مع تركيا، وإلا فإن تغيير الحكومة مع استمرار التصعيد وخاصة في القدس سيفشل أي مساع لتحسين العلاقات التي لن تتمكن من العودة إلا في أجواء من خفض التصعيد في الأراضي الفلسطينية واستئناف عملية السلام.
القدس العربي