على الإدارة الأمريكية اتخاذ مقاربة ثلاثية المسارات، هي: العمل على تحقيق الاستقرار في غزة من خلال توفير صيغة لإعادة الإعمار بدون إعادة تسلّح «حماس»، ودعم “السلطة الفلسطينية” من خلال مساعدتها على بناء المصداقية عبر تقديم المساعدة المشروطة بالإصلاح، والتوسط في التواصل العربي مع إسرائيل من أجل تغيير الوقائع بين إسرائيل والفلسطينيين.
تفرض قضايا الشرق الأوسط نفسها دائماً على الرؤساء الأمريكيين وإداراتهم، والرئيس جو بايدن هو الأدرى بذلك. فمن خلال إجرائه ست مكالمات هاتفية مع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ومكالمات مع رئيس “السلطة الفلسطينية” محمود عباس، والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، أدرك بايدن، مهما كانت آماله، أنّ انخراطه الشخصي كان ضرورياً للمساعدة في التوصل إلى وقف إطلاق النار. وبينما لم تكن الرحلة إلى الشرق الأوسط مدرجة على جدول أعمال وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن هذه المرة، إلّا أنه شعر بضرورة التوجّه إلى المنطقة لدعم وقف إطلاق النار وتلبية الاحتياجات الإنسانية وإعادة الإعمار في غزة، ورسم مسار دبلوماسي لإدارة العلاقات الإسرائيلية-الفلسطينية والالتزام مجدداً بحلّ الدولتين للشعبين.
كّوني من الأشخاص الذين تفاوضوا مع الطرفيْن على مدى عقود، أعلم أن كل مهمة من هذه المهام تترافق مع تحدياتها الخاصة. ومن المفارقات، أن أقلها صعوبة هو دعم وقف إطلاق النار. وصحيحٌ أنه لم يُتفَق خلاله على شيء سوى التوقف عن استخدام الأسلحة النارية، ولكن في الواقع، كان للطرفين أسباب للتوقف. كانت «حماس» تدفع ثمناً باهظاً على صعيد بنيتها التحتية العسكرية وحققت بالفعل ما خططت للقيام به: جعل إسرائيل تدفع الثمن رداً على أحداث القدس، وجعل «حماس» محور القضية الفلسطينية أكثر من “السلطة الفلسطينية” في الضفة الغربية. ومن جانبها، نجحت إسرائيل عسكرياً أيضاً فيما خططت لتحقيقه بفضل الغارات الجوية: فقد دمرت منشآت إنتاج الصواريخ الخاصة بحركة «حماس»، وجزءاً مهماً من شبكة أنفاق الحركة التي تحمي أسلحتها ومقاتليها ووسائل استخباراتها وحتى بعض قادتها. وفي أحسن الأحوال، سيؤدي المزيد من الغارات إلى تراجع العائدات في وقتٍ بدأ فيه الرأي العام الدولي يتجه بقوة ضد إسرائيل. ومع ذلك، حتى عندما يصب وقف إطلاق النار في مصلحة كلا الجانبين، إلّا أنه لا يحدث بالضرورة من دون وسيط وتدخل خارجي – وقد لعبت مصر وإدارة بايدن هذا الدور لخلق غطاء وضغط وتفسير لكليهما.
وماذا عن تلبية الاحتياجات الإنسانية وإعادة الإعمار؟ قبل تعرض مدير عمليات وكالة “الأونروا” في غزة، ماتياس شمالي لانتقادات لاذعة بسبب قوله الحقيقة، أقر بأن الغارات الإسرائيلية كانت دقيقة رغم وحشيتها، وأنه بفضل بقاء معبر “كرم أبو سالم” مفتوحاً، لم يكن هناك نقصٌ في الغذاء أو الوقود أو الأدوية في غزة. ومع ذلك، كانت هناك حاجة ماسة لإعادة الإعمار، مع تشرُد 77,000 شخص إضافي من سكان غزة، وحاجة ماسة لإصلاح البنى التحتية بشكل عام، وشبكات المياه والصرف الصحي بشكل خاص وإعادة بنائها. ويبرز هنا تحدٍ حقيقي: كيف يمكن إعادة إعمار غزة ومنع «حماس» من الاستيلاء على المواد [التي تُجلب لغرض الإعمار] لإعادة تسلّحها. وأقر وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن بهذه المشكلة، وشدّد حين كان في القدس قائلاً: “سنعمل مع شركائنا… من أجل ضمان عدم استفادة «حماس» من مساعدات إعادة الإعمار”.
لن يكون ذلك سهلاً. لقد جرت محاولة مماثلة في أعقاب النزاع الذي حدث في عام 2014، باستخدام “آلية إعادة إعمار غزة”، إلّا أنها باءت بالفشل. وصحيحٌ أن التعهدات المرتبطة بأموال إعادة الإعمار لم يتم الوفاء بها، ولكن كان يعود ذلك جزئياً على الأقل إلى الفشل في منع تحويل المواد [إلى أغراض عسكرية] وتعزيز «حماس» عسكرياً. ولفهم نطاق الفشل ومستوى الجهد الذي بذلته «حماس» لإعادة التسلّح، لا بد من أخذ ما يلي في عين الاعتبار: في بداية نزاع عام 2014 الذي دام واحداً وخمسين يوماً، كان لدى «حماس» ما يقرب من 10,000 قذيفة، وأطلقت 4,500 منها، بينما اعترضت إسرائيل حوالي 2,200 – مما يعني أن «حماس» احتفظت بحوالي 3,300 قذيفة في النهاية. وفي عام 2021، كان لدى «حماس» 30,000 قذيفة في بداية الهجمات، وأطلقت 4,350 منها في غضون عشرة أيام. ولم يزداد هذا العدد ثلاث مرات فحسب، بل أصبحت قذائف «حماس» أطول مدى وذات شحنة متفجرة أكبر تأثيراً – وكانت الحركة قادرة على إطلاق المزيد [من القذائف] بشكل كبير يومياً. لكن لم ينحصر ذلك في مجرد بناء ترسانتها. ففي عام 2014 أرسلت إسرائيل قواتها على الأرض ودمرت 32 نفقاً، بما فيها 14 نفقاً للتسلل من غزة إلى إسرائيل. وفي عام 2021، أفاد “الجيش الإسرائيلي” بأنه دمر ما يقرب من 60 ميلاً من شبكة أنفاق «حماس»، وهو ما أشار إليه “الجيش الإسرائيلي” باسم “المترو”. لكنه لم يكن نظام قطار أنفاق حيث كان يهدف إلى حماية «حماس» وليس سكان غزة.
وبالنسبة لغزة حيث بلغت نسبة البطالة 50 في المائة واعتماد 80 في المائة من الناس على المساعدة من “الأمم المتحدة” قبل بدء النزاع [الأخير]، لا بدّ من التفكير في كل ما استُهلك من الأسمنت والفولاذ والأسلاك الكهربائية والأخشاب لبناء هذه الشبكة تحت الأرض – حيث أن الـ 60 ميلاً هي فقط جزء مما بنته «حماس». (يدّعي زعيم «حماس» في غزة، يحيى السنوار، أنه لم يتم تدمير سوى 5٪ من الأنفاق). أما فوق الأرض، فحتى قبل هذا النزاع (الذي دمّر 1,100 مبنى وألحق أضراراً بأكثر من 7,000)، كانت غزة تعاني من حاجة ماسة إلى الإعمار والاستثمار وتوفير فرص العمل. لكن هذا لم يكن مصدر قلق «حماس» أو أولويتها – بل كانت أولويتها هي استعادة ترسانتها واستخدام مقاتليها لإعادة بناء وتوسيع شبكة أنفاقها.
لذلك، ليس هناك شك من الحاجة إلى بذل جهد دولي من الأفضل أن تترأسه الولايات المتحدة ليس فقط لجمع الأموال، بل أيضاً لوضع آلية دولية للإشراف على ما يدخل إلى غزة، ونقله إلى المستودعات، ومن ثم استخدامه النهائي في مواقع البناء. وبخلاف ما كان يحدث سابقاً، يمكن أن تلعب مصر دوراً حيوياً على الحدود. وبمساعدة دولية، بإمكان مصر تحويل معبر رفح، الذي لا يُستخدم حالياً سوى لعبور الناس، وجعلِه نقطة تلاقٍ مركزية إلى جانب المعابر من إسرائيل بهدف إجراء فحص شامل لجميع المواد الداخلة إلى غزة. وسيكون لجميع الشاحنات التي تنقل المواد مسارات محددة، وستزوَّد بأجهزة تعقُّب تعمل بنظام تحديد المواقع العالمي “جي بي أس”، وستحتاج جميع المستودعات المخصصة للمواد القادمة للقطاع إلى كاميرات لمراقبتها على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع. ويجب أن تخضع جميع التحركات من نقطة المعبر إلى المستودع ومن المستودع إلى موقع البناء لرقابة فريق متعدد الجنسيات – حيث يتولّى بعض الأفراد المراقبة على الأرض في غزة، ويتولّى آخرون، ربما من بينهم أمريكيون، المراقبة الإلكترونية من الخارج. وإذا كان هناك أي تحويل للمواد [لأغراض عسكرية]، فستتوقف العملية ببساطة، بما في ذلك نقل أي مواد بناء إضافية.
وستقاوم «حماس» هذا الأمر، ولكن إذا فعلت ذلك، فستصبح القضية مسألة إعادة إعمار غزة مقابل إعادة تسليح «حماس». وحين تتم صياغة القضية بمصداقية على هذا النحو، يزداد الثمن الذي يتوجب على «حماس» دفعه في غزة وفي المنطقة وعلى المستوى الدولي. وعلاوةً على ذلك، هذه ليست مسألة صياغة فحسب، بل تحمل طابعاً عملياً بشكل أساسي. فمن دون فرض شروط صارمة، لن تأخذ إعادة الإعمار منحًى جاد: إذ لن يستثمر أحد بشكل كبير في إعادة الإعمار إذا تمكنت «حماس» من تحويل المواد، وإعادة بناء ترسانتها، وإشعال الحرب عندما تناسب أهدافها المتمثلة في السيطرة على الحركة الوطنية الفلسطينية. وكما أثبتت «حماس» مجدداً، إذا اعتقدت أن بإمكانها تحقيق مكاسب سياسية، فهي لا تأبه كثيراً بالثمن الذي سيتكبده الفلسطينيون في غزة. وتتفوق «حماس» في التسبب بقتل الفلسطينيين ولكنها لا تتفوق في الدفاع عن قضيتهم.
يذكّرنا ذلك بأننا يجب أن نحاول أيضاً دعم “السلطة الفلسطينية” وبذل المزيد من الجهود لمساعدتها على النجاح اقتصادياً. يجب أن يكون لأي جهد دولي من أجل غزة عنصر مساعدة للضفة الغربية – وهو أمر أثاره الوزير بلينكن خلال رحلته. وعلى غرار الشروط التي يجب وضعها لضمان عدم قيام «حماس» بتحويل المواد في غزة [لأغراض عسكرية]، يجب ربط المساعدة المباشرة لـ “السلطة الفلسطينية” بإصلاحات حقيقية على صعيد الشفافية وسيادة القانون. وفي ظل غياب عملية الإصلاح، يجب أن تقتصر المساعدة الأمريكية للضفة الغربية على المشاريع التي من شأنها أن تفيد الفلسطينيين (خاصة الطرق، والمياه، ومعالجة الصرف الصحي، والصحة) ولكن من دون أن تُدار من قبل “السلطة الفلسطينية”.
أخيراً، يجب توجيه الدبلوماسية الآن نحو قيام تعاون عملي يومي بين إسرائيل و”السلطة الفلسطينية”. وفي هذه المرحلة، لن تحرز المحادثات المباشرة حول قضايا الوضع الدائم أي تقدم – فالسياسة في كل جانب، والفجوات الحقيقية فيما يتعلق بجوهر الموضوع، وعدم تصديق الجماهير، تضمن عدم تحقيق أي شيء. ولكن يجب بذل جهد للاستفادة من عملية التطبيع، من خلال [حثّ] المزيد من الدول العربية على التواصل مع إسرائيل مقابل اتخاذ إسرائيل بعض الخطوات تجاه الفلسطينيين. وقدّمَ النموذج الإماراتي تطبيعاً كاملاً مقابل عدم الضم – وبالطبع الالتزامات الأمنية الرئيسية من الولايات المتحدة للإمارات. فلماذا لا يُحتذى بهذا النموذج ويتم البحث بهدوء في لائحة من الخيارات مع السعوديين حول الخطوات التي يمكن أن يتخذوها تجاه إسرائيل؛ خطوات سيلتمسون من الإسرائيليين اتخاذها تجاه “السلطة الفلسطينية” والالتزامات التي قد يريدونها من الولايات المتحدة. (أحد الاحتمالات قد يكون اتخاذ خطوة تطبيع جزئي مثل فتح مكتب تجاري سعودي في تل أبيب مقابل عدم قيام إسرائيل بالبناء على 92 في المائة من الأراضي إلى الشرق من الجدار الأمني أو خارج الكتل الاستيطانية؛ يجب أن يكون الفلسطينيون جزءاً من أي سمسرة من هذا القبيل لخطوات متوازية، وأن تنهي السلطة الفلسطينية مدفوعات الرعاية الاجتماعية التفضيلية والمرتفعة لعائلات أولئك الموجودين في السجون الإسرائيلية لارتكابهم أعمال عنف ضد الإسرائيليين).
نعم، إن السياسة في إسرائيل قد تجعل حتى تجميد البناء خارج الكتل الاستيطانية أمراً صعباً نظراً لمعارضة المستوطنين، لا سيما في ظل قيام حكومة وحدة جديدة اتفقت على عدم محاولة حل بعض القضايا مثل مسائل الفلسطينيين التي يختلف عليها أعضاؤها. لكن هناك نقطتان تستحقان التطرق إليهما: أولاً، أظهر النزاع مع «حماس» أنه لا يمكن تجاهُل القضية الفلسطينية وأنها قد تؤثّر على الإسرائيليين داخلياً – مما يعني أن الحكومة الجديدة ستحتاج إلى سياسة [بهذا الشأن]. ثانياً، على الرغم من معارضة بعض المستوطنين [للتطبيع مع بعض الدول العربية]، إلّا أن 80 % من الإسرائيليين أيّدوا التطبيع مع الإمارات بدلاً من ضم الأراضي المخصصة لإسرائيل بموجب خطة ترامب. وخلال النزاع الأخير، بينما أدانت الإمارات والدول الأخرى التي عقدت سلام مع إسرائيل خطواتها في القدس (تماماً كما فعلت مصر والأردن)، إلّا أياً منها لم تتخذ أي إجراءات أخرى رداً على القتال مع «حماس» – مما يعكس مواقفها تجاه «حماس» والقيمة التي توليها للاتفاقات مع إسرائيل. (وعلى وجه الخصوص، في 31 أيار/مايو أنهت إسرائيل والإمارات معاهدة ضريبية، تمنع الازدواج الضريبي، بعد وقف إطلاق النار). وتغدو عملية التطبيع العنصر الجديد الوحيد في المنطقة الذي يمكن استخدامه لكسر الجمود بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وسيكون من مصلحة الحكومة الإسرائيلية الجديدة تحقيق شيءٍ يتجاوز ما كان نتنياهو قادراً على فعله.
إذا أثبتت الأسابيع القليلة الماضية شيئاً، فهو أن القضية الفلسطينية لن تختفي. ولا تريد إدارة بايدن أن يستنفد الشرق الأوسط قواها، ولكنها تحتاج أيضاً إلى القيام بما يكفي لإدارة ما يحدث في المنطقة لتجنب انجرارها إليها، في ظل ظروفٍ توفّر خياراتٍ أسوأ بتكاليف أعلى. ويدفع ذلك إلى اتّباع نهج ثلاثي المسارات: أولاً، العمل على تحقيق الاستقرار في غزة من خلال توفير صيغة لإعادة الإعمار بدون إعادة التسلّح ومع آلية إشراف؛ ثانياً، دعم “السلطة الفلسطينية” من خلال مساعدتها أيضاً على بناء المصداقية عبر تقديم المساعدة المشروطة بالإصلاح؛ ثالثاً، التوسط في التواصل العربي مع إسرائيل من أجل تغيير الوقائع بين إسرائيل والفلسطينيين عندما لا يؤمن أحد أنه يمكن تحقيق الكثير. هذا هو جدول الأعمال الذي يجب أن تتبعه إدارة بايدن الآن.