تتجه الأنظار إلى الاجتماع المرتقب بين الرئيسين التركي والأمريكي، أردوغان وبايدن، في 14 أيار الجاري في بروكسل، على هامش قمة حلف شمال الأطلسي.
تكمن أهمية اللقاء في أنه الأول بين الرجلين منذ بداية عهد بايدن، وبالنظر إلى انتفاخ ملف الخلافات المعلنة بين البلدين منذ سنوات. لكن الرجلين يعرفان أحدهما الآخر جيداً، لأن بايدن قام بزيارة تركيا في عهد باراك أوباما حين كان نائباً لهذا الأخير، في العام 2014، وله تصريحات كثيرة أثارت استياء أردوغان خلال السنوات الماضية. وانتظر أردوغان مطولاً اتصالاً هاتفياً من نظيره الأمريكي، رداً على تهنئته له ببدء ولايته كما تقتضي الأعراف الدبلوماسية، لكن بايدن لم يتصل إلا قبل يوم واحد من الذكرى السنوية للمأساة الأرمنية ليعلم أردوغان بأنه سيلقي كلمة، في اليوم التالي، يسمي فيها تلك المأساة بالإبادة العرقية. وهو ما حدث فعلاً في اليوم التالي.
صحيح أن الموضوع الأرمني هو موضوع تاريخي لا علاقة له بموضوعات الخلاف الساخنة بين البلدين، لكن جريان الأمور بهذه الطريقة يشير إلى فتور أمريكي كبير تجاه أنقرة، وينطوي على صعوبة ما ينتظر الرجلين في لقائهما المرتقب. فعلى رغم أن البلدين حليفان في إطار حلف شمال الأطلسي، فهما يختلفان في طيف واسع من القضايا بدءًا بموضوع صواريخ إس 400 التي اشترتها أنقرة من موسكو، ضاربةً عرض الحائط كل تحذيرات الولايات المتحدة وقيادة الحلف، مروراً في سوريا حيث يقف الطرفان على خندقين متعارضين وتبدو أنقرة أقرب فيها إلى موسكو، لتمتد إلى ليبيا والنزاع الأرمني – الآذري، والنزاع متعدد الأطراف في شرقي البحر المتوسط، وقضايا أخرى ثنائية. وتأخذ أنقرة على واشنطن تحالفها مع «قوات سوريا الديمقراطية» وعمودها الفقري «وحدات حماية الشعب» الكردية التي تعتبرها أنقرة فرعاً سورياً لحزب العمال الكردستاني، ومنظمة إرهابية تبعاً لذلك. في حين تفصل واشنطن بين «الكردستاني» المصنف إرهابياً على القائمة الأمريكية، و«الوحدات» و«قسد» اللتين هما حليفتاها في الحرب على «داعش». وتدعم الولايات المتحدة «قسد» بالمال والسلاح، في حين قامت أنقرة بعدة عمليات عسكرية داخل الأراضي السورية في حربها على القوات الكردية، وانتزعت منها منطقتي عفرين و«نبع السلام» الممتدة بين تل أبيض ورأس العين في عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب.
وتأخذ عليها أيضاً عدم وقوفها بوضوح مع الحكومة التركية ضد المحاولة الانقلابية التي جرت في الخامس عشر من شهر أيلول 2016، كما بامتناعها عن تسليم الداعية الإسلامي فتح الله غولن الذي تتهمه أنقرة بتدبير المحاولة الانقلابية المذكورة، بل العكس هو ما حدث، في رأي أنقرة، حين أخذت واشنطن بانتقاد حملة الاستئصال ضد حركة غولن بما يتجاوز الأطر القانونية. أما المآخذ الأمريكية على تركيا فهي، إلى الخلافات المذكورة في أول المقال، تشمل قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان التي توليها إدارة بايدن أهمية صريحة في علاقاتها مع حلفائها التقليديين.
تأخذ أنقرة على واشنطن تحالفها مع «قوات سوريا الديمقراطية» وعمودها الفقري «وحدات حماية الشعب» الكردية التي تعتبرها أنقرة فرعاً سورياً لحزب العمال الكردستاني، ومنظمة إرهابية تبعاً لذلك
ويوم أمس كان وزير الخارجية أنطوني بلينكن في جلسة استماع أمام لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس، يرد على انتقاد أعضائها بشأن العلاقة مع تركيا قائلاً: «إن تركيا لا تتصرف كحليف في حلف الناتو». لكنه أكد، بالمقابل، على أهمية التعاون مع تركيا في «مكافحة الإرهاب، وأفغانستان، وفي مواجهة الآثار المؤذية لسياسات روسيا وإيران». أما في رده على مطالبات أعضاء اللجنة بممارسة الضغط على تركيا في قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان، فقد أكد بلينكن على أن هذه المواضيع ستكون على الطاولة في لقاء الرئيسين بايدن وأردوغان.
لاحظنا أن بايدن يتعامل مع هذا الموضوع بجدية، وظهر ذلك بوضوح في العلاقة مع روسيا والصين والسعودية. صحيح أنه قدم اختباراً فاشلاً، بهذا الخصوص، في الحرب الإسرائيلية على غزة حين انحاز بوضوح لإسرائيل المعتدية، ولكن من الواضح أن موضوع الديموقراطية وحقوق الإنسان سيشكل أداة حاضرة باستمرار في السياسة الخارجية لإدارة بايدن. في الجانب التركي يمكن ملاحظة رغبة واضحة في تذليل العقبات لإرساء أسس علاقات إيجابية مع الإدارة الأمريكية الجديدة، وإن كان ذلك واضح الصعوبة. فبعد أربع سنوات من العلاقة الشخصية مع ترامب التي شكلت مظلة حماية للحكومة التركية من تداعيات القضايا الخلافية، يدرك أردوغان أن بايدن يختلف عن سلفه، وستكون العلاقات بين البلدين علاقة مؤسسية لا شخصية، بخاصة لأن هذه الأخيرة قائمة على النفور المتبادل بشكل مسبق. فلا مفر إذن من مواجهة الخلافات بصراحة، والعمل على تنمية مساحات التوافق.
إنما في هذه النقطة سبق اجتماع القمة خبر توافق الطرفين على أن تقوم قوات تركية بحماية مطار كابول، بعد انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان. هذه فرصة لتركيا وسط استمرار قضايا الخلاف، ربما يمكن وصفها ببادرة حسن نية من إدارة بايدن. فهي نوع من الاعتراف الأمريكي بدور إقليمي لتركيا من شأنها أن تغطي على تراجع شعبية حزب العدالة والتنمية باطراد كما تفيد استطلاعات الرأي الدورية. من المحتمل أن واشنطن تنتظر من أنقرة، بالمقابل، مبادرات بشأن إيجاد مخرج للصواريخ الروسية، إما بـ«دفنها» أي التعهد بعدم استخدامها، أو ببيعها إلى دولة ثالثة. وفي يد بايدن، للضغط بهذا الاتجاه، ملف سجل تركيا في ميدان الديمقراطية وحقوق الإنسان. ما يمكن اعتبارها إشارات إيجابية من تركيا تمهيداً لاجتماع القمة في بروكسل، خفضها للتوتر في شرقي البحر المتوسط وفي العلاقة الثنائية مع اليونان، وتراجع حدة الانتقادات التركية لواشنطن، بما في ذلك ردها «المحسوب» على اعتراف الرئيس الأمريكي بالإبادة الأرمنية.
لكن الغريب أن أنقرة لم تظهر أي حماسة لتحسين سجلها في الديموقراطية وحقوق الإنسان. بل صدرت قرارات معاكسة لذلك في الأيام القليلة الماضية، أهمها العودة إلى محاولات حظر نشاط حزب الشعوب الديمقراطي، وامتناعها عن الاستجابة لقرارات المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بشأن إطلاق سراح كل من صلاح الدين دمرتاش، الرئيس السابق للحزب المذكور، وعثمان كافالا رجل الأعمال والناشط المدني المعروف.
أضف إلى ذلك إفشاءات زعيم المافيا سادات بكر عبر قناته على شبكة يوتيوب التي يتابعها الأمريكيون باهتمام، ومن شأنها أن تضعف موقف أردوغان في اجتماعه مع بايدن.
بكر صدقي
القدس العربي